الدكتور كريم عيار صاحب الطوفي

   لقد وضع علماء الأصول والمقاصد عدة تقسيمات للمصلحة، كل تقسيم ينظر إليه من زاوية خاصة واعتبار معين؛ لكن يبقى التقسيم الأساس الذي ينبغي أن يحظى بالاهتمام أولا، أو لنقل الذي ينبغي أن يقصد أصالة، هو تقسيمها بحسب اعتبار الشرع لها؛ لأنه المعتبر في التنظير الأصولي، والذي يتوقف عليه إدراك موقف هذا الشرع منها؛ بل إن عبارته تدل على أهميته. وبذلك فهذا التقسيم يخول لنا تمييز المصلحة المقبولة عن المردودة شرعا، أي ما يصطلح عليه بالمصلحة الشرعية التي يجوز فقهيا الاحتجاج بها؛ بينما التقسيمات الأخرى، مقصودة تبعا؛ لأنها تشتغل على أنواع المصلحة عموما بغض النظر عن معيار اعتبار الشرع لها، إذ لا يتوقف عليها معرفة موقف الشرع منها أخذا أو ردا، ولكنها تزيد من إيضاح مفهوم هذه المصالح تعريفا وتفريعا، وتجلي طبيعتها وتفاصيلها؛ لأن تعريف المصطلحات كما يكون بالحد أو بالرسم يكون أيضا بالتقسيم، أو على الأقل يزيدها وضوحا وجلاء.

   وفي هذا السياق، فمجمل الكتابات الأصولية في تقسيم المصلحة بهذا الاعتبار، كادت أن تجمع على تقسيمها تقسيما ثلاثيا، أي المصلحة المعتبرة والمصلحة الملغاة والمصلحة المرسلة؛ لكن بموازاة ذلك، نجد كتابات أخرى لا يستهان بها -لأنها صادرة عن أعلام كبار في التأليف الأصولي والمقاصدي- يقسمونها تقسيما أكثر من ثلاثي، بإدخال أنواع أخرى من المصلحة في علاقتها باعتبار الشارع، ومن هؤلاء الإمام الشاطبي. هذا التوسع في تقسيمها له قوته ورجحانه لعدة اعتبارات، منها: 

1- أن هذا التقسيم يصير أكثر موسوعية، بحكم أنه يناقش أنواع المصلحة في علاقتها باعتبار الشارع لها، من كل الجوانب والحيثيات؛ وهذا يمكننا من بناء نسق متكامل عن المصلحة من خلال حصر وضبط مختلف أحوالها وأوجه علاقتها بالنص، أو بما يسمى باعتبار الشارع. فالتقسيم الثلاثي لا يعطي تصورا أو على الأقل منبها عن تلك المصلحة التي هي وصف لا شاهد له بالاعتبار ولا بالإلغاء، لكنه غريب غير ملائم، أو عن تلك المصلحة التي قد يحصل لها في بعض السياقات تعارض مع النص الشرعي ومزاحمة ومخالفة له، وهو سياق قول الحجوي الثعالبي: “فلا يظن بالمالكية أنهم يأخذون بالمصالح المعارضة بالنص، نعم إذا عارضتها مصلحة أخرى يجتهدون في تقديم ما يظهر لهم أنها أقوى كضرب المتهم”[1].

2- أن حصر مجموعة من علماء الأصول تقسيم المصلحة في التقسيم الثلاثي، لا يعني رفضهم مناقشة تقسيمات أخرى لها؛ إذ رغم عناية هؤلاء الأعلام بتقسيمها ثلاثيا في مبحث المصلحة المرسلة، فإن الكثير منهم في مباحث أخرى، خاصة منها مباحث العلة والقياس والأوصاف التي تصلح للعلية، لا يغفل الحديث عن أنواع المصلحة الأخرى في علاقتها بالنص؛ وبذلك فمن باب بناء النسق المتكامل، حري أن يتم تجميع هذه الآراء والجزئيات لبناء التصور الكلي المطلوب عن المصلحة. 

3- أن التقسيم الثلاثي للمصلحة يوحي إلى أن المصلحة المردودة شرعا، هي النوع الثاني فقط، أي التي شهد الشارع بإلغائها، أما التي لم يشهد الشرع بنص جزئي على إلغائها، فهي ليست ملغاة إذا، بل على أصل إرسالها؛ وهذا يفتح لأصحاب العقول المنحرفة والقلوب المريضة بابا عريضا لتسويغ وشرعنة مجموعة من المصالح، أقل ما يقال فيها أنها متوهمة وغريبة؛ باعتبار أن التصنيف الثلاثي لا يسعف بالمباشر في ردها ورفضها، لأنها غير ملغاة، بحكم عدم وجود نص جزئي يبطلها، رغم أن عرضها على النصوص العامة والمبادئ الكلية ومقاصد الشريعة، يوحي إلى منعها وتحريمها. وإذا ما دعت الحاجة إلى تأصيلها على هدي أعلام المقاصد، فحسبنا أن نرجع إلى إمام هذا الفن وعَلَم رايته، الطاهر بن عاشور، إذ في بيانه غُنية، وفي كلامه الحجة البالغة، حيث قصد إلى تسميتها والتنبيه إلى خطورتها بقوله: “المصالح الوهمية هي التي يتخيل فيها صلاح وخير، وهو عند التأمل ضر، لخفاء ضره..، وإما لكون الصلاح مغمورا بفساد”[2]، وهذا صار مقعدا بلغة الفقه والمقاصد من خلال قاعدة “لا عبرة بالتوهم”[3]، وقاعدة “المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه”[4]؛ وبذلك لابد من سد الباب على مثل هؤلاء، من خلال توسيع التقسيم حتى يطال كل أنواع المصلحة، بغرض معالجة مختلف أوجه علاقتها بالنص، أي بالاعتبار الشرعي، موافقة أو مخالفة؛ وهذا لا شك سيتيح استيعابا لكل الأحوال، وبالتالي إيجاد مسالك متينة تمكننا من رد الشبهات والأباطيل التي يبثها أهل الأهواء.

لهذا نجد العلماء سواء المتقدمين أو المتأخرين، يشيرون إلى أن موضوع المصلحة قد يشكل مدخلا لهؤلاء لبث سمومهم، والبحث عن تسويغات لمصالح هي ليست ملغاة بنص شرعي؛ لكنها تخالف من وجه أو أكثر النصوص العامة وكليات الشريعة؛ من المتقدمين نجد الإمام الباقلاني الذي يقول بحسب ما نقله عنه تلميذه الجويني: “إن المعاني إذا حصرتها الأصول وضبطتها المنصوصات، كانت منحصرة في ضبط الشرع؛ وإذا لم يشترط استنادها إلى الأصول لم تنضبط، واتسع الأمر وصار الشرع مرجوعه إلى وجوه الرأي من الناس، من غير اعتماد واستناد إلى أصل شرعي، فيرى كل إنسان وجها، ويعتمد شيئا ما يراه ويعتمده صاحبه، ويصير إذا أهل الرأي في هذا بمنزلة الأنبياء، فيفعل كل إنسان ما يراه ويعتقده صلاحا في المعنى الذي سنح له؛ فيصير بذلك ذريعة إلى إبطال أبهة الشريعة ورونقها، ويذهب طراوتها وبهاءها”[5]؛ ونجد أيضا الجويني يقول: “هذه الفنون في رجم الظنون، ولو تسلطت على قواعد الدين لاتخذ كل من يرجع إلى مسكة من عقل فكره شرعا، ولانتحاه ردعا ومنعا، فتنهض هواجس النفوس حالة محل الوحي إلى الرسل، ثم يختلف ذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة، فلا يبقى للشرع مستقر وثبات”[6]. ومن المعاصرين نجد أبا زهرة حيث يقول في سياق تعريف المصلحة المرسلة: “هي المصالح الملائمة لمقاصد الشارع الإسلامي، ولا يشهد لها أصل خاص بالاعتبار أو الإلغاء، فإن شهد لها أصل دخلت في عموم القياس، وإن شهد لها أصل خاص بالإلغاء فهي باطلة، وبالتالي يكون الآخذ بها معارضا لمقاصد الشريعة”[7]؛ فما يشهد له نص خاص بالإبطال يسمى مصلحة ملغاة، وهذا يفتح المجال للحديث عن ما يشهد له نص عام بهذا الإبطال أيضا، قياسا على مقابل هذين الاثنين، أي المعتبرة التي يشهد لها نص خاص بالاعتبار، والمرسلة التي يشهد لها نص عام بالاعتبار أيضا. ومن المعاصرين أيضا نجد الدكتور محمد خروبات الذي يشير بوضوح إلى تفريق عدد من العلماء بين المصالح الملغاة والمصالح الغريبة[8]، فكما أن المصلحة المرسلة تعد معتبرة بالتنصيص الكلي، فالمصلحة المتوهمة هي أيضا ملغاة بالتنصيص نفسه، وإلا فمن لم ير داع إلى إضافة المتوهمة إلى التقسيم، باعتبار أن إلغاءها متضمن في الملغاة، قلنا له أيضا لا داع بالقياس، إلى إضافة المرسلة، لأن اعتبارها متضمن في المعتبرة، وبالتالي لا يبقى إلا مصلحتان، مصلحة يوجه إليها الشرع ومصلحة يبطلها، وهذا المعنى رغم أنه يحلق خارج السرب إلا أن له من قال به، وخصوصا الإمام الطوفي الحنبلي، الذي يجعل هذه التقسيمات تعسفا وتكلفا، حيث يقول: “اعلم أن هؤلاء الذين قسموا المصلحة إلى معتبرة وملغاة ومرسلة، ضرورية وغير ضرورية، تعسفوا وتكلفوا؛ إذ الطريق إلى معرفة حكم المصالح أعم من هذا وأقرب، وذلك بأن نقول: قد ثبت مراعاة الشارع للمصلحة والمفسدة إجماعا، وحينئذ نقول: الفعل إن تضمن مصلحة مجردة حصلناها، وإن تضمن مفسدة مجردة نفيناها، وإن تضمن مصلحة من وجه ومفسدة من وجه، فإن استوى في نظرنا تحصيل المصلحة ودفع المفسدة، توقفنا على المرجح أو خيرنا بينهما..، وإن لم يستو ذلك، بل ترجح إما تحصيل المصلحة وإما دفع المفسدة فعلناه؛ لأن العمل الراجح متعين شرعا؛ وعلى هذه القاعدة، يتخرج كل ما ذكروه في تفصيلهم للمصلحة”[9].

ثم إن هذا التوسيع المقصود، والمستوعب لأنواع المصالح بحسب ما يقتضيه الاعتبار الشرعي، يحقق بلغة المصالح دون شك، مصلحة علمية ظاهرة المعالم، ثرية المغانم، إذ يقوم على ضبط المفهوم، واستيعاب الصور، ورفع الإشكالات، دون أن يترتب عليه ما يُخشى من المفاسد أو ما يورث خللا في البنية الأصولية للنظر؛ فهو توسع محكوم بضوابط العلم، مأمون العاقبة، فإن لم يكن فيه مزيد نفع على وجه التحقيق، فلا أقل من أن يخلو من الضرر على وجه التدقيق، وذلك غاية ما يطلب في المعالجات الاستقرائية والمناهج الاستدلالية.

4- إضافة إلى كل ذلك، فهذا التقسيم الواسع للمصلحة، يمكن من استيعاب الكثير من قضايا النوازل، فيصير الفقيه الناظر، في الأحكام والمسائل، يمتلك سعة في النظر الفقهي، ودقة في التقدير النوازلي، بحكم ضبطه كل أنواع المصلحة ودرايته بمختلف حالاتها في علاقتها باعتبار الشارع، فيسهل عليه تفهم الوضعيات المصلحية للمكلفين، رغم تعقدها واختلافها البين عن نوازل السابقين، وبالتالي حسن عرضها على الشرع لمعرفة حكمها وحدود القبول بها، فالحكم عن الشيء كما هو معلوم فرع عن تصوره.

      إن التقسيم المقصود للمصلحة هنا، هو ذلكم التقسيم الذي يستوعب كل حالات المصلحة، في علاقتها باعتبار الشارع، لحصر الأوجه التي تقبل فيها والأوجه التي ترد. وإن الحديث عن أنواع المصلحة بحسب اعتبار الشارع، هو نفسه حديث عن أنواعها في علاقتها بالنص الشرعي؛ لأن المصلحة التي شهد الشارع باعتبارها هي المصلحة التي أثبتها النص، والمصلحة التي شهد الشارع بإلغائها هي التي نفاها النص، أما التي لم يشهد لها الشارع باعتبارها أو إلغائها، فهي التي لم يرد فيها نص جزئي دال عليها.

وبذلك يمكن من خلال استقراء آراء العلماء وتقصي أقوالهم حول تقسيم المصلحة بحسب اعتبار الشارع لها، أن نتلمس بعض الرؤى المتقدمة، والتي بدون شك وصلت إلى ما وصلت إليه بالتأسيس على من تقدمها؛ وسأركز هنا على تقسيم الإمام الشاطبي الذي بناه على من سبقه وخاصة الإمام الغزالي. فالإمام الشاطبي اعتمد تقسيما ثلاثيا آل إلى تقسيم رباعي، بحكم أن القسم الثالث جعله على وجهين؛ حيث يرى الإمام الشاطبي أن المعنى المناسب الذي يربط الحكم لا يخلو من ثلاثة أقسام: الأول: أن يشهد الشرع بقبوله، فلا إشكال في صحته، ولا خلاف في إعماله، وإلا كان مناقضا للشريعة؛ الثاني: ما شهد الشرع برده، فلا سبيل إلى قبوله، إذ المناسبة لا تقتضي الحكم لنفسها؛ الثالث: ما سكتت عنه الشواهد الخاصة، فلم تشهد باعتباره ولا بإلغائه، فهذا على وجهين: الوجه الأول: أن يرد النص على وفق ذلك المعنى، كتعليل منع القتل للميراث، فالمعاملة بنقيض المقصود تقديرا لم يرد نص على وفقه، فإن هذه العلة لا عهد بها في تصرفات الشرع للفرد، ولا يلائمها بحيث يوجد لها جنس معتبر، فلا يصح التعليل بها ولا بناء الحكم عليها باتفاق؛ الوجه الثاني: أن يلائم تصرفات الشرع، وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين، وهو الاستدلال المرسل، المسمى بالمصالح المرسلة[10].  

إن رأي الشاطبي هذا نجد جذوره تمتد إلى أعلام سابقين عنه، أبرزهم الإمام الغزالي الذي سبق أن قسم المناسب أربعة أقسام -علما أن له تقسيما آخر هو التقسيم الثلاثي المعروف للمصلحة في موضع مغاير-: “مناسب جمع شهادة الأصل والملاءمة فهو حجة باتفاق القائسين؛ ومناسب عدم الملاءمة وشهادة الأصل، فليس حجة بالاتفاق؛ ومناسب شهد له أصل معين، ولكنه غريب لا يلائم؛ ونعني بشهادة أصل معين، أنه مستنبط منه من حيث أن الحكم ثبت شرعا على وفقه؛ ومناسب ملائم لا يشهد له أصل معين”[11]؛ لهذا فالحديث عن ما لا يشهد له نص عام بالإرسال، لن يكون إلا وصفا غريبا غير ملائم للشريعة –وليس ملغى؛ لأن الملغى شهد بإبطاله نص خاص- ولو تم تبريره بدوافع مصلحية، إذ “المصالح المرسلة يرجع معناها إلى اعتبار المناسب الذي لا يشهد له أصل معين، بحيث إذا عرض على العقول تلقته بالقبول، وهذا بعينه موجود في البدع المستحسنة، فإنها راجعة إلى أمور في الدين مصلحية في زعم واضعيها”[12]؛ وهذا ما صار مقعدا بلغة الفقه والمقاصد من خلال قاعدة “كل عمل غلبت مفسدته، مأمور برفعه منهي عنه، وإن لم يكن له شاهد خاص من نصوص الشرع”[13].

   بناء على ما سبق، يمكن أن نستنتج أن المؤلفين في هذا الفن عامة، والشاطبي والغزالي خاصة، عندما تكلموا عن مصطلحي المصلحة المعتبرة والملغاة، فإنما تكلموا عن المصلحة التي شهد لها الشارع، أي نص عليها سواء بالاعتبار أو الإلغاء، في مقابل غيرها التي لم ينص عليها الشارع، والتي تدخل فيها المصلحة المرسلة والغريبة والمعارضة للنص.

وبالتالي يمكن أن نصنف أنواع المصلحة في علاقتها باعتبار الشارع لها ونصه عليها إلى:

  1. مصلحة نص عليها الشارع، أو نقول مصلحة شهد لها الشارع: وهي على قسمين:

أ- مصلحة شهد الشارع باعتبارها: وهي المسماة بالمصلحة المعتبرة:

ويقصد بها المصلحة التي قصد الشارع إلى إثباتها وإقرارها، فاعتبرها إما من خلال إيراد نص شرعي دال عليها وحافظ لها، كشريعة القصاص حفظا للنفوس والأبدان، أو عن طريق اقتباس الحكم من معقول النص والإجماع، ومثاله الحكم على “أن كل ما أسكر من مشروب أو مأكول فيحرم قياسا على الخمر؛ لأنها حرمت لحفظ العقل الذي هو مناط التكليف، فتحريم الشرع الخمر دليل على ملاحظة هذه المصلحة”[14].

ب- مصلحة شهد الشارع بإلغائها: وهي المسماة بالمصلحة الملغاة:

ويقصد بها المصلحة التي قصد الشارع إلى إلغائها، من خلال إيراد نص دال على هذا الإلغاء والإبطال، نظرا لرجحان جانب المفسدة على جانب المصلحة، باعتبار أن “ما من مصلحة إلا وفيها مفسدة ولو قلت على البعد، وما من مفسدة إلا وفيها مصلحة ولو قلت على البعد”[15]، فالمصالح الخالصة التي لا مفسدة فيها لا وجود لها، أو بتعبير العز بن عبد السلام “عزيزة الوجود”[16]، والأمر نفسه بالنسبة للمفاسد الخالصة. لهذا لا يفهم من مصطلح المصلحة الملغاة، أن الشارع ألغى المصلحة بالإطلاق أو أنه يقف ضدها؛ بل ألغى المصلحة القليلة المرجوحة التي تختلط بمفسدة كثيرة وراجحة، باعتبار أن ذلك عين حفظ هذه المصلحة، فليس في ذلك إلغاء أو إهدار للمصلحة؛ لهذا نجده سبحانه قد صرح مثلا في آية الخمر، أن في الخمر والميسر مفاسد ومصالح، ولكن جانب المفسدة كثير وعام، بينما منافعهما قليلة وفردية، فأهمل جانب المنافع القليلة الخاصة، دون أن يلغيها مطلقا، قال ابن عباس في تفسير “ومنافع للناس”، قال: يقول فيما يصيبون من لذتها وفرَحها إذا شربوها”[17]، “فإذا افترضنا أن منافع الخمر والميسر هي الربح المادي، وهي متعة الانتشاء بالسكر… فإن هذه المنافع ليست ملغاة في الشرع؛ بل أباح منها وشرع لها ما لا يحصى من أوجه الحفظ والتحصيل”[18]؛ بمعنى أن الأصل هو حفظ المصلحة، وما أهدرت في حالات مرجوحيتها، إلا للحفاظ على بريقها ووظيفتها، من خلال تشريع ما به تكون راجحة من الأوجه والأحكام، وإلا اصطبغت بالحرام والفساد وصارت متلونة بلونه، تفوح منها رائحته.

إن أغلب من يسعون إلى الانتصار لهذا النوع من المصالح، والدفاع عنها وتبرير مشروعيتها، هم من يستهدفون هدم الشريعة وتمييعها، إذ يقول ابن قدامة في هذا السياق:  “القسم الثاني ما شهد ببطلانه، كإيجاب الصوم بالوقاع في رمضان على الملك..، فهذا لا خلاف في بطلانه لمخالفته النص، وفتح هذا يؤدي إلى تغيير حدود الشرع”[19]؛ وهم من سماهم الإمام الشاطبي بمذهب أهل التحسين العقلي – يقصد به المعتزلة[20]-؛ بل “إذا ظهر المعنى، وفهمنا من الشرع اعتباره في اقتضاء الأحكام، فحينئذ نقبله..، فإن لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى، بل شهد برده، كان مردودا باتفاق المسلمين، ومثال ذلك ما حكى الغزالي عن بعض أكابر العلماء، أنه دخل على بعض السلاطين فسأله عن الوقاع في نهار رمضان، فقال: عليك صيام شهرين متتابعين، فلما خرج راجعه بعض الفقهاء وقالوا له: القادر على إعتاق الرقبة، كيف يعدل به إلى الصوم والصوم وظيفة المعسرين، وهذا الملك يملك عبيدا غير محصورين؟ فقال لهم: لو قلت له عليك إعتاق رقبة، لاستحقر ذلك وأعتق عبيدا مرارا، فلا يزجره إعتاق الرقبة، ويزجره صوم شهرين متتابعين؛ فهذا المعنى مناسب؛ لأن الكفارة مقصود الشرع منها الزجر، والملك لا يزجره الإعتاق ويزجره الصيام. وهذه الفتيا باطلة لأن العلماء بين قائل بالتخيير، وقائل بالترتيب، فيقدم العتق على الصيام، فتقديم الصيام بالنسبة إلى الغني لا قائل به، على أنه قد جاء عن مالك شيء يشبه هذا، لكنه على صريح الفقه..، حنث الرشيد في يمين فجمع العلماء، فأجمعوا أن عليه عتق رقبة، فسأل مالكا فقال: صيام ثلاثة أيام، واتبعه على ذلك إسحاق بن إبراهيم من فقهاء قرطبة”[21]؛ ومثاله أيضا ما لو قال قائل: يحرم زراعة العنب لمصلحة منع اتخاذه خمرا، فهذه المصلحة ملغاة لمرجوحيتها، ومنه أيضا من يسعى إلى الانتحار لظنه أنه يجلب لنفسه مصلحة التخلص من الآلام التي يعانيها…

  • مصلحة لم ينص عليها الشارع، أو نقول مصلحة لم يشهد لها الشارع:

وهي المصلحة التي يجدها الناس في واقعهم وحياتهم؛ لكن الشرع لم يعالجها ولم يتطرق إلى التنصيص عليها بنص جزئي، وهي إما تكون: وصفا مناسبا موافقا للنص العام أو وصفا معارضا مزاحما له:

أ- الوصف المناسب المرسل:

ويسمى بالمصلحة المرسلة، أي التي لم يشهد لها الشرع بالاعتبار ولا بالإلغاء، وقد سبق بسط الحديث عنها تعريفا وتفريعا؛ وهي مرسلة باعتبار عدم التنصيص الشرعي الجزئي الخاص بها؛ لكنها تندرج ضمن ما يسمى بالتنصيص الكلي، أي أن عرضها على النصوص الكلية والقواعد المقاصدية، يجعلنا نقر أن الشرع يعتبرها، وأن وصفها مناسب لأحكامه ومبادئه.

ب- الوصف المعارض للنص:

وهو يفيد ما يجده الناس في شؤون حياتهم وتدبير أمورهم الدنيوية من مصالح، تعارض جزئيا أو كليا نصا من نصوص الشرع وحكما من أحكامه؛ وهذا النوع من المصالح له تطبيقات ونوازل كثيرة في فقهنا المعاصر؛ لكن الحكم الشرعي فيه يختلف من حالة إلى حالة؛ لأن الفتوى تتغير بتغير الأحوال كتغيرها بتغير الزمان والمكان، وهو ما يطلق عليه الشاطبي المناط الخاص؛ فقد يكون الحكم الشرعي الصائب عند هذا التعارض هو ضرورة الأخذ بالنص وتفويت المصلحة، وقد يكون خلاف ذلك، أي الأخذ بالمصلحة في مقابل النص، وهذا كله يتوقف على طبيعة هذه المصلحة المخالفة للنص، فهي إما تكون:

– مصلحة غريبة متوهمة: أي لا تستند إلى أصل تقاس عليه، بل وتخالف النصوص العامة للشريعة ومبادئها الكلية، رغم ما قد يوظفه القائل بها من نصوص وما يورده من أفهام لتأويل مدلولاتها الحقيقية إلى مدلولات غريبة توهم بصوابها ورعايتها لمقاصد الشريعة، لذا قال الدكتور البوطي: “وإنما المقصود في هذا النوع أن تعارض المصلحة المتوهمة نصا قاطعا، أو ظاهرا، جليا أو غير جلي من الكتاب..، ففي اتضاح قطعية دلالة النص، سقوط احتمال المصلحة المظنونة في مقابله، حتى ولو كان لها شاهد من أصل تقاس عليه”[22]، باعتبار أنها مادامت سميت مصلحة متوهمة، فإن تحقق جانب من المصلحة حاصل فيها؛ لأنه كما أكدنا سابقا، لا وجود لمصلحة مطلقة ولا لمفسدة مطلقة؛ لكن الإشكال، أن ذلك يتم بدافع التوهم والتشهي؛ ومعلوم أن الشريعة جاءت كاشفة عن الكليات، واصفة للجزئيات، لمنع الإنسان من توهم ما يراه مصلحة وهو في العمق خلاف ذلك، أي أنها وضعت “لإخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبد الله اختيارا، كما هو عبد الله اضطرارا[23]؛ كما إن “المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية”[24]؛ لأن النفس تفكر في مصالحها من منطلق شهواتها وميولاتها وغرائزها، التي جاء الدين لتنظيمها وتهذيبها ومنع الإنسان من ممارستها كما يحلو له، ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ (71) (المومنون:71)؛ فالإنسان بتوهمه واندفاعه وقصر نظره، قد يحرص على مصلحة وفيها مفاسد..، وقد يفر من مفسدة قريبة فيقع فيما هو شر منها وأنكر، وقد يطلب الراحة العاجلة فيجلب على نفسه أو غيره عناء طويلا أو عذابا وبيلا[25].

إن الأخذ بهذه المصلحة المتوهمة يعد المعول الثاني – بعد المصلحة الملغاة – الذي يسعى من خلاله أدعياء البحث عن روح التشريع والنصوص، إلى هدم الشريعة بالخصوص، متناسين أن لا معنى لروح التشريع وروح النص، بعد تعطيل مدلوله اللغوي المقصود أولا؛ مثال هذا التوهم المصلحي: “من أفتى بصحة صرف أموال الزكاة إلى المشاريع العامة، كبناء المستشفيات والقناطر وشبه ذلك، مجادلا عن معارضته لصريح قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ,,,,,,﴾]التوبة:60[ بأن ما يراه هو المصلحة المتوخاة، وأن ذلك هو روح الشريعة، وأن الارتفاع بشأن المجتمع عامة هو العلة الكبرى من مشروعية الزكاة؛ فمثل هذه الاجتهادات في نصوص الكتاب والسنة باطل من أساسه، إذ المصلحة وروح التشريع وعلة الحكم، كل ذلك ألفاظ استنبطت مدلولاتها من نصوص الشريعة نفسها”[26]؛ ومن ذلك أيضا ما يتعلق ببعض حقوق الإنسان، من حيث النداء بضمانها دون عناية كبيرة برسم حدودها، كالحق في التعبير والحق في التملك، وتحرير مجال الإعلام، وكالمصلحة التي صار يراها الكثير من وضع الأطفال الرضع منذ الأشهر الأولى في الحضانات بحكم التزامات الأمهات؛ ومنه أيضا المناداة بتحرير المرأة وتوفير حقوقها إلى درجة مساواتها بالرجل، من حيث مثلا تحميلها من العمل خارج البيت على مستوى الحيز الزمني ما يتحمله الرجل، بما قد ينعكس سلبا على حياة الأسرة ورعاية الأبناء، أو تكليفها من الأعمال ما يشق عليها بعلة مساواتها بالرجل؛ ومنه أيضا مقابلات ذلك عند البعض، ممن يرون منعها من بعض الحقوق بناء على توهم المصلحة، كمنعها من العمل، أو منعها من السياقة مع إتاحة تنقلها عبر السائق الخادم الغريب عنها؛ ومن ذلك ما يتعلق بالمجال السياسي، كتكريس مبدأ أن الشعب هو مصدر الحكم والسلطة، وكمبدأ التعددية المفتوح دون ضوابط، وفتح الحق للجميع في تولية المناصب بناء فقط على مسطرة الانتخاب؛ ومن ذلك قضايا المجال الفني، كحدود المشاهد المقدمة في الأعمال السينمائية والمسرحية وغيرها، ونوعية القضايا التي تعرض ومنهجية تناولها؛ ومنه أيضا قضايا المجال التربوي، من حيث مثلا طريقة تصريف التوعية الجنسية وتحديد الفئة العمرية لذلك، وأيضا ما يتوهمه البعض من مصالح تتعلق باختلاط الجنسين في المؤسسات التعليمية إلى درجة القصد إلى تكريس ذلك في الحفلات والرحلات وغيرها.

– مصلحة حقيقية: وهي مصلحة يقر العقل -بناء على أن العقل يتاح له النظر في المصالح الدنيوية وتقديرها، وذلك بحسب ما قرره بعض علماء الفكر المقاصدي كالعز بن عبد السلام[27]– أنها فعلا حقيقية، فيها منفعة وخير للمكلف، فتستوجب الرعاية والحفظ، أي أن لها سندا من نص شرعي عام، ويدعمها شاهد كلي من الكتاب أو السنة، غير أنها تعارض نصا شرعيا جزئيا، فيكون هذا بمثابة تقاطع وتزاحم مصلحتين شرعيتين، إحداهما أقرها نص عام، والأخرى دل عليها نص خاص؛ وهذا القسم له ارتباط والتقاء مع النوع الأول من المصالح، أي المصلحة المعتبرة، باعتبار أن هذا التزاحم وقع بين مصلحتين كل منهما معتبرة، شهد الشرع للأولى بالاعتبار بنص جزئي، وشهد للثانية بنص كلي.

وهذا النوع من المصالح عرف سجالات عديدة طويلة، وحروبا كلامية ضارية، أسالت مدادا كثيرا، فيما عرف بنظرية الطوفي الحنبلي، حول تعارض النص والمصلحة، والتي سنفرد لها دراسة خاصة بها، من أجل استيفاء تناولها نظرا لتشعب مسائلها.


[1]– الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، 1/159 .

[2]– مقاصد الشريعة ص 315.

[3]– القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة لمحمد مصطفى الزحيلي، 1/109، والوجيز في إيضاح قواعد الفقة الكلية لمحمد صدقي بن أحمد بن محمد آل بورنو، ص208.

[4]– الموافقات للشاطبي، 3/393.

[5] – البرهان في أصول الفقه، 2/162، وهذا النقل لم أجده في كتب الإمام الباقلاني.

[6] – غياث الأمم في التياث الظلم، ص 164.

[7] – أصول الفقه، ص 279.

[8] – ينظر رسالة في المصلحة المرسلة، دراسة مقارنة، للدكتور محمد خروبات، ص100.

[9]– شرح مختصر الروضة للطوفي، 3/214. 

[10] – الاعتصام، 2/609 و610.

[11] – شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل، ص 189.

[12] – الاعتصام للشاطبي، الباب الثامن في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان، 2/607.

[13]– ينظر المدخل الفقهي العام لمصطفى الزرقا، 1/123.

[14]المستصفى من علم الأصول للإمام أبي حامد محمد الغزالي، 2/478.

[15]– شرح تنقيح الفصول للقرافي، ص87.

[16] – قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/7.

[17] – تفسير الطبري، تفسير يسألونك عن الخمر والميسر ‌قُل ‌فيهما ‌إثم ‌كبير ومنافع للناس، 4/ 328.

[18]– نظرية المقاصد للريسوني، ص261.

[19]– روضة الناظر، ص538.

[20]– يقول الشاطبي في ذلك: وأما على مذهب المعتزلة، فكذلك أيضا؛ لأنهم إنما يعتبرون المصالح والمفاسد بحسب ما أداهم إليه العقل في زعمهم (الموافقات 3/102).

[21]– الاعتصام، 2/610 .

[22]– ضوابط المصلحة، ص131 و132.

[23]– الموافقات للشاطبي، 3/393.

[24]– المصدر نفسه، 3/87.

[25]– نظرية المقاصد للريسوني ص 258.

[26]– ضوابط المصلحة للبوطي، ص138.

[27]– قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/5.

شاركها.

الأستاذ كريم عيار. خريج دار الحديث الحسنية2004 ، ثم دكتوراه 2014 بفاس عن تحقيق مخطوط الخطب المنبرية لخطيب السلطان محمد بن عبد الله أبي مدين الفاسي. ثم دكتوراه 2021 بمراكش حول المصالح المرسلة وطرق استثمارها في فقه الجالية

اترك تعليقاً

Exit mobile version