إن أول من عرف بتقسيم المصالح بهذه الطريقة هو الإمام الجويني، إذ قسمها تقسيما خماسيا في باب تقاسيم العلل والأصول: “أحدها: ما يعقل معناه، وهو أصل، ويؤول المعنى المعقول منه إلى أمر ضرروي لا بد منه…، والضرب الثاني: ما يتعلق بالحاجة العامة ولا ينتهي إلى حد الضرورة…، والضرب الثالث: ما لا يتعلق بضرورة خاصة ولا بحاجة عامة، ولكنه يلوح فيه غرض في جلب مكرمة أو في نفي نقيض لها..، والضرب الرابع: ما لا يستند إلى حاجة وضرورة، وتحصيل المقصود فيه مندوب إليه تصريحا ابتداء، والضرب الخامس: ما لا يلوح فيه للمستنبط معنى أصلا، ولا مقتضى من ضرورة أو حاجة، أو استحثاث على مكرمة، وهذا يندر تصويره جدا”[1].

إن هذا التقسيم شكل مقدمة لما بعده، إذ تأسست عليه ملامح التقسيم الثلاثي المعروف، من خلال الانتباه إلى “التقارب الشديد الواقع بين الضربين الثالث والرابع، بما أملى إمكانية دمجهما في قسم واحد، كما إن القسم الخامس نجده يشير إلى تقسيم ضمني، أي إلى ما يعلل وإلى ما لا يعلل، فما وقع تعليله يجب إلحاقه بأحد الأقسام الثلاثة، وما تعذر تعليله فهو ليس مما نحن فيه”[2]؛ فلا يبقى عند التحقيق إلا ثلاثة أقسام، هي التي استقر عليها الدرس المقاصدي منذ تلميذ الإمام الجويني، أي الإمام الغزالي[3]، وهي كما أشار إليها الإمام الشاطبي[4]:

المصالح الضرورية: وهي ما لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين، كحفظ النفوس فإنه مقصود الشارع.

المصالح الحاجية: وهي ما كان مفتقرا إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع، دخل على المكلَفين الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة.

المصالح التحسينية: وهي الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنّسات، التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق، أي ما يقع موقع التحسين والتزيين.

وقريب من هذا التقسيم، نجد العز بن عبد السلام قسم المصالح تقسيما ثلاثيا، والمفاسد تقسيما ثنائيا، “أما المصالح فأحدها مصالح المباحات، الثاني مصالح المندوبات، الثالث مصالح الواجبات؛ وأما المفاسد: فمفاسد المكروهات، الثاني مفاسد المحرمات”[5].

وفي إطار هذا التقسيم، قد شاع في مجموعة من الكتابات الأصولية والمقاصدية، بأن الضروريات على خمس مراتب، وهي التي سميت بالكليات الخمس أو الضروريات الخمس: حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال؛ فهذا الكلام يستثني أن تكون كل من مرتبتي الحاجيات والتحسينيات، راعية لهذه الكليات الخمس.

والواقع أن هذا بالإجمال مقبول، باعتبار أن الشريعة قاصدة بالضرورة إلى حفظ هذه الكليات الخمس، بل وجعلتها قطب الرحى، وأصل البنى، ومناط الهدى، لأنها أساس الحياة، بها تقوم، وبفقدانها تضيع. وفي هذا السياق يأتي كلام الشاطبي بقوله: “ومجموع الضروريات خمسة، وهي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، وقد قالوا: إنها مراعاة في كل ملة”[6].

أما بالتفصيل، فمفهوم الضروريات الخمس يوحي إلى أن تلك المعاني مقتصرة فقط على مرتبة الضروريات، دون مرتبتي الحاجيات والتحسينيات، بينما ما يفهم من مصطلح الكليات الخمس يقتضي أن المعاني الخمس مبثوثة في كل الجزئيات وفي كل التفاصيل وفي كل مراتب المصالح التي جاءت بها شريعة الإسلام، لأن الكلي بحسب دلالته، ما ينطبق على الجزئيات ويسري فيها ويضبطها. وبذلك فهذه الكليات الخمس لا تتوقف على مرتبة الضروريات فقط؛ بل تمتد فروعها وتجلياتها إلى مرتبتي الحاجيات والتحسينيات. لهذا كان التمني لو يحسم الشاطبي هذا الأمر، بلغة واضحة قطعية، وذلك بالإشارة إلى أن حتى الحاجيات والتكميليات جاءت لخدمة الكليات الخمس، وهو ما لم يفعله رحمه الله، بل اكتفى بالتلميح إليه من بعيد في ثنايا كلامه عن التكميليات، فعند تعرضه للضروريات أشار إلى أنها خمسة، ولكن عند حديثه عن الحاجيات والتحسينيات لم يشر إليها بالوضوح الذي لا يترك مجالا للشك، واكتفى بإعطاء أمثلة عنها من أبواب الدين، حيث قال عن الحاجيات: “وهي جارية في العبادات، والعادات، والمعاملات، والجنايات، ففي العبادات كالرخص المخففة..، وفي العادات كإباحة الصيد والتمتع بالطيبات..، وفي المعاملات، كالقراض، والمساقاة، والسلم..، وفي الجنايات، كالحكم باللوث، والتدمية..”[7]، وقال عن التحسينيات بعد تعريفها: “ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق، وهي جارية فيما جرت فيه الأوليان، ففي العبادات كإزالة النجاسة..، وفي العادات..”[8]، أي يغلب على الظن أنه يقصد بذلك أن مرتبة التحسينيات تجري فيما جرت فيه مرتبة الضروريات من كليات خمس، والأمر نفسه بالنسبة لمرتبة الحاجيات، رغم أنه ما فصل به فكرته من أمثلة، كان على منوال ما فعله في الحاجيات.

ويأتي الركن الموالي لركن الشاطبي في صرح المقاصد، وهو ابن عاشور، إذ نجده قد تقدم قليلا من حيث الربط المباشر بين مرتبة الحاجيات والكليات الخمس وإن كان هذا الربط يعتريه قصور، إلا أنه غفل عن ذلك نهائيا في مرتبة التكميليات، فلم يشر إلى ارتباطها بالكليات الخمس لا من قريب ولا من بعيد، حيث قال: “ومن الحاجي ما يدخل في الكليات الخمسة المتقدمة في الضروري إلّا أنه ليس بالغاً حد الضرورة، كما أشرنا إليه فيما مضى من الأمثلة. فبعض أحكام النكاح ليست من الضروري ولكنها من الحاجي مثل اشتراط الولي والشهرة. وبعض أحكام البيوع ليست من الضروري، مثل بيوع الآجال المحظورة لأجل سد الذريعة، ومثل تحريم الربا، وأخذ الأجر على الضمان، وعلى بذل الشفاعة. فإن كثيراً من تلك الأحكام تكميلية لحفظ المال، وليست داخلة في أصل حفظ المال..، والمصالح التحسينية هي عندي ما كان بها كمال حال الأمة في نظامها حتى تعيش آمنة مطمئنة، ولها بهجة منظر المجتمع في مرأى بقية الأمم، حتى تكون الأمة الإسلامية مرغوباً في الاندماج فيها أو في التقرب منها، فإن لمحاسن العادات مدخلًا في ذلك سواء كانت عادات عامة كستر العورة، أم خاصة ببعض الأمم كخصال الفطرة وإعفاء اللحية. والحاصل أنها مما تراعى فيها المدارك الراقية البشرية”[9]. أما القصور المشار إليه في الربط بين الحاجيات والكليات الخمس، فيتمثل في جعله الكليات الخمس هي الأصل، إذ يجعل الحاجيات تدخل في الكليات الخمس،  وذلك من خلال عبارته: “ومن الحاجي ما يدخل في الكليات الخمسة”، ممثلا لذلك بأحكام النكاح، فمنها الضروري ومنها الحاجي، إلا إن الأصوب أن يقال بأن الكليات الخمس تدخل في الضروريات والحاجيات والتحسينيات، باعتبار أن تقسيم المصالح إلى المراتب الثلاث هو الأصل الأول، وهو تقسيم إن صح التعبير يمكن تسميته بتقسيم هرمي للدين، أعلاه الضروريات وأوسطه الحاجيات وأسفله التحسينيات، بينما تقسيم المصالح إلى الكليات الخمس هو الأصل الثاني، وهو تقسيم إن صح التعبير يمكن تسميته بتقسيم مضموني للدين، لأنه يتعلق بمضامين الدين وأبواب الإسلام، بمعنى أن المضامين والمواضيع التي جاء الإسلام لمعالجتها، تتعلق إما بحفظ الدين أو النفس أو العقل أو النسل أو المال.

وتزداد القوة الاعتبارية للتقسيم الهرمي، بالنظر إلى أنه عند التزاحم بين المصالح، يترجح الأخذ به أولا، فالضروريات ولو تعلقت بحفظ المال، هي المرجحة على الحاجيات ولو تعلقت بحفظ الدين أو بقية الكليات.

إن هذا الأمر الذي قررناه بعد هذا النقاش، لا ينتبه إليه الكثير من المشتغلين والمهتمين، فيقتصر فهمهم على أن الكليات الخمس مرتبطة حصرا بالضروريات، إلى درجة أن الكتابات في هذا الشأن، كلما تكلمت عن الضروريات إلا وصحبها الكلام عن الكليات الخمس، لكن يغيب إثارة موضوع الكليات مطلقا عند الحديث عن الحاجيات والتحسينيات. ومن نماذج ذلك الدكتور الخادمي في كتابه علم المقاصد الشرعية، حيث في شرحه لمراتب المصالح تحدث أولا عن الضروريات من حيث التعريف ثم التمثيل ثم الأدلة ثم الأقسام (أي الكليات الخمس)، لكنه في مرتبتي الحاجيات والتحسينيات اعتمد المنهجية نفسها باستثناء الحديث عن الأقسام، أي تغطيتهما للكليات الخمس كما فعل مع الضروريات[10]. وهذا كله لا شك يؤثر على أفق الاجتهاد في التعامل مع الحاجيات والتحسينيات، التي هي في الحقيقة استمرار وتفصيل لما تستلزمه المحافظة على الكليات الكبرى، وإن بمستويات متفاوتة؛ بمعنى آخر، فكما أن المصالح الضرورية تتضمن أحكاما تؤدي إلى حفظ هذه الكليات الخمس، فحتى الحاجيات والتحسينيات تتضمن أحكاما أيضا تحفظها، لكنها متفاوتة عن الأولى من حيث قوتها وأهميتها، إلى درجة أن الأحكام الراعية لمرتبة التحسينيات تعد مكملة لأحكام الحاجيات، وهذه الأخيرة بدورها مع التحسينيات تعدان مكملتين لأحكام الضروريات.

فكما نتكلم عن الضروريات الخمس، ينبغي أن نتكلم عن الحاجيات الخمس، ونتكلم عن التحسينيات الخمس.

ومن أمثلة ذلك مما يتعلق بحفظ الدين، أن الشارع الحكيم قد شرع من الأحكام ما به يحفظ هذا الدين، وهذه الأحكام تتوزع بين ما يحفظ هذا الدين ضرورة وما يحفظه حاجة وما يحفظه تكميلا؛ فمما يحفظه من حيث الضروريات، نجد فريضة الصلاة بحكم ارتقاء الشرع بها إلى أعلى مراتب الوجوب، أما ما يحفظه من جهة الحاجيات وجهة التحسينيات، فهي الأحكام الأقل مرتبة، التي شرعت من أجل تكملة الصلاة وتهييء كل الظروف والشروط التي تستلزمها، لضمان أدائها على أفضل حال، كجواز الصلاة قاعدا ومضطجعا لرفع الحرج عن المكلف بسبب المرض، وهو ما يدخل في الحاجيات، وكالطهارات وسائر أحكامها، والتنزه عن النجاسات وأخذ الزينة، وهو ما يدخل في التكميليات؛ بل حتى أحكام الصلاة نفسها ليست على مرتبة واحدة، فالأركان ليست هي السنن، والسنن ليست هي الفضائل.

ومن الأمثلة المتعلقة بحفظ النسل ضرورة، عقد الزواج، أي ضرورة إقامته، وترتبط بهذا العقد أحكاما على درجة أقل من الأهمية، كوجود ولي المرأة وإقامة الوليمة…، وكل ذلك يدور بين الحاجي والتحسيني.

وبهذا التصنيف، استنبط العلماء مبادئ مهمة في فقه الأولويات، وفي الترجيح بين المصالح عند تعارضها، من أهمها أن “كل تكملة فلها من حيث هي تكملة شرط، وهو أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال، وذلك أن كل تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلها، فلا يصح اشتراطها عند ذلك”[11].  

   بقي أن نشير في ختام هذا التقسيم والذي قبله (وأقصد التقسيم بحسب اعتبار الشرع)، أن هناك من يخالفهما، بل ويخالف كل تقسيم للمصلحة، ويمثل هذا الرأي الإمام الطوفي الحنبلي، الذي يجعل هذه التقسيمات تعسفا وتكلفا، حيث يقول: “اعلم أن هؤلاء الذين قسموا المصلحة إلى معتبرة وملغاة ومرسلة، ضرورية وغير ضرورية، تعسفوا وتكلفوا؛ إذ الطريق إلى معرفة حكم المصالح أعم من هذا وأقرب، وذلك بأن نقول: قد ثبت مراعاة الشارع للمصلحة والمفسدة إجماعا، وحينئذ نقول: الفعل إن تضمن مصلحة مجردة حصلناها، وإن تضمن مفسدة مجردة نفيناها، وإن تضمن مصلحة من وجه ومفسدة من وجه، فإن استوى في نظرنا تحصيل المصلحة ودفع المفسدة، توقفنا على المرجح أو خيرنا بينهما، كما قيل فيمن لم يجد من السترة إلا ما يكفي أحد فرجيه فقط: هل يستر الدبر لأنه مكشوفا أفحش، أو القبل لاستقباله به القبلة، أو يتخير لتعارض المصلحتين والمفسدتين؟ وإن لم يستو ذلك، بل ترجح إما تحصيل المصلحة وإما دفع المفسدة فعلناه؛ لأن العمل الراجح متعين شرعا؛ وعلى هذه القاعدة، يتخرج كل ما ذكروه في تفصيلهم للمصلحة”[12].

وفي الحقيقة، فهذا الرأي يشكل نشازا واستثناء لما أجمع عليه علماء الأصول والمقاصد، من اشتهار التقسيمين الأول والثاني وتلقي العلماء والأمة لهما بالقبول؛ ثم إن الطوفي في عملية درء التعارض بين المصالح والمفاسد، نجده يستحضر معيارا يفضي إلى التمييز بين المصالح وتقسيمها، وهو المعيار الكمي، والذي نجد العلماء قد جعلوه من ضمن معايير أخرى، القصد منها الترجيح بين المصالح عند تعارضها وتزاحمها، جاء في شرح مختصر الروضة: “وأما المصلحة الواقعة موقع التحسين أو الحاجة، ‌كمباشرة ‌الولي ‌عقد ‌النكاح، وتسليطه على تزويج الصغيرة ونحو ذلك، فهي مصلحة محضة لا يعارضها مفسدة، فكان تحصيلها متعينا. وأما المصلحة الضرورية كحفظ الدين، والعقل، والنسب، والعرض، والمال، فهي وإن عارضتها مفسدة، وهي إتلاف المرتد والقاتل بالقتل، ويد السارق بالقطع، وإيلام الشارب والزاني والقاذف بالضرب، لكن نفي هذه المفسدة مرجوح بالنسبة إلى تحصيل تلك المصلحة، فكان تحصيلها متعينا..، وعلى هذا تتخرج الأحكام عند تعارض المصالح والمفاسد فيها، أو عند تجردها، ولا حاجة بنا إلى التصرف فيها بتقسيم وتنويع لا يتحقق..”[13].


[1] – البرهان في أصول الفقه، 2/79.

[2] – نظرية المقاصد ص51.

[3] – شفاء الغليل لأبي حامد الغزالي، ص 162.

[4] – الموافقات 3/12 و19 و22.

[5] – قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/9.

[6] – الموافقات، 2/20.

[7] – الموافقات، 2/21.

[8] – الموافقات، 2/22.

[9] – مقاصد الشريعة الإسلامية لابن عاشور،3/ 242 و243

[10] – علم المقاصد الشرعية، نور الدين بن مختار الخادمي، من ص 79 الى ص 91.

[11]– الموافقات للشاطبي 3/29.

[12]– شرح مختصر الروضة للطوفي، 3/214. 

[13]– شرح مختصر الروضة للطوفي، 3/216.

شاركها.

الأستاذ كريم عيار. خريج دار الحديث الحسنية2004 ، ثم دكتوراه 2014 بفاس عن تحقيق مخطوط الخطب المنبرية لخطيب السلطان محمد بن عبد الله أبي مدين الفاسي. ثم دكتوراه 2021 بمراكش حول المصالح المرسلة وطرق استثمارها في فقه الجالية

تعليق واحد

  1. البشير القنديلي on

    إذا كان للجويني رحمه الله فضل التأسيس، والابتكار-اذا لم يكن مسبوقا بغيره- للمصالح الثلاث وتسمياتها الدالة، اعني الضروريات والحاجيات والتحسينيات؛ فإن للشاطبي الإمام فضل التفصيل والبيان والتقعيد للعلاقة بينها، والتمثيل لها من خلال مجالات جريانها ( العبادات، والمعاملات، والعادات، والعقوبات) ، ولم يأل جهدا رحمه الله في التأكيد على أن المطلوب حفظه من جانبي الوجود والعدم بالدرجة الأولى هو الضروريات التي لايجوز تفويت شيء منها بأي حال من الأحوال، لما للاخلال بها او ببعضها من الضرر والهلاك، وفوت الحياة والرجوع بالخسران المبين بتعبيره رحمه الله. ومن ابداعاته في سياق البيان للعلاقة بين رتب المصالح؛ لغته التقعيدية الوضعة لكل رتبة في موقعها وموضعها، فالحاجيات مكملة للضروريات، وحافظة لمقامها ومكانتها، والتحسينيات مكملة لما قبلها وهي مرتبة الحاحاجيات، وكلا المرتبتين- الحاجي والتحسيني- مكمل لمرتبة الضروري. فآل الامر إذن الى أن حمى الضروري يسيج بجملة مكملات من الحاجي والتحسيني فضلا عن مكملاتهما أيضا. وفائدة هذه الهندسة العجيبة وثمرتها إنما تكمن في الترتيب والموازنة خاصة عند التزاحم والتعارض، وعدم إمكان المحافظة على الكل أثناء التنزيل. وفائدة هذا عظيمة في الفقه والاستنباط.
    أما عن علاقة رتب المصالح الثلاث بالكليات الخمس، فلم يأل الشاطبي رحمه الله بنفَسه البياني القوي جهدا في سياقات التمثيل في بيان أن حفظ الكليات دينا ونفسا وعرضا وعقلا ومالا من جانبي الوجود والعدم لايتم على الوجه الأكمل والأتم الا باستصحاب المكملات والسعي ما أمكن الى الاخذ بها من قٍبل المكلف ما وسعه الجهد، ليتم الحفظ وعدم التفويت للضروري على التمام والكمال! حتى إذا غُلب على أمره أثناء التنزيل، وحصل التزاحم، فليكن التفويت فيما هو أدنى من الرتب بحسب مجالات جريانها؛ صونا للضروري وحماية لحماه.
    وتنبه الدكتور عيار الى أن الائق بالضروريات الخمس أن نسميها كليات هو تدقيق تستبطن ذكاء، ولكن ربطها أيضا برتبة الضروريات لايخلو من فائدة، اعتبارا لكون اهم حلقة، وقطب الرحى في المصالح الثلاث مطلوبة الحفظ بالدرجة الاولى هي (الضروريات)الخمس، وانما الحاجيات والتحسينيات حائمة حول الكليات ومكملة لحفظها وصيانتها، لانها اكسبت كليتها من كونها ضرورية ألصق بالرتبة الاولى وهي الضروريات منها بالرتبيتن المكملتين، اعني الحاجي والتحسيني.
    نعم هي كليات خمس ولكن درجة حفظها، وقيمة رتبتها، ومكانتها، جعلتها من الضرورة بمكان، بحيث شرع لاتمام حفظها وصيانتها ما لايكاد ينحصر من الحاجيات والتحسينيات المتممات. ولعمري فإن ضبط هذه الموازين يسهم في إنضاج الفقه، وترشيد التدين، فرديا كان أم جماعيا. والله المستعان
    البشير القنديلي

اترك تعليقاً

Exit mobile version