الدكتورة رحيمة تويراس
فاطمة الفهرية، اسم أغر ظل مقترنا بأقدم الجامعات الموجودة في العالم. هي سيدة فاضلة، وشخصية خالدة منقوشة في ذاكرة مدينة فاس، المدينة التاريخية والعاصمة الروحية والعلمية لبلاد المغرب. فإذا ذُكرت فاس ذُكر جامع القرويين مقرونا باسم هذه السيدة الجليلة؛ وعليه فإن هذا الاسم اسم سامي يقترن بكل المعاني السامية.
لا تمدنا المصادر التاريخية بمعلومات وافية عن حياة فاطمة الفهرية؛ سوى ما ذكره ابن أبي زرع في كتابه القرطاس. ولذلك فإننا نجهل الكثير من التفاصيل المتعلقة بحياتها وأعمالها.
هي فاطمة بنت محمد الفهرية القرشية، لقبها أم البنين، من عائلة قيروانية تعود أصولها إلى ذرية عقبة بن نافع الفهري القرشي، فاتح إفريقية ومؤسس مدينة القيروان، وفاتح بلاد المغرب الأقصى في النصف الثاني من القرن الأول الهجري.
هاجرت من موطنها الأصلي إلى مدينة فاس عاصمة الأدارسة في بداية القرن الثالث الهجري. وسكنت مع المهاجرين القيروانيين الذين هاجرت معهم في أحد أكبر أحياء مدينة فاس وهو عدوة القرويين. تذكر المصادر التاريخية، أنها قدمت مع والدها محمد بن عبد الله الفهري وأختها مريم التي كانت تكنى بأم القاسم، ولم يكن لوالدها سواهما. تلقت فاطمة الفهرية تربية دينية، فكانت من المؤمنات الورعات. ولم يمض سوى زمن قصير حتى توفي والدها وزوجها فورثت عن والدها ثروة كبيرة، خاصة أنه كان ذا مال وجاه.
أدركت فاطمة الفهرية المعاني اللطيفة والسامية للإنفاق في سبيل الله، فعزمت على إنفاق مالها في وجه من وجوه الخير. تنامت فكرة بناء مسجد في ذهنها، فكانت ناصعة جلية. وعظمت معها فكرة الأجر والثواب، خاصة أن ثقافة العمل الخيري الإنساني كانت راسخة في المجتمعات الإسلامية كالوقف والصدقات والهبات والنذور وغيرها، وكلها مظهر من مظاهر العمل التطوعي، وتعبير عن روح التضامن والتكافل، وشكر على النعم والأرزاق.
وهكذا ظل نظام الوقف في المجتمعات الإسلامية منظومة متكاملة ومنهجا تكافليا، له تشريعات وضوابط وأحكام. وتميزت التجربة المغربية بتبوء الوقف مكانة مهمة في حياة المغاربة، واستوعبت المصارف الوقفية كل احتياجات المجتمع، حتى غدا الوقف جزءا لا يتجزأ من الحياة. وكانت فاطمة الفهرية نشيطة في هذا المجال ورمزا للعمل الخيري التطوعي لما عرفت به من كثرة الإنفاق والإحسان.
إن صدى القرويين يحمل إلى أسماعنا اسم فاطمة الفهرية وسيرتها تلتحم بمسيرة بناء مسجد القرويين الذي خصصت ثروة كبيرة لبنائه وتشييده. وظل هذا الجامع يعتمد في موارده المالية عبر تاريخه على الوقف. يقول عبد الهادي التازي في أطروحته الجامعية عن تاريخ القرويين، أنه كان ينعم بمورد خصب من الأوقاف، مما جعله مستقلا عن خزينة الدولة.
كان هناك بفاس قبل تأسيس القرويين مسجدان للصلاة هما مسجد الأشياخ بالعدوة الشرقية، ومسجد الشرفاء بالعدوة الغربية، فرغبت فاطمة الفهرية في تأسيس مسجد للصلاة تقربا إلى الله تعالى بالتوسعة على الناس بعد أن ضاقت فاس بساكنتها، بسبب اتساع العمارة واتصال البناء من كل جهة وكثرة الأرباض، ولم يعد بإمكان المسجدين المذكورين أن يفيا بحاجة من يقصدهما من المصلين فتطوعت فاطمة الفهرية لبناء المسجد تعظيما لرسالته، وإجلالا لهيبته، وتقديرا لقيمته الروحية.
وقع اختيار فاطمة على حقل شرقي المدينة بموضع من العدوة التي كان ينزل بها أهل بلدها من القيروان. وتواترت المصادر التاريخية أن الشروع في حفر أساسه ووضع اللبنة الأولى كان يوم السبت مستهل رمضان سنة خمس وأربعين ومائتين للهجرة.
تحدث المؤرخون عن الطريقة التي سلكتها فاطمة في بناء المسجد، حيث تم حفر أساسه بمطالعة يحيى بن محمد بن إدريس. وكانت تستشير العلماء والفقهاء، وتقف على شؤون المسجد أثناء بناءه حتى أنجز في أحسن شكل وهيئة، وبدا فسيح الأرجاء محكم البناء. وكان تصميمه مربعا على نحو ما عرف في المساجد الإسلامية الأولى أي بناية بسيطة للعبادة، ولإقامة الدين الذي به تصفو السرائر وتزكو النفوس.
ضاعفت فاطمة مساحة المسجد بشراء الحقل المحيط به من رجل من هوارة. وحرصت على استخراج مواد البناء من تراب وجص وحجر ورمل وغيره من نفس الأرض التي اشترتها دون غيرها احتياطا وتحريا من أية شبهة أو ريبة، حتى يكون البناء من مالها الحلال الطيب. كما حفرت بئرا يرتوي منه البناؤون والعمال، ويُستغل في اعمال البناء.
تذكر المصادر التاريخية أن فاطمة الفهرية ظلت صائمة محتسبة منذ الشروع في بناء المسجد. ونذرت أن لا تفطر حتى تنتهي أشغال البناء. وعندما اكتمل المسجد صلت شكرا لله على توفيقه.
في نفس السنة شيدت أختها مريم جامعا آخر بعدوة أهل الأندلس، فكان تأسيس المسجدين معا من عمل النساء. وصار مسجد مريم يعرف بمسجد الأندلس ومسجد فاطمة يعرف بمسجد القرويين. وظل هذان المسجدان يحتلان مكانة مهمة دون جامعي الأشراف والأشياخ؛ بل إن جامع القرويين أصبح يحتل الصدارة .
وقد جاء المصادر أن إدريس بن إدريس دعا عندما شرع في بناء مدينة فاس قائلا: “اللهم اجعلها دار فقه وعلم، يُتلى بها كتابك، وتُقام بها حدودك، واجعل أهلها متمسكين بالسنة والجماعة ما أبقيتهم” فتحقق هذا الدعاء على يد فاطمة الفهرية. وأصبح المسجد الذي أسسته صرحا تتمازج فيه سبحات الروح وتأملات العقل. وغدت فاس مدينة روحية وعلمية، تُنافس العواصم الكبرى. وصفها عبد الواحد المراكشي في كتابه المعجب فقال: “ومدينة فاس هي حاضرة المغرب في وقتها هذا وموضع العلم فيه، اجتمع فيها علم القيروان وعلم قرطبة”.
ذاع صيت جامع القرويين، وصار مركز إشعاع علمي، ومنارة خالدة أسهمت في إثراء وإغناء العلوم. ورغم أن المغرب تعزز بمساجد وجوامع ورباطات وزوايا فقد ظلت الصدارة لجامع القرويين. قال بان خلدون مشيدا بصنيع فاطمة الفهرية: “فكأنما نبّهت عزائم الملوك بعدها”. وعلى مر العصور تنافس الملوك الذين تعاقبوا على حكم المغرب في الزيادة في الجامع وتوسيع أركانه، واستأثر أيضا باهتمام أثرياء فاس، فأقبلوا على تحبيس العقارات والأراضي الفلاحية والبساتين لفائدته. ولم يزل الجامع تزداد أوقافه، وتتوسع مرافقه، وتتعدد كراسيه العلمية ويحضى بما لم يحض به جامع حتى أصبح جامعة علمية.
أسس الأدارسة نواة هذه الجامعة فأشرق نورها. وبذر المرابطون المعارف في أروقتها، فعرفت حركة علمية نشيطة من الدروس والمباحثات والمناظرات. ومتّن الموحدون روابطها بسائر أقطار الغرب الإسلامي، فزاد إشعاعها، واتسعت شهرتها. وجعلها المرينيون غرسا يفوح، فأحاطوها بالمدارس والدور لإيواء الطلبة الوافدين وغيرهم من الصالحين والعباد والزهاد. وأضفوا عليها سمات العظمة والجمال. وأغدق عليها السعديون من عطاياهم وثرواتهم. وأولاها العلويون اهتماما خاصا، فزادوا في مبانيها، وجدّدوا مرافقها، وزينوا جوانبها بنقوش بديعة ذات قيمة فنية وجمالية. واكتسبت الجامعة في عصرهم عادة تنصيب سلطان الطلبة. فغدت بذلك جامعة لها مجد تاريخي، ومخزون حضاري نفيس، ازدانت بأروع الفنون، وأجمل الأعمال، كالثريا الكبرى، والخصة الحسناء. وضمت خزانتها آلاف المؤلفات النفيسة، والمخطوطات النادرة والوثائق في شتى الموضوعات. وعجَّت رحابها بالحركة والمشورة والمناقشة والتأليف والكتابة في علوم اللغة والفقه والتفسير والحديث والفلسفة والمنطق والحساب والتاريخ والأدب والطب والكيمياء والرياضيات والهندسة والفلك والموسيقى. واستمرت فيها حلقات العلم حتى في أوقات الترميم والبناء.
وصارت الجامعة مهوى الأفئدة، وقبلة الأنظار، ومناط الطلاب من المشرق وإفريقيا والأندلس. وانتقل إليها العلماء من مختلف الأقطار للتدريس بها. فكثر المدرسون والوعاظ وتعددت الكراسي العلمية وحلقات الدروس لفائدة الطلبة والتجار والحرفيين. كما سُمح لليهود والمسيحيين بالدراسة بها. وتخرج منه كبار العلماء والموظفين في الدولة ممن التحقوا بسلك القضاء والكتابة …. وبذلك تكون فاطمة الفهرية مؤسسة أول وأقدم جامعة في العالم وهي جامعة القرويين، مفخرة فاس والعالم الإسلامي.
حافظت جامعة القرويين على الهوية المغربية، وشكلت حصنا منيعا لها. وكان لها دور كبير في ترسيخ الإسلام، وتمكين المذهب المالكي، ونشر اللغة العربية. واتُخذت بها القرارات السياسية الكبرى، كالبيعة، وإعلان الحرب، وتوقيع المعاهدات، والتحريض على الجهاد، واستنهاض الهمم للدفاع عن الإسلام وانتزاع الثغور من يد العدو. وكانت الحركة الوطنية ثمرة جهود علمائها على مدى قرون عديدة، حيث ألهبت حماس المغاربة لمقاومة الاستعمار وأيقظت الوعي الوطني فكانت معقلا شامخا في المواطنة.
فاطمة الفهرية اسم حضاري نفيس، وجامعة القرويين منارة علمية خالدة وواجهة حضارية، التحم الإسمان معا فأشرقا وتهللا وتألقا بشعاع نوراني فكان كلاهما صدى للآخر.