المبحث الثاني: منظور الأستاذ فريد الأنصاري للصناعة الفقهية، ومعالم منهجه في الفتوى واستنباط الأحكام.
ليس الدكتور فريد الأنصاري من الذين يُظَن بهم التسرع في التصدر للإفتاء دون رصيد علمي معتبر، ولا عُدة منهجية مقدّرة؛ بل الذي يتأكد من كتاباته ودروسه، بل حتى من مواعظه وخطبه المنبرية؛ أن الرجل أحاط بالعلوم الشرعية – ولن أبالغ إذا قلتُ وجوانب من العلوم الإنسانية- خُبرا؛ ولذلك ولج باب الفقه من بابه الواسع، يشهد لذلك مرئياته ومسموعاته ومؤلفاته، وشهادات الحشود الغفيرة من طلابه في المدرجات الجامعية ورحاب المحاضرات العامة.
ودون المرتاب في هذه التحلية لهذا العلَم؛ كتاباته، وموارده الرقمية صوتا وصورة، ورسالتُه للدكتوراه التي قال عنها العلامة الشاهد البوشيخي:( والرسالة التي بين أيدينا اليوم(…) خاف صاحبها فأدلج، ومن أدلج بلغ المنزلة(…)فهذه الرسالة في تقديري ليست رسالة عادية(…):
فهي رسالة لها رسالة في مجال البحث العلمي العام، وفي مجالها الخاص، الذي هو قراءة النصوص المستنبطة من الوحي، بمنهج يقوم على التحري، والتقصي، والتتبع الدقيق للجزئيات؛ لتنظيم ذلك وترتيبه، والوصول به إلى كليات، تصلح قواعد للسير ومنهجا للسير.)[1]
وقد مكّنه من ذلك اطلاعه الواسع على العلوم الإسلامية، وضبطه بشكل خاص لمباحث أصول الفقه، ومقاصد الشريعة؛ فقد نخل عمدة مؤلفات المقاصد[2] نخلا[3]؛ مما أكسبه دربة وملَكة فقهية عزّ نظيرها! فلا غرو أن تجد بصره شاخصا على التعليل، ونظرَه متجها إلى التقصيد، والبناء على الكليات وهو يتناول الجزئيات والأحكام التفصيلية؛ كما سيتضح من خلال ما سنبسطه في المبحث الثالث من هذه الدراسة.
المطلب الأول:منظور الأستاذ فريد الأنصاري للصناعة الفقهية:
لا فرق بين الفقه وأصوله:
الفقه وأصوله عند الأستاذ الأنصاري وجهان لعملة واحدة؛ لأن الفقه إنما يُضبط بمناهج الأصول[4]. وقد تعمَّدَ ألا يفصل بين( العِلْمين) في سياق تحديده للأصول الأربعة للعلوم الشرعية ضِمن كتابه ” مفهوم العالِمية” مستفيدا هذا الاقتران من وصية أبي الوليد الباجي لولَديه موجها لهما بقوله:( ثم يقرأ أصول الفقه؛ فيتفقه في الكتاب والسنة. ثم يقرأ كلام الفقهاء وما نُقل من المسائل عن العلماء، ويَدرَبُ في طرق النظر، وتصحيح الأدلة والحجج. فهذه الغاية القصوى والدرجة العليا؟)[5]ففي تعليق الأنصاري على كلام الباجي قال:( فقولُه ” ثم يقرأ أصول الفقه؛ فيتفقه في الكتاب والسنة” دالٌّ على أن أصول الفقه- بصورته العلمية الحقيقية- هو عين التفقه في الكتاب والسنة. أي أن الفقه بمعناه المصدري، بما هو حركة ذهنية استنباطية؛ إنما هو عملية أصولية محضة؟ وأما الفقه بمعناه الاسمي أي: بما هو أحكام شرعية مستنبطة؛ فذلك نتيجة الفقه بمعناه الأول. والأول هو “الفقه” على الحقيقة. وهو لاينفك عن أصوله، إلا في مناهج المدرسين والمُعلمين لقضاياه، لا في نفس الأمر)[6].
إن هذا التدقيق العلمي، والمراجعة التصحيحية لمصطلح الفقه؛ يقصد منهما الأستاذ الأنصاري التحذير من الالتباس الشائع، والخلط الحاصل عند الدارسين؛ بين الفقيه، وناقل الفقه.
وفي الحديث:( ..فرُب حامل فقه غير فقيه)[7]، وهو تنبيه في غاية الأهمية؛ يُبرز منظور مُترجَمنا “للصناعة الفقهية” يقول رحمه الله:( وأما ما جرت العادة بتسميته ب”الفقه” من كتب الفروع؛ فليس بفقه على الحقيقة، وإنما هو” نُقول فقهية”. والعالِم بها وحدها فقط ليس ب”فقيه”، وإنما هو ” ناقل للفقه”. وإنما الفقيه :”مَن يفقه الأحكام الشرعية عن الله ورسوله”. ولا يكون كذلك حتى يكون خبيرا بمناهج الاستنباط، قديرا على إيرادها مواردَها العلمية، فهما، واستدلالا، وتنزيلا. وذلك هو الفقه والأصول بصورة مطبَّقة. فالفقه والأصول وجهان لعملة واحدة. وإنما أفسد العلمَ فصلُهما؛ حتى صار مَن يُسمون ب”الفقهاء” ممن لا دراية لهم بالأصول؛ جامدين على مقتضى المنقول من كتب المتأخرين، والمختصرات والمنظومات الميتة[8] لا يستطيع عنها فكاكا؟ فاحتلت هذه في ذهنه منزلة الوحي من حيث لا يدري؟ وما بعد ذلك من فساد في الفهم عن الله. ومن قصد تجديد الدين بالعلم فأول العمل أمامه؛ إنما هو تجديد مفهوم”الفقه”)[9].
بهذا الكلام الدالّ الصريح يوضح الأنصاري غايات الفقه ومقاصده، ووسائل التحقق بصناعته. بل إنه رحمه الله يَعتبر أن لا مجال لفهم الوحي واستثمار نصوصه إلا بمفتاح القواعد الإجرائية المستفادة من اللغة، والفقه وأصوله؛ باعتبارها مفاتيح الولوج قبل أن تكون دليل الوصول! ولذلك بالغ في نقد الاتجاهات التي تروج الشعارات الجوفاء، وتُشيع المغالطات المغلفة بعناوين ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قِبله الجهل والتعالُم والفوضى؟
يقول منتقدا وموجها: ( إن فكرة الانطلاق من الكتاب والسنة- بلا منهج علمي ضابط- هي عند التحقيق لا وجود لها بصورة مجردة عند أهل العلم المتحققين به أصلا؟ عند السلف والخلف سواء؛ لأنها ببساطة تعني الفوضى في الفهم والنظر؟ والعبث بأحكام الكتاب والسنة لا العمل بهما؟
إن فكرة العمل بالكتاب والسنة إنما هي عنوان لمنهج علمي قائم البنية، راسخ أصيل؟ وليس فكرة هلامية كل يكيفها على حسب هواه؟
إن العلم بالكتاب والسنة صار عَلما على مسمى، لكنه مع الأسف حدث نوع من الانفصام بين الاسم والمسمى! إلى درجة أن كثيرا من طلبة العلم تعلق بالاسم؛ وليس له في ذهنه من حقيقة المسمى إلا التوهم والخيال!)[10].
يظهر مما تقدم أن الأنصاري له تصور مُحكم لمعنى الفقه واستنباط الأحكام؛ يقوم على ضرورة ضبط العُدة المنهجية المُمكّنة للناظر في نصوص الوحي من فهم الخطاب أولا، ثم تبيُّن مراد الشارع من تشريعه، إذ بدونها يتعذر الإفتاء، ويستحيل تخريج “فقيه”؛ فقد( عُلم لدى أهل العلم بهذا الشأن أن منهج التفكير الفقهي مُضمن في الدرس الأصولي مما حوته مصنفات علم أصول الفقه. بيد أن دراسة هذا العلم قد هُجرت من لدن كثير ممن تعاطى للإفتاء والتوجيه الديني؟)[11].
منظور الأستاذ الأنصاري لعلاقة التمرس بقواعد الفقه والأصول بتكوين الملكة الفقهية.
يرى الأستاذ الأنصاري أن صناعة الفقه لاسبيل إلى اكتسابها إلا بإتقان أصول الفقه باستيعاب مباحثه النظرية، وضبط قواعده ومناهجه التطبيقية، وهذا لن يتأتى إلا بدراسة نصوص الوحي، وما حوته من آيات وأحاديث الأحكام خاصة، ومن مقترحاته لتحقيق هذا المبتغى:( دراسة القواعد الفقهية والأصولية، التي بها يتمكن الطالب من تقريب النظريات الأصولية من المقتضيات الواقعية التطبيقية، كما يتمكن من نظم الجزئيات الفقهية ضمن الكليات الأصولية، وكذا تفريعها عنها. وتلك والله درجة الإتقان العالي في “الفقه” حقا)[12].
فإذا تحقق هذا للدارس تمكن من الاضطلاع بفهم مآخذ الأحكام، والاطلاع الواعي المتبصر على فقه المذاهب، والولوج إلى الفقه المقارن بدراسة كتب الخلاف العالي، فضلا عن كتب النوازل وما تتضمنه من فتاوى وتكييفات الفقهاء للأحكام الشرعية بحسب الأزمنة والبيئات، وأحوال الناس. وبدون هذه المكابدة تبقى صناعة الفقه بعيدة المنال، يقول الأنصاري بعد عرضه لما يجب على طالب العالِمية أن يستصحبه من معارف مما ذكرت بعض تراجمه آنفا:( كل هذا وما في معناه ضروري لطالب العالمية؛ قصد التمكن من المنهجية الأصولية والتحقق بالملكة الفقهية. وبهذا فقط يكون المرء” فقيها”أو لايكون!(…) فإنما العالِمية في الحقيقة :”الفقه”بمعناه الشمولي الكلي! ولا فقه بغير منهج، أي بغير قواعد وأصول. ومن هنا كانت دراسة الفقه بأصوله ضرورة من الضرورات المنهجية والعلمية على السواء)[13].
المطلب الثاني:معالم منهج الأستاذ الأنصاري في الاستنباط الفقهي.
لما كان الأستاذ الأنصاري مولعا بتقعيدات أبي إسحاق الشاطبي، ودارسا مجدا لتراثه؛ فإني سأورد تدقيقاته رحمه الله وتحقيقه لكلام الشاطبي عن الاستنباط؛ وقبل ذلك لابد من البيان اللغوي لهذا اللفظ قبل الانتقال إلى مدلوله الاصطلاحي. أما الفقه فلن أطيل هذه الورقات بإيراد معناه اللغوي مقتصرا على معناه الاصطلاحي الذي سيأتي في ثنايا بيان معنى الاستنباط لأنه لاينفك عنه؛ مع التأكيد على أن للدكتور الأنصاري قدرة عجيبة على صياغة الحدود بمواصفات تجعلها تختزن المعاني المقصودة عنده، واستدراكاته أو بنائه على من سبقه في التحديد المصطلحي، كما ظهر وسيظهر من تعريفاته المتنوعة للفظ” الفقه” الخادمة لهدفه من التنويع في الصياغة.
مدلول الاستنباط الفقهي:
– المعنى اللغوي للفظ الاستنباط.
لم تَخرج المعاجم اللغوية في تحديدها لمعنى الاستنباط عن تعريفه بكونه (استخراجا)، وبذلك يكون الاستنباط لغة، يفيد الاستخراج لأول مرة كما سيتبين.
يُقال: استنبط المعدن من جوف الأرض، والماءَ من قعر البئر؛ إذا استخرجهما لأول مرة. وقد نسب ابن منظور- بعدما أورد قوله تعالى: (لَعَلِمَهُ الذين يستنبطونه منهم)[14]– إلى “الزجّاج” قوله: (معنى يستنبطونه في اللغة، يستخرجونه، وأصله من النبط، وهو الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر)[15]. وقد ربط ابن منظور المعنى اللغوي بالاصطلاحي فقال رحمه الله: (استنبطه، واستنبط منه علما، وخبرا، ومالا: استخرجه؛ والاستنباط: الاستخراج. واستنبط الفقيهُ: إذا استخرج الفقه الباطن باجتهاده وفهمه)[16]، وحكى عن ابن سيده قوله: (فلان لا يُنال له نبط: إذا كان داهيا لا يدرك له غور)[17].
وعرف الجرجاني الاستنباط في اللغة بقوله: (الاستنباط استخراج الماء من العين. من قولهم: نبط الماء؛ إذا خرج من منبعه)[18].
2- التعريف الاصطلاحي للاستنباط الفقهي
من خلال ما تقدم من ربط ابن منظور للمعنى اللغوي بالاصطلاحي، يمكن أن نخلص إلى أن المعنى الاصطلاحي للاستنباط هو “استخراج الأحكام، وتحصيلها، واستفادتها من الأدلة المعتبرة بالاجتهاد”. وإنما قلت بالاجتهاد، استفادة من المعنى اللغوي الذي يفيده الاستنباط، وهو الاستخراج لأول مرة، وهذا لا يكون إلا ببذل جهد إضافي زائد على الجهد الذي سيبذل بعدُ. أي أن الاستخراج يسبقه ويقترن به كلفة ومشقة. وقد عبر الجرجاني عن ذلك بقوله: (الاستنباط (…) اصطلاحا: استخراج المعاني من النصوص بفرط الذهن وقوة القريحة)[19]. بهذا المعنى يكون الاستنباط أهم مراحل العمل الاجتهادي؛ إذ غايته الكشف عن الحكم الشرعي، وبيانه.
آنئذ يمكن تنزيله بعد تحقيق مناطه. والنتيجة المتوخاة هي أن يتحقق قصد الشارع بعد أن يُراعي المكلَّف القصد التعبدي الامتثالي بمطابقته قصدَه من العمل مع قصد الشارع من التشريع.
فالاستنباط إذن؛ عملية عقلية تستند إلى النص، غايته وثمرته استخراج الحكم، وهو في ذات الوقت وسيلة لغاية أكبر هي تحقيق قصد الشارع من تشريع الحكم، بحيث يصبح قابلا للتنزيل والتطبيق بعد تحقيق مناطه. وبهذا تحصل درجة الاجتهاد بتعبير الشاطبي. قال رحمه الله:
( إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما فهم مقاصد الشريعة على كمالها، والثاني، التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها)[20].
وإنما اعتمدت على الإمام الشاطبي، موردا أقواله لبيان المعنى الاصطلاحي للاستنباط؛ لأنه نحا منحىً مقاصديا بيّنا في تناوله لدلالات هذا المصطلح، بحيث جعل العلم بمقاصد الشارع من الشريعة – جملة وتفصيلا – شرطا للاستنباط؛ خصوصا إذا تعلق هذا الاستنباط بالمعاني، وتقدير المصالح والمفاسد. قال رحمه الله: (الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط من النصوص، فلابد من اشتراط العلم بالعربية، وإن تعلق بالمعاني من المصالح والمفاسد مجردة عن اقتضاء النصوص لها (…) [فإنما] يلزم العلم بمقاصد الشارع من الشريعة جملة وتفصيلا)[21]، كما أنه اعتبر (الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية علما مستقلا بنفسه)[22]. وقد تعقّب “الدكتور فريد الأنصاري” استغراب الشيخ “عبد الله دراز” وسْم الشاطبي الاجتهاد في استنباط الأحكام بأنه علم مستقل بنفسه، موضحا أن مقصود الشاطبي من الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية، هو الاجتهاد الفقهي (وهو عين الفقه بالمعنى الحقيقي للكلمة، وذلك علم مستقل بنفسه لا جدال فيه)[23]. والحق أن صفة الفقيه تستلزم أن يكون قادرا على استنباط الأحكام من مداركها الشرعية، وإلا كان ناقلا مقلدا، وليس فقيها مستنبِطا، وتحقيق ذلك يتطلب – من جملة ما يتطلبه – تحصيل علم الفقه بأصوله وقواعده.
والخلاصة أن الاستنباط في اصطلاح الإمام الشاطبي هو: (استفادة نظرية لحكم شرعي من دليل معتبر لما لم ينص عليه من الوقائع)[24].
وفي سياق تفصيله لمعاني هذا التعريف، يقول فريد الأنصاري: (أما استنباط الحكم الشرعي فهو نظر عقلي قوامه تحصيل مقاصد الشريعة؛ الذي هو نتيجة الفهم نفسه. والمقصود أن المقاصد بعد استنباطها أو فهمها تصبح (كليات) من القواعد القابلة للإعمال في استنباط الحكم الشرعي. فينتقل الاجتهاد من النظر في النص قصد استخراج قصد الشارع إلى النظر في قصد الشارع قصد استخراج الحكم الشرعي، وقصد الشارع كامن خلف العلل الجزئية والقواعد الكلية)[25].
وإنما كان استنباط الحكم، يتم عن طريق النظر العقلي (استفادة نظرية) لأنه استخراج للحكم من النص (الدليل المعتبر) بعد فهمه، لكن قبل تحقيق مناطه، أي أن مرحلة الاستنباط تبدأ بعد الفهم، وتقف قبل أن تبدأ مرحلة التنزيل، إذ التنزيل لا يكون إلا لما تم تحقيق مناطه بعد استنباطه من دليله.
فمن خلال تحقيق المناط وعبرَه؛ يتم تطبيق الحكم المستنبَط. ولقد أجاد الدكتور عبد المجيد النجار وأفاد في بيان هذه الخطوات المنهجية – مستفيدا ولاشك من الإمام الشاطبي – حيث فصل القول في الآليات التي يمكن بواسطتها تنزيل الأحكام على واقع المكلفين، وصيرورتها مشخَّصة في الواقع بعد استنباطها من أدلتها بأدوات الفهم وقواعد الاستنباط.
تناول ذلك في كتابيْه “في فقه التدين فهما وتنزيلا” و”في المنهج التطبيقي للشريعة الإسلامية تنزيلا على الواقع الراهن”.
ومن الشروط التي اشترطها الشاطبي لاستفادة الحكم الشرعي، أن يكون ذلك من دليل معتبر، إذ لا عبرة (باستنباط) لا يستند إلى دليل أصلا، أو يستند إلى (دليل) غير محرر، إما من جهة ثبوته أو من جهة دلالته. ويختم الشاطبي تعريفه بكون الاستنباط يكون لأحكام الوقائع أو النوازل غير المنصوص عليها.
من خلال ما تقدم؛ تظهر لنا معالم منهج الاستنباط الفقهي عند الأنصاري، ومقدار إفادته من تراث الشاطبي؛ وبهذا تتشكل الملكة الفقهية بما ( هي الصفة الكسبية التي بها يكون العالِم فقيها في أحكام الشريعة أصولها وفروعها. ولا يكون له ذلك إلا إذا تحقق بالعلم وصار له كالوصف المجبول عليه، وفهِم عن الله مراده)[26] ، فالملَكة عنده غاية مراحل الطلب، وزبدة مسيرة العلم لما تُكسبه للعالِم من خبرة منهجية في معالجة النصوص الشرعية فهما واستنباطا، وتحقيق مناطاتها تنزيلا. وهو معنى”الفقه في الدين” بمعناه الكلي فهما وتطبيقا[27]
ولقد أعد رحمه الله لطلبة الدراسات الإسلامية في التعليم العالي كتاب”المرشد للاستنباط الفقهي” كما اجتهد في تقريب هذه المضامين في طائفة من كتبه منها” أبجديات البحث في العلوم الشرعية” و” مفهوم العالمية” فضلا عما اعتصره في رسالته للدكتوراه” المصطلح الأصولي عند الشاطبي”.
من خلال هذه المؤلفات المتضمنة للأسس النظرية لمعالم منهجه في الاستنباط، ومن خلال فتاواه وآرائه الفقهية المكتوبة، والمرئية والمسموعة؛ المتضمنة لتطبيقات تلك المرتكزات النظرية؛ نستطيع تبيُّن معالم منهجه، وتصوُّرَ منظوره للعملية الاجتهادية، ومنها طرق استفادة الأحكام من مآخذها، وآليات تنزيلها على عموم المكلفين وأفرادهم.
يتبع
– المصطلح الأصولي عند الشاطبي، للدكتور فريد الأنصاري، الاقتباس من تقديم الدكتور الشاهد البوشيخي للرسالة، ص:6-7.[1]
– أعني: الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي.[2]
– للوقوف على هذا الأمر أنظر رسالته للدكتوراه، وكتاب:” مصطلحات أصولية في كتاب الموافقات للشاطبي للمؤلف.[3]
– المصطلح الأصولي عند الشاطبي، ص:141.[4]
– من وصية أبي الوليد الباجي لولَديه الواردة في ملحق كتاب: مفهوم العالمية من الكتاب إلى الربانية للأنصاري، ص128[5]
– رواه ابن ماجة، رقم الحديث:2498، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة، وغيره من أصحاب السنن،[7]
8 – التعبير عن منظومات الفقه بالميتة تصغير لشأنها، وتنقيص منها ومن ووظيفتها التعليمية المُقربة للأحكام، الجامعة لشتات جزئياتها؛ وإنما قتلها من أساء استخدامها، وقصر تناولَه لها على حفظ واستظهار رسومها وحروفها، دون مراعاة نسبيتها والارتقاء إلى ضبط مآخذها، والراجح على ما فيها. وهذا هو مقصود المؤلف كما اتضح من كلامه في سياقات أخرى!
– مفهوم العالمية، ص:67-68 [13]
– سورة النساء، الآية: 83. [14]
– لسان العرب، مادة (نبط)، 6/568. [15]
[16] – نفسه، مادة: (نبط).
[17] – نفسه.
[18] – التعريفات، ص: 26.
[19]– التعريفات، ص: 26.
[20]– الموافقات: 4/76.
[21]– نفسه: 4/117، بداية المسألة الخامسة من كتاب الاجتهاد.
[22]– نفسه: 4/79.
[23]– المصطلح الأصولي عند الشاطبي، د.فريد الأنصاري، هامش 23، ص: 319.
[24]– اهتدى الدكتور فريد الأنصاري إلى صياغة هذا التعريف بتتبع كلام الشاطبي في” المصطلح الأصولي عند الشاطبي”، ص: 315.
[25] – المصطلح الأصولي عند الشاطبي، ص: 315، ص: 317.


