تعريف بالكتاب

إن طرق الاستنباط، ومناهج الاستدلال، وآليات الاستمداد من الخطاب الشرعي، وضروب الاجتهاد تتعدد وتتنوع، تأتلف وقد تختلف.

 وأقْدر هذه الأضرب الاجتهادية على مواكبة المستجدات، ومسايرة التطورات بالنظر والتمحيص، والتقويم والتسديد؛ هو الاجتهاد المقاصدي القائم على تعليل الأحكام وتقصيدها بالحجة والبرهان، والدليل والبيان؛ الجامع لشتات الجزئيات والأفراد، بإدراجها ضمن النسق العام للكليات، بنظر كليّ مُستوعب لمنظومة التشريع المحْكَمة، المُنزّل للفروع منزلتها، وللأصول مكانتها. فبهذا المسلك الاجتهادي ينضبط الفقه ويُرشَّد الاجتهاد، ويَنضج التقنين والتنزيل، وتُمنح النصوص الشرعية – من حيث هي وحي- صفة الصلاحية الدائمة، والهيمنة، والقابلية للتنزيل الإجرائي، والمواكبة للأقضية والمستجدات.

وإن مسؤولية العلماء الربانيين الحكماء – ونحسب الشاطبي أحدهم ولا نزكيه على الله-كبيرة في إرشاد الخلق وبيان الحق، والميل جهة الدليل، والدوران معه حيث دار، بعد ضبطه مجردا، وفهمه بأدوات الفهم؛ والنظر في آليات إعماله بقواعد التنزيل القائمة على السّبْر وتحقيق المناطات العامة والخاصة، وتكييف مستجدات الوقائع وأفراد النوازل، ووزنها بميزان المصالح والمفاسد المعتبرة الحقيقية أو المظنونة ظنا غالبا؛ لا المتوهمة المائلة مع نزعات النفس وميولات الأهواء.

وهذا يتطلب انخراطا مسؤولا وفاعلا في واقع الحياة وحياة الواقع، ومكابدة آلامه واستشراف مستقبله؛ تبرئة للذمة، وأداء لحق ميراث النبوة، وأداء لواجبات الأوقات، وزكاةً لرزق عافية وسلامة الأبدان، ونعمة العقل مناط التكليف والتصرفات.

وهذا الكتاب الذي نقدمه للقارئ الكريم، مساهمة في بيان المنزع التجديدي عند الإمام النظار أبي إسحاق الشاطبي . فلا يكاد يخفى على دارس للعلوم الإسلامية، ومحتك بمجال استنباط الأحكام؛ اسم من أسماء الراسخين في العلم، وعَلم من أعلام الشريعة المبرزين، وإمام من أئمة الإسلام المعتبَرين، وأحد الجهابذة المحققين الذين ذاع صيتهم، وطبّقت الآفاقَ شهرتُهم ؛ حتى أضحى لقب الشاطبي منقوشا في ذاكرة الدارسين، وتأصيلاته  مبثوثة في دراسات المحْدَثين للقضايا الفقهية والأصولية والمقاصدية.

ولذلك سوف لن أطيل هذه الورقات بتعريف المعروف، والترجمة للمألوف؛ وقد كُفينا مؤونة ذلك من قِبَل الدارسين لتراث الإمام الألمعي، والمترجمين له[1]؛ مركزا على شهادات العلماء فيه، ومبرزا لجهوده في خدمة الشريعة تأصيلا وتقعيدا، وقد مهدتُ لذلك ببحث أهمية الاجتهاد المقاصدي وضرورته لاستنباط الأحكام وتنزيلها في الفصل الأول؛ انتظم تحته أربعة مباحث؛ تناولتُ في المبحث الأول التعريف المختار للمقاصد والاجتهاد المستصحب لها، وأشرتُ في المبحث الثاني إلى أن مراعاة قصد المكلف من مراعاة مقاصد الشريعة على كمالها. وجاء المبحث الثالث متضمنا بيان حاجة الاستنباط الفقهي إلى الاجتهاد المقاصدي، ثم أنهيت الفصل بمبحث رابع أبرزت فيه ضرورة الاجتهاد المقاصدي باعتباره منهج نظر وتنزيل لاستنباط أحكام النوازل المستجدة.

أما الفصل الثاني فتناولتُ فيه إسهامات الشاطبي التجديدية، وجهوده المعتبرة في التقعيد للاجتهاد المستصحب للمقاصد الشرعية المرعية؛ وانتظمته خمسة مباحث.

جاء الأول منها بعنوان: الشاطبي يؤسس لمرحلة جديدة من مراحل التأليف في العلوم الإسلامية، وتناولتُ في المبحث الثاني الملامح التجديدية في التأليف الأصولي عند الشاطبي، واشتمل المبحث الثالث على شهادات تُثبت إمامة الشاطبي، واستحقاقه لقبَ المجدد؛ أما المبحث الرابع فقمتُ فيه بجردٍ وتصنيفٍ لأهم قواعد المقاصد عند الشاطبي، وختمتُ الدراسة بخلاصة كرَّتْ بالإجمال على ما جاء مفصلا في ثناياه.


[1]–  ذكر أحمد بابا التنبكتي (ت1036هـ) ترجمة له من ست صفحات في نيل الابتهاج  بتطريز الديباج 1/33، كما ترجم له محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي (1376 هـ ) ترجمة مقتضبة في الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي: 2/291، كما أورد الدكتور محمد أبو الأجفان ترجمة مستفيضة للشاطبي في اثنين وأبعين صفحة من ص:44 إلى ص: 86 في كتابه فتاوى الإمام الشاطبي، تحقيق وتقديم، ص:33 وما بعدها.

شاركها.

البشير بن محمد القنديلي، من مواليد آسفي 29 مايو 1971. أستاذ التربية الإسلامية، حاصل على دكتوراه بميزة مشرف جدًا عام 2012 حول "الاجتهاد المقاصدي". يشغل مهام رئيس مركز زيد بن ثابت لخدمة القرآن الكريم ويعمل في الوعظ والخطابة. لديه منشورات علمية حول الفقه والاجتهاد المقاصدي.

تعليقان

اترك تعليقاً

Exit mobile version