الحمد لله رب العالمين، ملء السموات السبع والأرضين، وملء ما شاء من شيء إلى يوم الدين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على نبينا محمد سيد الأولين والآخرين، وأشرف السابقين واللاحقين، المبعوث رحمة للعالمين، ورضي الله عن الآل والصحب والتابعين، ومن سلك طريقهم واقتفى أثرهم إلى أبد الآبدين.
أما بعد؛ فإن نعم الله علينا كثيرة، وآلاءه غزيرة ووفيرة، وأشرفُها وأعلاها إكرامه إيانا بخير كتاب أنزل؛ ﴿يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 89]، وأفضل نبي أرسل؛ لإقامة الملة العوجاء، وإخراج الناس من متاهات الظلماء؛ فأتم الله به النعمة، وكشف به الغمة، وعلمنا الكتاب والحكمة.
ومن رحمة الله بنا أنه تكفل بحفظ كتابه العزيز؛ كما قال سبحانه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، وقال: ﴿لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 41].
ومن تمام حفظ الكتاب العزيز حفظ سنة النبي المجتبى الذي لا ينطق عن الهوى، وقد هيأ الله لذلك رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه؛ فقضوا حياتهم في طلب الحديث وحفظه، وتمحيصه وتنقيحه، وميزِ صحيحه من ضعيفه، وغثه من سمينه، وخالصه من بهرجه.
ومن الحفاظ الأفذاذ والجهابذة النقاد الذين بذلوا النفس والنفيس والغالي والرخيص في حفظ أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه الحافظ الكبير، ذو العلم الغزير، والحفظ الكثير، والفقه الوفير أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري الجعفي (ت256هـ) رحمه الله تعالى، صاحب التصانيف البديعة الفائقة، والمؤلفات المنيفة الرائقة كالتواريخ الثلاثة، والضعفاء الصغير والكبير، وجزء خلق أفعال العباد، ورفع اليدين، والهبة، والعلل، والفوائد، وغيرها كثير.
وأجود مصنفات الإمام أبي عبد الله البخاري “الجامعُ المسنَدُ الصحيحُ المختصرُ من أمورِ رسولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – وسننِهِ، وأيامِهِ” . وقد كان هذا السِّفر الفخم وما يزال ثالث ثلاثة مدونات حديثية أجمع حفاظ الأمة وفقهاؤها ومن يعتد بقوله منها على أنها أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى، وممن نقل هذا الإجماعَ الإمام المحقق المدقق القاضي عياض اليحصبي (ت544هـ) فقال: “أُجمع على تقديمها في الأعصار، وقبلها العلماء في سائر الأمصار، كتب الأئمة الثلاثة الموطأ لأبي عبد الله مالك ابن أنس المدني، والجامع الصحيح لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، والمسند الصحيح لأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري؛ إذ هي أصول كل أصل، ومنتهى كل عمل في هذا الباب، وقول وقدرة مدعي كل قوة بالله في علم الآثار، وحول وعليها مدار أندية السماع، وبها عمارتها، وهي مبادئ علوم الآثار وغايتها، ومصاحف السنن ومذاكرتها، وأحق ما صرفت إليه العناية وشغلت به الهمة” .
وأصح الثلاثة صحيح البخاري وفق ما ذهب إليه “الجماهير وأهل الاتقان والحذق والغوص على أسرار الحديث” ، وخلافا لأبي علي النيسابوري (ت349هـ) وبعض المغاربة الذين فضلوا صحيح مسلم ، وبعض علماء المالكية الذين فضلوا موطأ الإمام مالك (ت179هـ) كأبي بكر ابن العربي المعافري (ت543هـ) القائل: “اعلموا –أنار الله أفئدتكم- أن كتاب الجعفي هو الأصل الثاني في هذا الباب، والموطأ هو الأول واللباب، وعليهما بنى الجميع” .
وقد ظل للبخاري وصحيحه المكانة العالية، والمنزلة السامية إلى أن نبتت في الأمة نبتة خَلْف خالفوا إجماع الأئمة الأعلام، واتبعوا غير سبيل الحفاظ العظام؛ فادعوا أن لا ثقة في المؤلِّف ولا في المؤلَّف، وجرؤوا نكرات في العلم الشرعي فادعوا تارة جهل البخاري، وتارة بطلان ما في كتابه، وأنه مخالف للقرآن الكريم، أو الأحاديث الصحاح، أو العقل، أو العلوم البحتة، أو الواقع.
فكان من الواجبات الوقتية أن يُعنى كل غيور على الدين وأصوله ممن له دراية بصحيح المنقول وصريح المعقول ببيان حجية السنة النبوية أولا، وما امتازت به الأمهات الحديثية الثلاث من المعايير العلمية، والمقومات المنهجية التي تجعلها قمنة بالاعتماد والاحتجاج. وقد شرُف بذلك جمع من العلماء العقلاء والباحثين الأذكياء؛ فانتصروا للسنة وأصولها بمؤلفات ودراسات، وفيديوهات، ومحاضرات وندوات، وملتقيات ومناظرات.
وإسهاما في أداء بعض ما وجب؛ بيضنا هذه الصفحات؛ تبيانا لمكنة الإمام البخاري، ومكانة صحيحه، ودرء شبهات الطاعنين فيه؛ ليكون لبنة من لبنات الندوة العلمية الوطنية الموسومة ب”دعاوى الطاعنين في السنة النبوية في ميزان النقد العلمي” التي أشرف على تنظيمها –مشكورا مذكورا- مركز مقاصد للدراسات والبحوث وجمعية الرميصاء للتنمية النسوية.
وقد جاءت صفحات هذا البحث منتظمة مقدمة، وخمسة مطالب، وخاتمة، والمطالب الأربع الأولى انتظمت الخصائص المنهجية لصحيح البخاري وهي الشمول والاستيعاب، والإسناد، والأصحية، وخصائص إضافية كالانتقاء والتحري، والاختصار، والعناية بفقه الحديث، والمطلب الخامس خصص لمقومات الحجية.
واعتمدت في بحثي المنهج الاستقرائي الناقص، والمنهج التحليلي، والمنهج الحواري التدافعي؛ فأما الأول فإننا استثمرناه في تتبع ما امتاز به صحيح الإمام البخاري من الصفات الإعدادية والتنفيذية والشكلية والمضمونية، وتتبع المقومات الذاتية والموضوعية التي توصلنا إلى التحقق من فرضية أن لجامع الإمام البخاري الأسبقية والأفضلية، وأن أحاديثه المسندة صحيحة إجمالا، وأن ما لم يثبت نسخه منها حجة واجب الاتباع.
وأما الثاني فإن ما توصلنا إليه من الخصائص والمقومات فسرناه، وحللناه، وعللناه، ووضعناه في ميزان النقد العلمي.
وأما الثالث فاستدعيناه حين مناقشة الطاعنين في صحيح البخاري، والرد على شبهاتهم.
ونشير إلى أن ما أوردناه في بحثنا من الأحاديث إن كانت مما أخرجه البخاري ومسلم أو أحدهما فإننا لا نعزوها إلى غيرهما، وما عزوناه إلى غيرهما فهو مما صح، ولم نحتج بخبر ضعيف.
وكل مصدر أو مرجع لم نذكر من حققه، أو لم نذكر رقم طبعته، وسنة نشره فذلك آيل إلى أن هذه البيانات مفقودة، ولم نشر إلى ذلك في الغالب اختصارا.
والله أسأل الصواب في القول والعمل.
المطلب الأول: خصيصة الشمول والاستيعاب في جامع البخاري
أول ما يدل على هذه الخصيصة أن الإمام البخاري رحمه الله سمى كتابه (الجامع)، ومعنى الجامع في عرف المحدثين كل كتاب حديثي مرتب على الأبواب “يوجد فيه من الحديث جميع الأنواع المحتاج إليها من العقائد والأحكام والرقاق وآداب الأكل والشرب والسفر والمقام وما يتعلق بالتفسير والتاريخ والسير والفتن والمناقب والمثالب وغير ذلك” .
وإذا رجعنا البصر في كتاب الإمام البخاري ألفينا محتواه يصدق وسمه؛ فقد حوى سبعة وتسعين كتابا ابتدأها بكتاب بدء الوحي، ثم الإيمان، ثم العلم، ثم كتب العبادات كالطهارة والصلاة والصيام والزكاة، والحج، وما له تعلق به كالعمرة والصيد وفضائل المدينة، ثم كتب المعاملات المالية كالبيوع والشفعة، والإجارة… ثم كتب الشهادات والصلح والشروط وغيرها، ثم كتب الجهاد والسير وما تعلق بهما، ثم كتب المناقب والفضائل، ثم المغازي، ثم تفسير القرآن وفضائله، ثم كتب النكاح والطلاق والنفقات، ثم كتب الأطعمة والذبائح والأشربة، ثم الطب، ثم اللباس، ثم الأدب، ثم الاستئذان، وكتب أخرى متنوعة تشمل الرقاق، والأيمان والنذور والكفارات، والحدود… ثم ختم الصحيح بكتاب التوحيد؛ ليكون الكتاب شاملا لعمل القلب والعقل والجوارح، والتصرفات الفردية والجماعية، وعلاقة الإنسان بنفسه وعلاقته بربه، وعلاقته بغيره.
فإن قيل صفة الشمول ليست خصيصة للكتاب؛ فقد سُبق جامع البخاري بجوامع كجامع أبي عروة معمر بن راشد البصري ثم اليمني (ت154هـ)، وجامع أبي عبد الله سفيان بن سعيد الثوري (ت161هـ)، وجامع أبي محمد عبد الله بن وهب المصري (ت197هـ)، وغيرها، ثم بعض مَن جاء بعد البخاري ألف –أيضا- الجامع؛ كأبي الحسين مسلم بن الحجاج (ت161هـ)، وأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي (ت279ه)؛ فالجواب أن من سبقوا البخاري وإن سموا كتبهم جوامع فما طالته اليد منها كجامعي معمر والثوري ألفيناه لا يبلغ مبلغ جامع البخاري ولا نصفه استيعابا وشمولا؛ والكتابان مطبوعان يمكن للمستيقن أن يرجع إليهما للتثبت. نعم كتب المسانيد التي ألفت قبل صحيح البخاري شاملة –أيضا- غير أنها ليست مرتبة على الكتب والأبواب. وأما الإمامان مسلم والترمذي فهما تلميذا الإمام البخاري وخِرِّيجاه، ولا يتجاوز صحيح مسلم أربعة وخمسين كتابا، ولم يسمه جامعا، وقد أبى بعض أهل العلم أن يطلق عليه اسم الجامع؛ فقال العلامة المحدث عبد العزيز الدهلوي (ت1239هـ): “فالجامع ما يوجد فيه أنموذج كل فن من هذه الفنون المذكورة كالجامع الصحيح للبخاري والجامع للترمذي، وأما صحيح مسلم فإنه وإن كانت فيه أحاديث تلك الفنون لكن ليس فيه ما يتعلق بفن التفسير والقراءة ولهذا لا يقال له الجامع كما يقال لأختيه” ، وفيما قاله –رحمه الله- نظر؛ فقد خُتم كتاب مسلم بكتاب التفسير، ولكنه اكتفى فيه بسبعة أبواب. وأما جامع الإمام الترمذي فلا يتجاوز ستة وأربعين كتابا، وقد أفاد كثيرا من شيخه البخاري، وسار سيره.
المطلب الثاني: خصيصة الإسناد
سمى الإمام البخاري صحيحه (المسند)، وقد اختلف أهل العلم في دلالة هذا المصطلح فذهب الإمام أبو عبد الله الحاكم النيسابوري (ت405هـ) إلى أن “المسند من الحديث أن يرويه المحدث عن شيخ يظهر سماعه منه لسن يحتمله، وكذلك سماع شيخه من شيخه إلى أن يصل الإسناد إلى صحابي مشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم” ، واختار حافظ المغرب الإمام أبو عمر يوسف ابن عبد البر (ت463هـ) أن “المسند هو ما رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة” ، وقال حافظ المشرق أبو بكر أحمد بن ثابت الخطيب البغدادي (ت463هـ): “المسند هو الذي اتصل إسناده من راويه إلى منتهاه، وأكثر ما يستعمل ذلك فيما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دون ما جاء عن الصحابة وغيرهم” . وقد اصطفى الحافظ أبو الفضل أحمد ابن حجر العسقلاني (ت852هـ) القول الأول؛ فقال: “المسند في قول أهل الحديث: (هذا حديث مسند) هو: مرفوع صحابي بسند ظاهره الاتصال” . وعلى اختلاف العلماء في دلالة مصطلح المسند فقد اتفقوا على أن الحديث إذا جمع صفتين يسمى مسندا؛ أولاهما: أن يكون متصلا، والثانية: أن يكون مرفوعا، وقد اجتمعت الصفتان في الأحاديث الأصول التي احتج بها البخاري.
فإن قيل: إن في الصحيح أحاديث ليست مسندة؛ ففيه معلقات كثيرة، عددها – وفق ما ذكر الحافظ ابن حجر- “ألف وَثَلَاث مائَة ووَاحِد وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا” ؛ فالجواب أن ما علقه الإمام البخاري على ضربين: الأول: معلقات وصلها الإمام البخاري في موضع آخر، وهذا حال أكثر المعلقات، ونمثل لهذا الضرب بحديث “المؤمن لا ينجس”؛ فقد علقه البخاري في موضع فقال: “وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن لا ينجس»” ، ووصله في موضع سابق فأخرج بسنده المتصل عن أبي هريرة قال: “لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جنب، فأخذ بيدي، فمشيت معه حتى قعد، فانسللت، فأتيت الرحل، فاغتسلت ثم جئت وهو قاعد، فقال: «أين كنت يا أبا هر»، فقلت له، فقال: «سبحان الله يا أبا هر إن المؤمن لا ينجس»” ، والضرب الثاني: معلقات لم يصلها وعددها لا يربو على “مائة وستين حديثا” ، ولم يحتج بهذه الأحاديث ولا أخرجها في الأصول، وإنما ذكرها لإيراد مذهب أو إيضاح معنى أو حكم، أو ترجمة، ومنها ما جزم بعزوه إلى من علق عنه؛ كقوله: “وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي: «إن للإيمان فرائض، وشرائع، وحدودا، وسننا، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص»” . فهذا صحيح عنده غير أنه ليس على شرطه في كتابه؛ ولذا علقه، ومنها ما علقه بصيغة التمريض و”لا يستفاد منها صحة ولا تنافيها أيضاً؛ لأنه وقع من ذلك كذلك وهو صحيح” ، وقد صرح – رحمه الله- بضعف بعض ما علقه، ومن ذلك قوله: “ويُذكر عن أبي هريرة، رفعه «لا يتطوع الإمام في مكانه ولم يصح»” .
وإجمالا فمعلقات البخاري جميعها مما وجد متصل الإسناد داخل الصحيح أو في غيره، وقد عُني الحافظ ابن حجر العسقلاني بوصل جميع معلقات البخاري في كتاب مفرد سماه “تغليق التعليق” .
وما أخرجه البخاري في صحيحه مرسلا، فمنه ما روي مرسلا ومسندا فرواه من الوجهين، ورجح إسناده؛ نحو قوله: “حدثنا محمد بن مقاتل، أخبرنا عبد الله، أخبرنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: «لم تكن تقطع يد السارق في أدنى من حجفة أو ترس، كل واحد منهما ذو ثمن» رواه وكيع، وابن إدريس، عن هشام، عن أبيه مرسلا” . وما رواه مرسلا فقط فليس من أصل موضوع الكتاب ، ولا هو صحيح عنده؛ إذ مذهب عامة حفاظ الحديث وأهل العلم بالأخبار – كما ذكر الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج (ت261هـ)- “ليس بحجة” ؛ فحين يخرج حديثا مرسلا ، فإما يورده في ترجمة باب ، أو استتباعا لا اعتمادا؛ كقوله: “حدثنا علي، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، عن سعيد بن المسيب، ح وعن عباد بن تميم، عن عمه، أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ فقال: «لا ينفتل – أو لا ينصرف – حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا»” ، فالعمدة في هذا الحديث على رواية عباد بن تميم عن عمه، ورواية ابن المسيب عاضدة لها. وقد يخرج المرسل؛ لتعلقه بسياقة حديث مسند؛ فيورده إلماعا إلى أنه لا يصح مسندا؛ ومن نماذج ذلك قوله: “حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، ح وحدثني عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر: قال الزهري: فأخبرني عروة، عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح (…) وفتر الوحي فترة حتى حزن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما بلغنا، حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رءوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدى له جبريل، فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه، فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك” ؛ فالحديث من مسند عائشة إلا قوله “فيما بلغنا حزنا غدا من مرارا كي…”؛ وآية ذلك أمران: أولهما عبارة “فيما بلغنا”؛ فلا معنى لأن تقولها عائشة في آخر الحديث دون أوله، فلم يبق إلا أن يكون من مرسل الزهري( )، وهو تابعي توفي سنة 124 ه، أو من “بلاغات معمر، ولم يسنده ولا ذكر راويه، ولا أنه – صلى الله عليه وسلم – قاله” ، ومعمر هو ابن راشد البصري ثم اليمني من أتباع التابعين توفي سنة 154هـ ؛ فيكون الحديث معضلا. والأمر الثاني: أن البخاري أخرج الحديث من طريق عقيل عن الزهري ، ومن طريق عقيل ويونس بن يزيد عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة، ولم يذكر فيه الهم بالانتحار؛ فألمع بهذا إلى أن معمرا تفرد بذلك عن الزهري، وأنه لا يصح موصولا.
ومن العجب –حقا- أن يتخذ بعضهم هذا الحديث مطية للطعن في البخاري واتهامه بالإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والحق أن البخاري –كما أسلفنا- ما ذكره إلا لتعلقه بسياق الرواية التي بين المحفوظ منها موصولا. ولو صح الحديث لم يضر الجناب النبوي شيئا؛ لأنه “يحمل على أنه كان أول الأمر كما ذكرناه، أو أنه فعل ذلك؛ لما أحرجه من تكذيب من بلغه كما قال تعالى: ﴿ • ﴾ [سورة الكهف آية 6]… أو خاف أن الفترة لأمر أو سبب منه فخشي أن تكون عقوبة من ربه؛ ففعل ذلك بنفسه ولم يرد بعدُ شرع بالنهي عن ذلك فيعترض به، ونحو هذا فرار يونس عليه السلام خشية تكذيب قومه له لما وعدهم به من العذاب…” .
فإن قيل: في صحيح البخاري أحاديث من طريق مدلسين؛ فالجواب أن المدلسين أقسام، فمنهم من كان تدليسه نادرا كيحيى بن سعيد الأنصاري (ت143هـ)، أو قليلا كسفيان بن سعيد الثوري (ت161هـ)، وهذان القسمان قد قبل الحفاظ عنعناتهم، ولم يروا تدليسهم قادحا في حديثهم، وهو ما سلكه البخاري، وقسم أكثر من التدليس كقتادة بن دعامة السدوسي (ت117هـ)، وسليمان بن مهران الأعمش (ت145هـ)؛ فهذا القسم ألفيناه مصرحا بالسماع في أحاديث كثيرة، ومنها ما أخرجه البخاري بسنده إلى قتادة، قال: “حدثنا أنس رضي الله عنه، قال: أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم جبة سندس، وكان ينهى عن الحرير، فعجب الناس منها، فقال: «والذي نفس محمد بيده، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا»” ، ومنها ما بين البخاري نفسه فيه تصريح المدلس بالسماع في طريق آخر، ولهذا نماذج كالحديث الذي أخرجه البخاري بسنده عن “قتادة، عن أبي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار، فيتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا نقوا وهذبوا، أذن لهم بدخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده، لأحدهم بمسكنه في الجنة أدل بمنزله كان في الدنيا» ، قال البخاري عقبه: “وقال يونس بن محمد: حدثنا شيبان، عن قتادة، حدثنا أبو المتوكل” .
وقد يروي البخاري حديث المدلس المعنعن من طريق مَن عرف بالتحري في رواية المدلسين والتحقق من سماعهم؛ فلا تضر العنعنة حينئذ؛ ومن أمثلة ذلك قول البخاري: “حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، ح وحدثني سليمان، قال: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأسود، قال: سألت عائشة رضي الله عنها، كيف كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل؟ قالت: «كان ينام أوله ويقوم آخره، فيصلي، ثم يرجع إلى فراشه، فإذا أذن المؤذن وثب، فإن كان به حاجة، اغتسل وإلا توضأ وخرج»” ؛ فهذا الحديث رواه شعبة عن أبي إسحاق السبيعي، وقد أخرج عبد الرحمن بن أبي حاتم (ت327هـ) بسنده الصحيح عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال: “كلما حدث به شعبة عن رجل فقد كفاك أمره؛ فلا تحتاج أن تقول لذلك الرجل سمع ممن حدث عنه؟” ، وقال أبو بكر البيهقي (ت458هـ): “وروينا عنه (أي شعبة) أنه قال: كفيتكم تدليس ثلاثة: الأعمش، وأبي إسحاق، وقتادة” .
وقد يخرج البخاري حديث المدلس معنعنا؛ لأنه متابع في روايته، أو صرح بالسماع في طريق آخر، وإن لم يخرج البخاري حديث المتابعة أو التصريح؛ ومن أمثلته ما أخرجه البخاري بسنده عن ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر نحوا من قول مجاهد: “إذا اختلطوا قياما، وزاد ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «وإن كانوا أكثر من ذلك، فليصلوا قياما وركبانا»” ، فابن جريج مدلس، ولكنه تابعه “في روايته عن موسى سفيان الثوري كما في صحيح مسلم حديث 839، وكما في سنن النسائي حديث 1542، وقد صرح ابن جريج بالسماع من موسى كما في مستخرج الإسماعيلي فيما نقله الحافظ في الفتح” .
فإن قيل: صفة الإسناد لم يختص بها صحيح البخاري؛ فالمسانيد المؤلفة قبله تتصف بها، وصحيح مسلم مسند أيضا؛ فالجواب أن المسانيد يكتفى فيها بأن يكون السند ظاهره الاتصال، ومعنى ذلك أن ” الانقطاع الخفي، كعنعنة المدلس، والمعاصر الذي لم يثبت لقيه لا يخرج الحديث عن كونه مسندا؛ لإطباق الأئمة الذين خرجوا المسانيد على ذلك” ، والإمام مسلم – رحمه الله- اشترط في صحيحه حقيقة الاتصال، غير أنه في الحديث المعنعن اكتفى باشتراط المعاصرة وإمكان اللقاء؛ وقد صرح بذلك في مقدمة صحيحه؛ فقال: ” القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديما وحديثا، أن كل رجل ثقة روى عن مثله حديثا، وجائز ممكن له لقاؤه والسماع منه لكونهما جميعا كانا في عصر واحد، وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا ولا تشافها بكلام فالرواية ثابتة، والحجة بها لازمة، إلا أن يكون هناك دلالة بينة أن هذا الراوي لم يلق من روى عنه، أو لم يسمع منه شيئا، فأما والأمر مبهم على الإمكان الذي فسرنا، فالرواية على السماع أبدا حتى تكون الدلالة التي بينا” ، وأما الإمام البخاري فقد اشترط حقيقة الاتصال، واستقرأ العلماء من صنيعه أنه يشترط في المعنعن أن يثبت لقاء المعنعِن للمعنعَن عنه ولو مرة” .
ثم إن البخاري تحاشى بعض الروايات التي يشك في أن رواتها تحملوا الحديث وجادة، في حين اعتمدها مسلم لما قوي عنده احتمال السماع؛ ومن ذلك أن البخاري “ترك الرواية عن سهيل بن أبي صالح ; لأنه قد تكلم في سماعه من أبيه، وقيل: صحيفة، واعتمد عليه مسلم لما وجده تارة يحدث عن أبيه، وتارة عن عبد الله بن دينار عن أبيه، ومرة عن الأعمش عن أبيه، فلو كان سماعه صحيفة كان يروي الكل عن أبيه” .
وأما ما ذكره البخاري من الأحاديث الموقوفة والمقطوعة فليست من صلب الكتاب، وإنما يذكرها لتقرير مذهب أو تفسير آية أو حديث، وكثيرا ما يوردها معلقة؛ إيماء إلى أنها مذكورة بالتبع لمقصد من المقاصد السالفة، ومن النماذج الموضحات لذلك قوله: “باب غسل الميت ووضوئه بالماء والسدر، وحنط ابن عمر رضي الله عنهما ابنا لسعيد بن زيد، وحمله، وصلى ولم يتوضأ وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «المسلم لا ينجس حيا ولا ميتا» وقال سعيد: «لو كان نجسا ما مسسته» وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن لا ينجس»” .
وإذا تقرر ما سلف؛ ثبت أن الإمام البخاري قد وفى صفة الإسناد حقها ومستحقها، وأنه اختص بأعلى درجاتها، والله أعلم.
المطلب الثالث: خصيصة الأصحية في جامع البخاري
تستفاد صحة أحاديث الجامع المسندة من أمور: أولها: أن البخاري سمى كتابه (الصحيح)، والثاني: أنه صرح بصحته؛ فقال: “ما أدخلت في هذا الكتاب يعني جامعه الصحيح إلا ما صح وتركت من الصحاح حتى لا يطول الكتاب” ، وقال –أيضا-: “صنَّفْتُه في المسجد الحرام، وما أدخلت فيه حديثًا إلا بعد ما اسْتخرت الله تعالى وصليت ركعتين، وتيقنت صحته” . والثالث: أنه استفاض كلام العلماء محدثين وفقهاء بصحته، وننتقي من شهاداتهم الكثيرة بهذا قول الإمام أبي سليمان الخطابي (ت388هـ): “وغرض صاحب هذا الكتاب (يعني البخاري) إنما هو ذكر ما صح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من حديث في جليل من العلم أو دقيق (…) فأصبح هذا الكتاب كنزا للدين، وركازا للعلوم، وصار بجودة نقده وشدة سبكه حكما بين الأمة فيما يراد أن يعلم من صحيح الحديث وسقيمه، وفيما يجب أن يعتمد ويعول عليه منه” ، وقول الإمام أبي المعالي الجويني (ت478هـ): “لو حلف انسان بطلاق امرأته أن ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما بصحته مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما ألزمته الطلاق ولا حنثته؛ لاجماع علماء المسلمين على صحتهما” ، وقد ذهب بعض المحققين إلى القول بأن ما في الصحيحين مقطوع بصحته؛ فقال الإمام أبو عمرو ابن الصلاح (ت643هـ): “جميع ما حكم مسلم بصحته من هذا الكتاب فهو مقطوع بصحته، والعلم النظري حاصل بصحته في نفس الأمر، وهكذا ما حكم البخاري بصحته في كتابه؛ وذلك لأن الأمة تلقت ذلك بالقبول سوى من لا يعتد بخلافه ووفاقه في الإجماع، والذي نختاره أن تلقي الأمة للخبر المنحط عن درجة التواتر بالقبول يوجب العلم النظري بصدقه، خلافا لبعض محققي الأصوليين حيث نفى ذلك بناء على أنه لا يفيد في حق كل واحد منهم إلا الظن، وإنما قبله لأنه يجب عليه العمل بالظن، والظن قد يخطئ، وهذا مندفع؛ لأن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ” .
فإن قيل: الصحة المدعاة معدومة؛ فقد انتقد جمع من العلماء صحيح البخاري؛ فالجواب أن هذا واقع لا ينكره إلا معاند، لكن قراءة عميقة في نقدهم تثمر أمورا: الأول: أن انتقادهم يدل على مكانة المؤلِّف والمؤلَّف؛ فلولاها ما أنفقوا جهدهم، ووظفوا نظرهم فحْصا وتمحيصا لمرويات الصحيح، والثاني: أن أئمة أهل السنة وعلماءهم لم يقدسوا البخاري ولا عمله البشري، ولم يجعلوا جهده معصوما من الخطأ والزلل، والثالث: أن منتقدي أحاديث في صحيح البخاري كأبي الحسن الدارقطني (ت385)، وأبي مسعود الدمشقي (ت401هـ)، وأبي علي الغساني الجياني (ت498هـ) أئمة أعلام وصيارفة حديث حذاق، شهد لهم أهل الاختصاص بالنبوغ في علم الحديث رواية ودراية، والرابع: أن ما انتقده بعض أئمة الحديث بالتتبع والإحصاء شيء قليل لا يتجاوز “مائة وعشرة أحاديث” ، وإذا عٌلم أن عدد أحاديث صحيح البخاري بإسقاط المكرر أربعة آلاف حديث وفق ما
ذكره الإمام ابن الصلاح ، وتبعه النووي (ت676هـ) ؛ فإن الأحاديث المنتقدة لا تتجاوز نسبة 2,5 في المائة، وهي نسبة ضئيلة جدا لا أثر لها، ولا تنفي – على فرض التسليم بها- خصيصة الصحة من حيث الجملة؛ ولهذا قال الإمام ابن الصلاح: ” القول بأن ما انفرد به البخاري أو مسلم مندرج في قبيل ما يقطع بصحته لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول على الوجه الذي فصلناه من حالهما فيما سبق، سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ، كالدارقطني وغيره، وهي معروفة عند أهل هذا الشأن” . والخامس: أن الأحاديث المنتقدة –على قلتها- أكثر النقد متوجه فيها إلى الأسانيد لا المتون، وترتبط بعلل الحديث التي تتفاوت فيها أنظار النقاد، فقد يقع شيء من الاختلاف في أسانيد حديث في الرفع والوقف، أو في اسم الصحابي الذي روى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو المزيد في متصل الأسانيد، أو أن يكون للراوي شيخان فيختلف الرواة فيمن روى عنه منهما وكلاهما ثقة… وأكثر ذلك مما يعل السند لا المتن لو افترضنا رجحان قول الناقد؛ ولئلا يكون كلامنا مرسلا نمثل بنموذجين مما انتقده الإمام أبو الحسن الدارقطني، ونموذج مما انتقده الإمام أبو مسعود الدمشقي، ورابع مما انتقده الإمام أبو علي الجياني:
– النموذج الأول: قال الإمام الدارقطني: “وأخرجا (يعني البخاري ومسلما) جميعاً حديث الأعمش عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس (في قصة القبرين وأن أحدهما كان يستبرىء من بوله) وقد خالفه منصور فأسقط طاوساً. وأخرج البخاري وحده حديث منصور وحده على إسقاطه طاوساً” . قلت: هذا نموذج للمزيد في متصل الأسانيد؛ فمجاهد تلميذ ابن عباس، ومن أكثر التابعين نقلا عنه، ولم يعرف بالتدليس؛ ولذا لا ريب في اتصال روايته عنه، وأما رواية الأعمش الحديث عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس، بزيادة طاوس؛ فلا تعل الحديث؛ لأنه بذكره وبدون ذكره، يكون الحديث متصل الإسناد؛ ولهذا أخرج البخاري الحديث بالطريقين بزيادة طاوس وبدونها؛ إلماعا إلى ثبوتهما معا، والأشبه في هذا الحديث ومثله أن يقال: إن “مجاهدا سمعه من طاوس عن ابن عباس، ثم سمعه من ابن عباس بلا واسطة أو العكس” .
– النموذج الثاني: قال الإمام الدارقطني: ” وأخرج البخاري عن سليمان بن حرب، عن حماد، عن ثابت عن ابن الزبير قال: قال النبي (صلى الله عليه وسلم) : «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة« قلت: لم يسمعه ابن الزبير من النبي (صلى الله عليه وسلم)، إنما سمع من عمر: قاله أبو ذبيان وأم عمرو عنه” . وهذا في مذهب الكافة – وفيهم الدارقطني نفسه- لا يعل متن الحديث، لأن غاية ما في الأمر أن تكون رواية عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما من مرسل الصحابي؛ وهو حجة باتفاق خلا قولا شاذا، فيحمل الأمر على أن ابن الزبير سمع الحديث من عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فتارة سماه، وتارة أرسله، وهذا الذي أشار إليه البخاري، حين أخرج الحديث من رواية ابن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلمـ وأخرجه من رواية ابن الزبير عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل وأخرجه أيضا من مسند أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
– النموذج الثالث: قال الحافظ ابن حجر: ” قال أبو مسعود في حديث أبي إسحاق الفزاري عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري هو أبو طوالة سمعت أنسا يقول: «دخل النبي صلى الله عليه وسلم على بنت ملحان فاتكأ عندها ثم ضحك» الحديث وفيه «ناس من أمتي يركبون البحر الأخضر» قال أبو مسعود: هكذا في كتاب البخاري أبو إسحاق عن أبي طوالة وسقط عليه بينهما زائدة بن قدامة. كذا قال أبو مسعود!” . قلت: لو صح ما ادعاه الإمام أبو مسعود الدمشقي (ت401هـ) ما كان ثَم مغمز في المتن؛ لأن زائدة بن قدامة ثقة من أثبت الناس وأوثقهم رواية ، وواضح أن غرض هذا الإمام التنبيه على الوهم في السند لا المتن، وهو –رحمه الله- منتقد فيما انتقده على البخاري؛ لأن متكأه ضعيف، أبان عن هشاشته الحافظ ابن حجر تبعا للإمام أبي علي الجياني؛ فقال: “واستند في ذلك إلى رواية المسيب بن واضح، عن أبي إسحاق الفزاري، عن زائدة عن أبي طوالة، وهو مستند في غاية الوهاء؛ فإن المسيب ضعيف والحديث في كتاب السير لأبي إسحاق الفزاري من رواية عبد الملك بن حبيب المصيصي عنه ليس فيه زائدة، وهكذا رواه الإمام أحمد في مسنده عن معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق الفزاري عن أبي طوالة ليس فيه زائدة، كما رواه البخاري عن عبد الله بن محمد عن معاوية بن عمرو سواء ؛ حتى قال أبو علي الجياني: تتبعت طرق هذا الحديث عن أبي إسحاق فلم أجد فيها زائدة انتهى… ” .
– النموذج الرابع: قال الحافظ ابن حجر: “قال أبو علي الجياني: قال البخاري: (حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا إسرائيل، حدثنا عثمان بن المغيرة، عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت موسى وعيسى وإبراهيم عليهم السلام» الحديث. قال: والمحفوظ فيه عن مجاهد عن ابن عباس؛ قال أبو مسعود: أخطأ البخاري في قوله عن ابن عمر وإنما رواه محمد بن كثير عن إسرائيل بهذا الإسناد عن ابن عباس” . قلت: متن الحديث محفوظ سواء قلنا: إنه من مسند ابن عباس أو من مسند ابن عمر؛ لأن كليهما صحابي، وإن كان الأقرب للصواب أنه من مسند ابن عباس، وعلى ذلك تضافرت الروايات، والله أعلم.
والأمر السادس: أن ما انتقده هؤلاء الأئمة من الأسانيد لم يسلم لهم بصحته؛ فقد رأينا أبا علي الجياني يرد على أبي مسعود الدمشقي في النموذج الثالث، ولرده هذا نظائر ضربنا عن ذكرها صفحا خشية الطول، ثم قد جاء بعدهم بعض شراح الحديث فأجابوا عن أكثر الاعتراضات؛ فهذا النووي –رحمه الله- يقول: “قد استدرك جماعة على البخاري ومسلم أحاديث أخلا بشرطهما فيها، ونزلت عن درجة ما التزماه، وقد سبقت الاشارة إلى هذا، وقد ألف الإمام الحافظ أبو الحسن على بن عمر الدارقطني في بيان ذلك كتابه المسمى بالاستدراكات والتتبع، وذلك في مائتي حديث مما في الكتابين، ولأبي مسعود الدمشقي –أيضا- عليهما استدراك، ولأبي علي الغساني الجياني في كتابه تقييد المهمل في جزء العلل منه استدراك أكثره على الرواة عنهما وفيه ما يلزمهما، وقد أجيب عن كل ذلك أو أكثره وستراه في مواضعه إن شاء الله تعالى” .
وقال الإمام بدر الدين ابن الملقن (ت804هـ): “استدرك الدارقطني في كتابه المسمى بـ (الاستدراكات والتتبع) عَلَى البخاري ومسلم أحاديث، وطعن في بعضها، وذلك في مائتي حديث مما في الكتابين، ولأبي مسعود الدمشقي عليهما استدراك، وكذا لأبي علي الغساني في (تقييده). وقد أجبت عن ذَلِكَ كله أو أكثره، وسترى ما يخص البخاري من ذَلِكَ في مواضعه إن شاء الله تعالى وقدر” .
وقد عقد الحافظ ابن حجر الفصل الثامن من مقدمة شرحه على صحيح البخاري؛ للجواب عن جميع ما اعترض به هؤلاء النقاد على بعض الأحاديث اليسيرة من صحيح البخاري، وسماه: “في سياق الأحاديث التي انتقدها عليه حافظ عصره أبو الحسن الدارقطني وغيره من النقاد، وإيرادها حديثا حديثا” ، ثم استهل جوابه برد مجمل يرجع إلى الاتفاق على أن الإمام البخاري أعلم بالعلل من جميع من خطأه أو ضعف حديثا حكم بصحته من الوجه الذي ذكره، وعطف على رده المجمل ردا مفصلا؛ فأورد الأحاديث المعترض عليها، وبين وجه الجواب عن الاعتراض، ثم ختم بقوله: “هذا جميع ما تعقبه الحفاظ النقاد العارفون بعلل الأسانيد، المطلعون على خفايا الطرق (…) وليست كلها قادحة، بل أكثرها الجواب عنه ظاهر والقدح فيه مندفع، وبعضها الجواب عنه محتمل، واليسير منه في الجواب عنه تعسف؛ كما شرحته مجملا في أول الفصل وأوضحته مبينا أثر كل حديث منها، فإذا تأمل المصنف ما حررته من ذلك؛ عظم مقدار هذا المصنف في نفسه، وجل تصنيفه في عينه وعذر الأئمة من أهل العلم في تلقيه بالقبول والتسليم وتقديمهم له على كل مصنف في الحديث والقديم” .
هذا وإن من الأمانة العلمية أن نشير إلى أن طائفة من أهل العلم ضعفوا ألفاظ وسياق بعض المتون، وتكلموا فيما فيها من الاختلاف، والزيادة أو النقصان؛ كما هو الشأن في بعض روايات حديث الإسراء، وقصة جمل جابر… وهذا الاختلاف بعضه لا يضر؛ لإمكان الجمع، وما تعذر فيه الجمع طلب الترجيح، وعلى فرض صحة إنكار لفظة أو ألفاظ من أحاديث مخرجة في الصحيح، فلا يقدح ذلك في أصل صحة المتن؛ لاتفاق الروايات عليه.
وثمة طائفة من الأحاديث أعلها بعض النقاد بما يستوجب ضعف الحديث سندا ومتنا؛ ومن ذلك أن الإمام الترمذي (ت279هـ) أخرج بسنده عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: “خرج النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته، فقال: «التمس لي ثلاثة أحجار»، قال: فأتيته بحجرين وروثة، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة، وقال: «إنها ركس»” ، وعلق عليه بأنه حديث مضطرب، وحكى عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي (ت255هـ) والبخاري بأنهما لم يقضيا فيه بشيء وأن البخاري كان يرجح في هذا الحديث رواية زهير عن أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد عن أبيه؛ ولذا أخرجه في جامعه ، ثم خالف الترمذي فرجح رواية إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود، مشيرا إلى أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه.( ) والناظر في كلام الترمذي يجد قوله اضطرب في هذا الحديث؛ فحكم عليه أول الأمر بأنه حديث مضطرب؛ وهذا يقتضي وجود اختلاف بين روايات تساوت قوة، ويتعذر معه الجمع على قواعد المحدثين، ثم إنه خالف ما قرره من اضطراب الحديث بقوله: “وأصح شيء في هذا عندي حديث إسرائيل وقيس بن الربيع عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة، عن عبد الله”.اهـ ولو رجحت رواية إسرائيل لكان الحديث ضعيفا؛ لإرسال أبي عبيدة. والذي يظهر لي أن رواية إسرائيل عن أبي إسحاق وإن كانت من حيث الأصل أثبت من رواية زهير عن أبي إسحاق؛ للاعتبارات التي ذكرها الترمذي؛ فإن رواية زهير في هذا الحديث أثبت من وجه آخر وهو أن زهيرا “لم يتفرد به بل تابعه يوسف بن إسحاق كما سلف من عند البخاري، وتابعه أيضًا أبو حماد الحنفي وأبو مريم وشريك وزكريا بن أبي زائدة فيما ذكره الدارقطني. وقال الآجري: سجلت أبا داود عن زهير وإسرائيل في أبي إسحاق فقال: زهير فوق إسرائيل بكثير” ، ويبعد أن يجتمع هؤلاء على الوهم. وأما متابعة قيس بن الربيع لإسرائيل فلا يفرح بها؛ لضعفه، وثمة وجه ثان، وهو اختلاف الرواة عن إسرائيل دون زهير، وبعضهم روى عنه بما يوافق رواية زهير ، ووجه ثالث: وهو قول أبي إسحاق –في الرواية التي اصطفاها البخاري-: “ليس أبو عبيدة ذكره ولكن عبد الرحمن بن الأسود” فقد أبان أبو إسحاق بكلامه هذا عن قصده الرواية عن عبد الرحمن بن أسود؛ لئلا يتوهم أنه أراد أبا عبيدة فأخطأ وقال: “عبد الرحمن بن الأسود”، وجائز أن يكون روى عنهما معا، ثم استمسك بروايته عن عبد الرحمن؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه.
فإن قيل: أبو إسحاق السبيعي مدلس، وقد دلس هذا الحديث عن عبد الرحمن؛ فالجواب أن البخاري قد فطن لهذا الإيراد؛ فذكر – عقيب إخراج الحديث من طريق زهير عن أبي إسحاق-: “وقال إبراهيم بن يوسف عن أبيه عن أبي إسحاق حدثني عبد الرحمن” ؛ فزالت شبهة التدليس، وصح الحديث على شرط البخاري.
وإن قيل: إن بعض العلماء قد أبطلوا أحاديث في صحيح البخاري؛ لمضادة العقيدة أو القرآن، أو لأنها تخدش الجناب النبوي…فمن ذلك أن الإمام أبا بكر الجصاص (ت370هـ) حكم بأن حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم من وضع الملحدين وأكد أنه يناقض مقتضى قول الله تعالى: ﴿ ﴾ [سورة الفرقان: آية 8]، وقوله جل جلاله: ﴿ ﴾ [سورة طه آية 68]، وقوله: ﴿ ﴾ [سورة المائدة آية 69]، ورَدَّه –أيضا- الإمام أبو بكر الباقلاني (ت403هـ)، وقال الإمام أبو المعالي الجويني- في سياق حديثه عن مفهوم العدد-: “ومما تعلقوا به قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}، قيل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأزيدن على السبعين» قلنا: هذا لم يصححه أهل الحديث أولا…” ، وقال الإمام أبو حامد الغزالي (ت505هـ) – ردا على من احتج بالحديث في مفهوم العدد- “والجواب من أوجه: الأول: أن هذا خبر واحد لا تقوم به الحجة في إثبات اللغة، والأظهر أنه غير صحيح؛ لأنه – عليه السلام – أعرف الخلق بمعاني الكلام، وذكر السبعين جرى مبالغة في اليأس، وقطع الطمع عن الغفران كقول القائل: اشفع أو لا تشفع، وإن شفعت لهم سبعين مرة لم أقبل منك شفاعتك” . فالجواب أنا مقرون برد بعض العلماء أحاديث، أو إنكارهم بعض ما جاء فيها، غير أن الذي يجب استحضاره أمور: أولها: أن هؤلاء تكلموا في أحاديث معدودة، ولم يطعنوا في صحيح البخاري، ولا رأوا وجود تلك الأحاديث فيه مما يفقد الأمة الثقة به، أو بصاحبه، والقاعدة أن الحكم للغالب وأن النادر لا حكم له، فعجيب أمر من يتخذ كلام السابقين مطية للطعن في الجامع الصحيح ومؤلفه، وصنيع علمائنا دال على عكس مرادهم.
وثانيها: أن هؤلاء المتكلمين في أحاديث من صحيح البخاري قد رد العلماء عليهم ولم يرتضوا حكمهم، وليس قبول حكمهم بأولى من قبول كلام من رد عليهم، وثالثها: أن رد علمائنا على من طعن في بعض أحاديث الجامع الصحيح لم يكن مستندا إلى غلو في قدر صحيح البخاري أو قداسة مؤلفه، وإنما استند إلى تصحيح فهم الحديث، وبيان أنه لا يناقض القرآن ولا يضاد المعتقد ولا أصلا من الأصول الشرعية؛ ففي حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم – مثلا- قال الإمام أبو محمد ابن قتيبة الدينوري (ت276هـ): ” قالوا: “رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «سحر، وجعل سحره في بئر ذي أروان، وأن عليا كرم الله وجهه استخرجه، وكلما حل منه عقدة، وجد النبي صلى الله عليه وسلم خفة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم، كأنما أنشط من عقال».
وهذا لا يجوز على نبي الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن السحر كفر، وعمل من أعمال الشيطان فيما يذكرون؛ فكيف يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مع حياطة الله تعالى له، وتسديده إياه بملائكته، وصونه الوحي عن الشيطان؟ والله تعالى يقول في القرآن: ﴿ ﴾ [سورة فصلت آية 41] (…) قال أبو محمد: وليس هذا مما يجتر الناس به إلى أنفسهم نفعا، ولا يصرفون عنها ضرا، ولا يكسبون به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثناء ومدحا، ولا حملة هذا الحديث كذابين، ولا متهمين، ولا معادين لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
وما ينكر أن يكون لبيد بن الأعصم -هذا اليهودي سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قتلت اليهود قبله، زكريا بن آذن في جوف شجرة، قطعته قطعا بالمناشير (…) وقتلت بعده ابنه يحيى بقول بغي، واحتيالها في ذلك، وادعت – يعني اليهود- أنها قتلت المسيح وصلبته (…)
وقتلت الأنبياء، وطبختهم، وعذبتهم أنواع العذاب، ولو شاء الله جل وعز لعصمهم منهم. والسحر أيسر خطبا من القتل والطبخ والتعذيب (…)
فإن كانوا إنما أنكروا ذلك؛ لأن الله تعالى لا يجعل للشيطان على النبي صلى الله عليه وسلم سبيلا، ولا على الأنبياء، فقد قرءوا في كتاب الله تعالى: ﴿ ﴾ [سورة الحج آية 50]” .
وقال الإمام أبو سليمان الخطابي: “وقد أنكر قوم من أصحاب الطبائع السحر، وأبطلوا حقيقته، ودفع آخرون من أهل الكلام هذا الحديث، وقالوا: لو جاز أن يعمل في نبي الله السحر، أو يكون له فيه تأثير، لم يؤمن أن يؤثر ذلك فيما يوحى إليه من أمور الدين والشريعة، ويكون في ذلك ضلال الأمة. والجواب: أن السحر ثابت وحقيقته موجودة (…) فأما ما زعموه من دخول الضرر على النبوة من أجل إثبات السحر، وتأثيره في أهلها، ووقوع الوهن في أمرها، فليس الأمر في ذلك على ما قدروه، والأنبياء صلوات الله عليهم يجوز عليه من الأعراض والعلل، ما يجوز على غيرهم إلا فيما خصهم الله به من العصمة في أمر الدين الذي أرصدهم/ له، وبعثهم به، وليس تأثير السحر في أبدانهم بأكثر من القتل، وتأثير السم والأمراض. وعوارض الأسقام فيهم، وقد قتل زكريا، وابنه يحيى عليهما السلام، وسُم نبينا، صلى الله عليه وسلم في الشاة التي أهديت له بخيبر… فلم يكن شيء مما ذكرنا قادحا في نبوتهم، ولا دافعا لفضيلتهم، وإنما هو امتحان وابتلاء” . وكلام العلماء في ذلك يطول.
قلت: وقد نظرت في كلام أبي بكر الجصاص في رد حديث السحر؛ فوجدته ساق الحديث بلفظ مخالف لما رواه البخاري ومسلم؛ فقال: “وقد أجازوا من فعل الساحر ما هو أطم من هذا وأفظع وذلك أنهم زعموا أن النبي عليه السلام سحر وأن السحر عمل فيه حتى قال فيه إنه يتخيل لي أني أقول الشيء وأفعله ولم أقله ولم أفعله، وأن امرأة يهودية سحرته في جف طلعة ومشط ومشاقة حتى أتاه جبريل عليه السلام فأخبره أنها سحرته في جف طلعة وهو تحت راعوفة البئر فاستخرج وزال عن النبي عليه السلام ذلك العارض” ، وليس فيما أخرجه البخاري “أنه يتخيل له أنه يقول الشيء، ويفعله ولم يقل ولم يفعل”، بل في بعضها أنه “يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله”، وفي بعضها “يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتي”، وهذه مفسره لتلك، ودالة على أن سحره كان عرضا بدنيا متعلقا بجماع أهله، لا أكثر، وليس في حديث السحر ما زعمه الإمام الجصاص أنه “يخيل له يقول الشيء ولا يقوله”. وما ذكره من أن “امرأة يهودية سحرته” خطأ بين، والصواب أن الذي سحره هو اليهودي لبيد ابن الأعصم. وبهذا جاءت الرواية في الصحيح، وليس في كتاب الله ما يناقض الحديث؛ فأما قوله تعالى: ﴿ ﴾ [سورة الفرقان: آية 8]؛ فواضح من سياقه أنهم عنوا بذلك أن السحر أثر فيه؛ فقال ما قال من القرآن، وقد كان المشركون يتعلقون بأي وصف يمكن أن يلبس على الناس؛ لئلا يتبعوه، فتارة يقولون: “إن تتبعون إلا رجلا مسحورا”، وتارة يقولون: “يا أيها الساحر ادع لنا ربك”، وتارة يقولون: “شاعر نتربص به ريب المنون”؛ فأبان القرآن عن تخبطهم وزعمهم أوصافا يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم منها براء؛ فتصديق الحديث ليس تصديقا لهم؛ إذ الحديث في سحر جسدي تخييلي، ودعواهم في سحر جعله يقول القرآن وشتان بين الأمرين، وقوله تعالى: ﴿ ﴾ [سورة طه آية 68]، لا متمسك للطاعن فيه؛ لأنها إن فسرت على أنه لا يظفر الساحر بإذاية المسحور ألبتة؛ لزم من ذلك أن يناقض القرآن بعضه بعضا؛ لأن الله عز وجل قال: ﴿ ﴾ [سورة البقرة آية 101]، فقد أثبت حصول التفريق بين الزوجين والضرر بالسحر، وهذا هو المشاهد واقعا، وحاش لله أن يكون في كلام الله تناقض. وإن فسرنا الآية تأسيسا على سابق الكلام؛ أعني قوله سبحانه: ﴿ ﴾ [سورة طه آية 68]، وقوله سبحانه في الآية الأخرى: ﴿ • ﴾ [سورة يونس آية 81] وقلنا: إن المعنى هو أن الله قادر على إبطال كيد الساحر، وإظهار حقيقته؛ فلا يظفر بمراده؛ استقامت الآيات وتكاملت ولم تتزاحم، والحديث ترجمة عملية لذلك كما كان الحال في زمن موسى؛ فلبيد سحر النبي صلى الله عليه وسلم –كما في الرواية- فسُحر؛ لكن لم يظفر الساحر من النبي صلى الله عليه وسلم إلا بتخيل جماع أهله، ثم هذا التخيل أبطله الله وشفى نبيه؛ فلم يفلح الساحر.
وأما قوله تعالى: ﴿ ﴾ [سورة المائدة آية 69]”؛ فإن حمل على معنى حفظه بحيث لا يصيبه أي أذى من الناس؛ لناقض القرآن بعضه بعضا، ولناقض الواقع؛ فقد أثبت القرآن الكريم أن من كفار قريش من شانه، وأنهم رموه بالسحر والكهانة، وأمره الله بالصبر؛ إشارة إلى أنه تأذى منهم، وأخبرنا ربنا أن الكفار أخرجوه من بلده، واستفاضت أخبار السيرة النبوية بما لقي من الإذاية الجسدية… والآيات والأخبار في ذلك معروفة؛ ولذا لم نذكرها بألفاظها؛ وعليه فقوله: “والله يعصمك من الناس” مفسَّر بسابقه؛ أي قول ربنا: “بلغ ما أنزل إليك من ربك”؛ فيكون المعنى أن الله يمنعه منهم بحيث لا يدركون قتله، وصده عن البلاغ، ولم يأت في حديث السحر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد منعه ما أصابه من البلاغ والدعوة.
وأما الجناب النبوي فلا يخدش بمثل هذا السحر، ولا تفقد الثقة بدعوته؛ لأنه لو كانت كل إذاية للنبي صلى الله عليه وسلم طاعنة في نبوته؛ لكان ما أصاب الأنبياء من أقوامهم مما هو أشد من السحر كالقتل والتقطيع قادحا في النبوة، ثم ألم يقل الله عز وجل: ﴿ ﴾ [سورة الحج آية 50]؟ فما جواب القوم عن ذلك؟
وأما فيما يتعلق بحديث استغفار النبي صلى الله عليه وسلم للمنافق عبد الله بن أبي بن سلول، وقوله: “إنما خيرني الله فقال: ﴿ • • ﴾ [سورة التوبة آية 81]، وسأزيده على السبعين ” ؛ فقد رد العلماء ما استشكله المنكرون؛ وأجابوا بأجوبة أقواها عندي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن نهي عن الاستغفار لهذا المنافق وأمثاله؛ فاستصحب أصل الجواز، وفهم من الآية أن استغفاره وعدم استغفاره سواء، وأن السبعين للتكثير لا للعدد؛ فاستغفر له؛ تطييبا لخاطر ابنه المؤمن الصالح، وتأليفا لقلوب عشيرته؛ فلما نُهي عن ذلك كف.( )
فإن قيل: قد نهاه الله عز وجل عن الاستغفار للكفار، والمنافقون كذلك؛ فالجواب “أن النهي عن الاستغفار لمن مات مشركا لا يستلزم النهي عن الاستغفار لمن مات مظهرا للإسلام؛ لاحتمال أن يكون معتقده صحيحا” .
وأما كلام الجويني فليس صريحا في دفع أصل الحديث، والأظهر أنه عنى قوله: “سأزيد على السبعين” خاصة، ولم يرد أن الحديث كله لا يصح، وواضح من كلامه أنه لم ير إخراج البخاري له؛ لأننا نقلنا عنه قبلُ قوله: “لو حلف انسان بطلاق امرأته أن ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما بصحته مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما ألزمته الطلاق ولا حنثته؛ لاجماع علماء المسلمين على صحتهما”.
وأما الغزالي فإنه لم يقطع ببطلان الخبر، وإنما قال: “الأظهر أنه غير صحيح”، ثم إنه جعل للحديث احتمال معنى لا يرد عليه الاعتراض؛ فقال: “الثاني: أنه قال: «لأزيدن على السبعين»، ولم يقل: ليغفر لهم، فما كان ذلك لانتظار الغفران، بل لعله لاستمالة قلوب الأحياء منهم؛ لما رأى من المصلحة فيهم، ولترغيبهم في الدين، لا لانتظار غفران الله تعالى مع المبالغة في اليأس، وقطع الطمع” .
وإذا تقرر ما سلف تأكدت خاصية الصحة في معظم متون أحاديث صحيح البخاري، وأن ما تكلم فيه –على قلته- لا يقدح في أصل موضوع الكتاب على فرض التسليم به، وإن كنا نقول –بناء على أجوبة العلماء ونظرنا في متمسك المعترض أن كفة البخاري في صحة ما أخرج راجحة غالبا. والله أعلم.
فإن قيل: سلمنا بصحة الكتاب من حيث الجملة، لكن هذا لا يثبت له خصيصة الأصحية، فقد سبقه موطأ الإمام مالك بن أنس (ت179هـ) الذي قال فيه “ابن مهدي (ت198هـ) ما كتاب بعد كتاب الله أنفع للناس من الموطأ، وقال: لا أعلم من علم الإسلام بعد القرآن أصح من موطأ مالك.
وقال ابن وهب (ت197هـ): من كتب موطأ مالك فلا عليه أن يكتب من الحلال والحرام شيئاً.
وقال الشافعي (ت241ه): ما في الأرض كتاب من العلم أكثر صواباً من كتاب مالك.
وقال: ما على الأرض كتاب أصح من كتاب مالك وفي رواية أفضل وما كتب الناس بعد القرآن شيئاً
هو أنفع من موطأ مالك” .
وقد أُلف بعد صحيح البخاري صحاح، أهمها: “المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم” لأبي الحسين مسلم بن الحجاج، و”مختصر المختصر من المسند الصحيح عن النبي – صلى الله عليه وسلم” للإمام أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة (ت311ه)، و”المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع” لأبي حاتم محمد بن حبان البستي (ت354ه).
فالجواب أن موطأ الإمام مالك كما ذكر أولئكم الأعلام وزيادة، غير أنه قيل فيه ذلك قبل تأليف صحيح الإمام البخاري. وبعد ظهور صحيح الإمام البخاري استفاض قولهم: “صحيح البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى”، ووجه تقديم صحيح البخاري أن الإمام مالكا “لم يفرد الصحيح بل أدخل فيه المرسل والمنقطع والبلاغات، ومن بلاغاته أحاديث لا تعرف؛ كما ذكره ابن عبد البر فلم يفرد الصحيح إذن والله أعلم” . وهذا وإن كان قد أجيب عنه بأن في صحيح البخاري –أيضا- معلقات ومراسيل؛ فقد رد بمثل ما ذكر الحافظ ابن حجر أن: “الفرق بين ما فيه من المقطوع والمنقطع وبين ما في البخاري من ذلك واضح؛ لأن الذي في الموطأ من ذلك هو مسموع لمالك كذلك في الغالب، وهو حجة عنده وعند من تبعه.
والذي في البخاري من ذلك قد حذف في البخاري أسانيدها عمدا؛ ليخرجها عن موضوع الكتاب، وإنما يسوقها في تراجم الأبواب تنبيها واستشهادا واستئناسا وتفسيرا لبعض الآيات” .
وإن قلنا بأن ما أسنده الإمام مالك أقوى؛ اعتبارا لعلو إسناده، وكون كل من روى عنه ثقة، فإن الأصحية تثبت لصحيح البخاري من الوجه المذكور آنفا، وكونه أكثر صحيحا؛ فالمسند من الموطأ حوالي ستمائة (600) حديث تزيد أو تنقص؛ لاختلاف النسخ، والمسند من صحيح البخاري يربو على ستمائة وألفي حديث (2600)؛ فيكون مسند الموطأ أقل من ربع مسند صحيح البخاري.
وأما صحيح مسلم فتال لصحيح البخاري زمنا، ومتأخر عنه رتبة فيما ذهب إليه جمهور المحققين؛ وقد نص على ذلك غير واحد من أهل العلم؛ فقال الإمام النووي: ” اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة، وقد صح أن مسلما كان ممن يستفيد من البخاري ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث وهذا الذي ذكرناه من ترجيح كتاب البخاري هو المذهب المختار الذي قاله الجماهير وأهل الاتقان والحذق والغوص على أسرار الحديث” .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت728هـ) –مقارنا بين الصحيحين- : “مسلم وقع في صحيحه عدة أحاديث غلط، أنكرها جماعة من الحفاظ على مسلم. والبخاري قد أنكر عليه بعض الناس تخريج أحاديث، لكن الصواب فيها مع البخاري، والذي أنكر على الشيخين أحاديث قليلة جدا، وأما سائر متونهما فمما اتفق علماء المحدثين على صحتها وتصديقها وتلقيها بالقبول لا يستريبون في ذلك” .
وأما قول أبي علي النيسابوري (ت349هـ): «ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم بن الحجاج في علم الحديث» ، وتفضيل من فضل صحيح مسلم من المغاربة، فإنه مدفوع بما ذهب إليه جماهير أمتنا من تقديم صحيح البخاري، مع ضرورة التنبيه إلى أن أبا علي إنما نفى وجود أصح من كتاب مسلم، ولا يقتضي ذلك نفي المساوي، وتفضيل أبي محمد ابن حزم (ت456هـ) قد يحمل على حرص مسلم على اللفظ، واستقصائه الأسانيد في الموضع الواحد، وندرة التعليق والإرسال.
وإنما رجح الجمهور صحيح البخاري لاعتبارات: أولها: أن البخاري أعلم بالحديث ورجاله وعلله من مسلم؛ وإلى هذا ألمع الإمام أبو الحسن الدارقطني؛ فقال: “لولا البخاري لما ذهب مسلم ولا جاء” ، وثانيها: أن شرط البخاري في الرجال أقوى من شرط مسلم، وثالثها: أن شرط البخاري في الاتصال أوثق من شرط مسلم، ورابعها: أن الأحاديث المنتقدة على البخاري أقل من الأحاديث المنتقدة على مسلم، وخامسها: أن الرواة المنتقدين على صحيح البخاري أقل من الرواة المنتقدين على مسلم.( )
وأما باقي الصحاح فهي دون صحيح البخاري اتفاقا؛ وبهذا البيان ترجح لنا أن صحيح البخاري أصح من حيث الجملة والله أعلم.
المطلب الرابع: خصائص منهجية إضافية
بالإضافة إلى ما سلف من الخصائص يلاحظ أن الجامع الصحيح يتسم بخصائص أخرى مهمة، منها:
– أولا: الاختصار: وهذا واضح –ابتداء- من تسمية الكتاب؛ فقد سماه صاحبه “المختصر”، وبتأمل الكتاب تتأكد هذه الصفة؛ ولها في الصحيح ملامح: أولها: تعليق الحديث الذي وصله في موضع آخر؛ كقوله: “باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس»” ، فهذا وصله في الباب نفسه؛ فقال: “حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عمر، رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان»” . وثانيها: العطف: أي أن يكون الحديث عن شيخين أو أكثر؛ فبدل أن يسوق سند كل أحد يعطف أحدهما على الآخر، ومن شواهد ذلك قول البخاري: “حدثنا أحمد بن يونس، وموسى بن إسماعيل، قالا: حدثنا إبراهيم ابن سعد، قال: حدثنا ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي العمل أفضل؟ فقال: «إيمان بالله ورسوله». قيل: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور»” ، وثالثها: تحويل الإسناد، والمقصود به أن يكون للحديث إسنادان أو أكثر، والمدار على راو، هو مخرج الحديث، والأصل أن تساق الأسانيد كما هي؛ لكن يعدل عن ذلك إلى التحويل من إسناد إلى آخر، ثم يذكر القدر المشترك، و”الهدف من التحويل هو اختصار الأسانيد التي تلتقي عند راو معين بعدم تكرار القدر المشترك بينها” ، ومن شواهده قول البخاري: “حدثنا عبدان، قال: أخبرنا عبد الله قال: أخبرنا يونس، عن الزهري، ح وحدثنا بشر بن محمد، قال: أخبرنا عبد الله، قال: أخبرنا يونس، ومعمر، عن الزهري، نحوه قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة»” ، واكتفاء الإمام بحرف الحاء دون كتابة كلمة تحويل اختصار أيضا. ورابعها: تقطيع الحديث، والاقتصار على بعضه بما لا يخل بمعناه، وشاهده ما أخرجه بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” سبعة يظلهم الله: رجل ذكر الله ففاضت عيناه” .
وهذه الأوجه من الاختصار شاركه في بعضها الإمام مسلم كالعطف والتحويل، ولم يشاركه في أخرى كتقطيع الحديث.
– ثانيا: الانتقاء والتحري: فأما الانتقاء فقد قال الإمام البخاري: “صنفت كتابي الصحاح بست عشرة سنة، خرجته من ستمائة ألف حديث، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله عز وجل” .
فإن قيل: كيف جمع البخاري هذا العدد من الأحاديث في ست عشرة سنة؟ فالجواب أن الذي كان في ست عشرة سنة هو التصنيف والانتقاء، والترجيح بين الروايات، وأما سماعه الحديث وجمعه إياه فقد ابتدأه وهو ابن عشر سنين، وصحح خطأ بعض مشايخه في الرواية وهو ابن إحدى عشرة سنة، أي في حوالي سنة خمس ومائتين، وقد نبغ سريعا في الحديث، وآية ذلك قوله: “لما طعنت في ست عشرة سنة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء ثم خرجت مع أمي وأخي أحمد إلى مكة، فلما حججت رجع أخي بها، وتخلفت في طلب الحديث، فلما طعنت في ثمان عشرة جعلت أصنف فضائل الصحابة والتابعين وأقاويلهم، وذلك أيام عبيد الله بن موسى، وصنفت «كتاب التاريخ» إذ ذاك عند قبر الرسول صلى الله عليه وسلم في الليالي المقمرة” .
وإذا استحضرنا بعض القرائن، ومنها أن البخاري “حدث بالصحيح سنة 248هـ بفربر” ، وأنه عرض صحيحه على مشيخة عصره، يحيى بن معين المتوفى سنة (233هـ)، وعلي بن المديني المتوفى سنة (234ه)، وأحمد بن حنبل المتوفى سنة (241هـ)؛ خلصنا إلى أن ابتداء جمع صحيح البخاري كان في حوالي (212هـ)، وأتم الجمع في حوالي (232ه)، ثم نقح وزاد ونقص، وبوب، وترجم من سنة 232ه إلى سنة 248ه، وفيها حدث بالصحيح؛ فتكون مدة الجمع والتصنيف حوالي ستا وثلاثين (36) سنة. وهذا كان يسيرا في ذلك الوقت -الذي كانت الحواضر العلمية تزخر بالمشايخ- على ذوي النبوغ والهمة مثل البخاري رحمه الله.
وإن قيل: ستمائة ألف حديث لا وجود لها في الواقع؛ فالجواب أن الحديث في عرف المحدثين يشمل المرفوع والموقوف والمقطوع، والمتنُ إذا كان له عشرة أسانيد عدوه عشرة أحاديث، وبهذا الاعتبار توجد ستمائة ألف حديث وأكثر.
هذا عن الانتقاء وأما التحري فمن أماراته المدة المديدة التي قضاها في التأليف، وتحاشيه حديث من شك في سماعه؛ كحديث مخرمة بْن بكير بْن عَبد الله عن أبيه؛ فإنه لم يخرج حديثه؛ لأنه قيل: لم يسمع من أبيه، إنما هي وجادة. وإيثاره حديث الطبقة الأولى التي جمعت بين الحفظ والإتقان وطول الملازمة للمشايخ، واستخارته الله قبل كتابة الحديث في الصحيح؛ فقد ثبت عنه أنه قال: “ما وضعت فِي كتاب الصحيح حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين” ، ولما “ألف البخاري كتاب الصحيح عرضه على أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلى بن المديني، وغيرهم فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة إلا في أربعة أحاديث، قال العقيلي والقول فيها قول البخاري وهي صحيحة” .
– ثالثا: العناية بالفقه: صحيح الإمام البخاري ليس كتاب حديث فقط، بل هو كتاب حديث وفقه، وقد برز فقه الإمام البخاري في التراجم المنيفة، التي أبانت عن عبقرية فذة في فقه الحديث؛ حيث كان رحمه الله: “ينتزع من الحديث انتزاعات فقهية دقيقة، خفية، يفتقر إبرازها إلى غواص ماهر” ، وسمة تكرار الحديث بارزة في صحيح البخاري، حتى إنه قد يكرر الحديث في أزيد من عشرين موضعا، وإنما ذلك لما يستخرج منه من الفوائد والمعاني والأحكام. ومع أن أصل الكتاب في المسندات إلا أنه ذكر آثارا موقوفة ومقطوعة كثيرة، وغايته من ذلك الفقه، وبيان اختيارات السلف.
– رابعا: العناية بإيراد الآيات القرآنية: أورد الإمام البخاري آيات كثيرة في صحيحه، وأكثرها في مطالع الأبواب؛ ليبين أن الحكم أو المعنى منتزع من القرآن والسنة معا، ومن اللافت حقا أنه استهل أول ترجمة من صحيحه بآية من القرآن الكريم؛ فقال: ” كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقول الله جل ذكره: ﴿ ﴾ [سورة النساء آية 162]” .
المطلب الخامس: مقومات حجية الجامع الصحيح
من نظرَ نظر منصف يتحرى الحق ويبحث عنه في الجامع الصحيح للإمام البخاري عليه رحمة الله؛ ألفاه جمع كل المقومات التي تجعله من حيث الجملة حجة على الناس، وأهم هذه المقومات:
– المقوم الأول: أنه حوى عشرات الآيات من كتاب ربنا، وقارئ هذه السطور ليس بحاجة إلى التدليل على حجية القرآن الكريم، وفيه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي حجة بالإجماع، كما نقل غير واحد من محققي العلماء، ونكتفي من أقوالهم المستفيضة بقول الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: ” لم أسمع أحدا نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم يخالف في أن فرض الله عز وجل اتباع أمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – والتسليم لحكمه بأن الله عز وجل لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه، وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – وأن ما سواهما تبع لهما، وأن فرض الله تعالى علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – واحد لا يختلف في أن الفرض والواجب قبول الخبر عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم” .
فإن قال منكرو السنة إن الحجية في الكتاب العزيز وحده، وليست السنة النبوية حجة على الخلق، فالجواب أن علماءنا وباحثينا في القديم والحديث أقاموا الحجة الواضحة على وجوب الأخذ بالسنة النبوية وكونها حجة كما القرآن، وبطلان مذهب الراغبين عنها، ووهن متكآته، وهي شافية كافية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، ونكتفي في هذا المقام بتفنيد شبهتين لعلهما من أقوى ما اعتل به القوم:
الشبهة الأولى: أن القرآن كاف ولا يُحتاج معه إلى غيره؛ بدليل قول الله تعالى: ﴿ ﴾ [النحل: 89]، والجواب عنها أن هذه الآية وما في معناها حجة عليهم لا لهم؛ فقد أخبرنا ربنا سبحانه فيها بأنه نزل الكتاب على نبيه محمد صلى الله عليه تبيانا لكل شيء، ومما بينه وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وأننا مأمورون أمرا مطلقا بطاعته، والرجوع إليه حال التنازع، وامتثال ما به أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر؛ فقال سبحانه: ﴿ ﴾ [سورة النساء: آية 59]. وقال: ﴿ ﴾ [سورة الحشر آية 7]؛ ففي هذه الآية تصريح بوجوب امتثال الأوامر واجتناب النواهي النبوية، وقد أتى باسم الشرط الجازم “ما”؛ للدلالة على العموم والشمول، وختم الآية بقوله: “إن الله شديد العقاب” ليدل على أن الأمر أمر إيجاب لا استحباب، وأن المخالف مستحق لشديد العقاب.
وحذرنا سبحانه تحذيرا شديدا من مخالفة الأمر النبوي، فقال: ﴿ ﴾ [سورة النور الآية 63].
والآيات في هذا المعنى كثيرة ومتضافرة على وجوب الأخذ بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، والعض بالنواجذ على سنته، فمن أعرض عن سنته وجعلها خلف ظهره فقد خالف كتاب الله وعطل آيه، وناقض دعواه اتباع القرآن الكريم.
الشبهة الثانية: أن الوحي إنما هو القرآن الكريم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم، بشر قد يصيب تارة ويخطئ أخرى؛ فلا حجة في قوله ولا في فعله، ومما يدل على خطئه أن القرآن أنكر عليه العبوس حين جاءه ابن أم مكثوم رضي الله عنه، وإذنَه للمنافقين بالتخلف عن الجهاد، وقوله لزيد بن حارثة رضي الله عنه: “أمسك عليك زوجك واتق الله”. والجواب عن هذه الشبهة أنها متهافتة، ومناقضة لصريح القرآن الذي أخبرنا بأن الله أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بالقرآن والسنة معا، فقال تعالى: ﴿ ﴾ [سورة النساء آية 112]؛ فهذه الآية ونظائرها صريحة في أن الله أنزل القرآن ومثله معه وهو “الحكمة” أي السنة، وهو ما أكده النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه” ، ولما نهت قريش عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن كتابة كل ما يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه بشر يتكلم في الرضا والغضب، قال له –عليه الصلاة والسلام-: «اكتب؛ فوالذي نفسي بيده، ما يخرج منه إلا حق»” ، وقد “سئل رسول الله ﷺ عن الحمُر، فقال: «ما أنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: ﴿ ﴾ [سورة الزلزلة آية 8]” ، ألا ترى أن قوله: “ما أنزل علي فيها شيء…” دال على أنه إنما يجيب بما أنزل عليه من الوحي خاصا بمسألة السائل أو عاما يستغرقها وما كان على شاكلتها؛ وتأسيسا على ما سلف يتقرر أن الأصل في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله التصرف بوصفه نبيا مبلغا عن الله، أو بتعبير الإمام شهاب الدين القرافي (ت684هـ): “غالب تصرفه – صلى الله عليه وسلم – بالتبليغ؛ لأن وصف الرسالة غالب عليه…” ، ولا يحمل على غيره كالتصرف بمقتضى الجبلة، أو العادة، أو القضاء، أو الإمامة… إلا بقرينة صارفة، ولا بد من التذكير بأن التصرف النبوي بهذه المقامات لا ينزع عنه وصف النبوة. وأما ما عوتب فيه النبي صلى الله عليه وسلم فوقائع محدودة معدودة، “تصرَّفَ فيها بمقام الإمامة لا بمقام التشريع، وقد عاتبه ربه عز وجل على خلاف الأولى لا على الخطأ، وإن سلمنا بأنه عليه الصلاة والسلام اجتهد وأخطأ في اجتهاده، فقد قوَّم الله عز وجل خطأه وأرشده إلى سبيل الرشاد، وهذا دال على أنه لا يقره على خطئه” ؛ فآل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من السنة التشريعية إلى أنها وحي ابتداء، أو اجتهاد في ضوء مقاصد وقواعد الشرع أقره الله عليه، أو نقله إلى أولى منه، وفي كليهما تثبت الحجية.
ذلكم ما وسعه المقام من بيان حجية السنة النبوية، ورد أقوى شبه المبطلين، ومن أراد مزيد تفصيل ومناقشة لباقي الشبه فليرجع إلى الكتب والدراسات الخاصة بالموضوع، وقد أومأنا إلى بعضها في هامش سابق.
وبجوار الآيات القرآنية والأحاديث النبوية توجد في صحيح البخاري آثار موقوفة(أقوال وأفعال الصحابة)، وأخرى مقطوعة (أقوال وأفعال التابعين)؛ فأما الأولى فحجة فيما لا مجال للاجتهاد فيه كأخبار الغيب والثواب والعقاب، وحجة في الأمور الاجتهادية؛ بشرط اشتهار قول أو فعل الصحابي وانعدام المخالف على ما قرره غير واحد من أهل العلم.
وما فيه من الآثار المقطوعة فليس حجة إلا فيما ثبت الإجماع عليه، والمقصود أصالة في الكتاب الأحاديث المرفوعة، وغيرها أورده البخاري-رحمه الله- تبعا.
– المقوم الثاني: مكانة المؤلَّف: وقد بينا قبلُ هذه المكانة؛ فهو أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى، والأمة تلقته بالقبول خلا أحرفا يسيرة ناقشها بعض العلماء، وقد بينا ما فيها، وأن الكلام في معظم هذا اليسير لا يبطل أصل موضوع الكتاب ، ولا يُذهب قيمته.
– المقوم الثالث: مكانة المؤلِّف: فالبخاري –رحمه الله- اتصف بمختلف الصفات التي تثمر الثقة به، وبروايته، وأهمها:
تمام الحفظ والإتقان: وأخبار أهل العلم متواترة بذلك، ومنها أن “حامد بن علي قال: ذكر لعلي بن المديني قول محمد بن إسماعيل: ما تصاغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني؛ فقال: ذروا قوله، هو ما رأى مثل نفسه” ، وقال: محمد بن أبي حاتم الوراق (لم أظفر بسنة وفاته): “سمعت محمد بن إسماعيل يقول: ذاكرني أصحاب عمرو بن علي بحديث، فقلت: لا أعرفه، فسُرُّوا بذلك، وساروا إلى عمرو بن علي فقالوا له: ذاكرنا محمد بن إسماعيل البخاري بحديث فلم يعرفه؛ فقال عمرو بن علي: حديث لا يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث” .
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل (ت290هـ): “سمعت أبي يقول: انتهى الحفظ إلى أربعة من أهل خراسان أبو زرعة الرازي، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي، والحسن بن شجاع البلخي” .
الإمامة في الفقه: وهذا مما استفاضت به شهادة الأئمة الكبار، ومن ذلك: أن الإمام المحدث الفقيه المجتهد إسحاق بن راهويه (ت238هـ) قال: “يا معشر أصحاب الحديث، انظروا إلى هذا الشاب واكتبوا عنه؛ فإنه لو كان في زمن الحسن بن أبي الحسن لاحتاج إليه الناس؛ لمعرفته بالحديث وفقهه” ، وقال علي بن حجر (ت244هـ): “أخرجت خراسان ثلاثة: أبا زرعة الرازي بالري، ومحمد بن إسماعيل البخاري ببخارى، وعبد الله بن عبد الرحمن بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل عندي أبصرهم وأعلمهم وأفقههم” ، وقال حاشد بن إسماعيل (ت261هـ): “كنت بالبصرة فسمعت قدوم محمد بن إسماعيل، فلما قدم قال محمد بشار: دخل اليوم سيد الفقهاء” ، وقال محمد بن أبي حاتم: “وسمعت حاشد بن عبد الله يقول: قال لي أبو مصعب أحمد بن أبي بكر المديني: محمد بن إسماعيل أفقه عندنا وأبصر من ابن حنبل؛ فقال له رجل من جلسائه: جاوزت الحد. فقال أبو مصعب: لو أدركت مالكا ونظرت إلى وجهه ووجه محمد بن إسماعيل لقلت: كلاهما واحد في الفقه والحديث” .
العدالة وحسن الديانة: ومن شهادات أهل العلم بذلك: قول أبي عمرو الخفاف (ت299هـ): “حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري التقي النقي العالم الذي لم أر مثله” . وقول الحسين بن محمد المعروف بعبيد العجل (ت294هـ): “ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل. ومسلم الحافظ لم يكن يبلغ محمد بن إسماعيل، ورأيت أبا زرعة وأبا حاتم يستمعان إلى محمد بن إسماعيل أي شيء يقول يجلسون بجنبه، فذكرت له قصة محمد بن يحيى. فقال: ماله ولمحمد بن إسماعيل كان محمد بن إسماعيل أمة من الأمم، وكان أعلم من محمد بن يحيى بكذا وكذا، وكان محمد بن إسماعيل دينا فاضلا يحسن كل شيء” .
والأخبار في عدالة وعلم الإمام البخاري تطول، وفيما ذكر كفاية في الدلالة على المقصود.
فإن قيل: إن الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ت327هـ) نقل عن أبيه (ت277هـ)، وأبي زرعة الرازي (ت264ه) ومحمد بن يحيى الذهلي (ت258ه) ترْك حديثه؛ فالجواب أنهم إنما تركوا حديثه؛ لأجل خلاف في مسألة عقدية، تتعلق بحكم قول: “لفظي بالقرآن مخلوق”؛ وآية ذلك قول ابن أبي حاتم: ” محمد بن إسمعيل البخاري أبو عبد الله قدم عليهم الري سنة مائتين وخمسين، روى عن عبدان المروزي، وأبي همام الصلت بن محمد، والفريابي، وابن أبى أويس، سمع منه أبي وأبو زرعة ثم تركا حديثه عندما كتب إليهما محمد بن يحيى النيسابوري أنه أظهر عندهم أن لفظه بالقرآن مخلوق” . وهذا لا يقدح في عدالته، ولا يطعن في حديثه.
– المقوم الرابع: صحة نسبة الكتاب إلى الإمام البخاري؛ فقد روي بأسانيد كثيرة، من طريق محمد بن يوسف الفربري (ت323هـ)، وهو إمام ثقة، والأسانيد إليه تبلغ حد الشهرة؛ إذ روى الجامعَ الصحيحَ عنه أبو إسحاق المستمليّ (ت376هـ)، وأبو محمد ابن حمُّويه السرخسي (ت381هـ)، وأبو الهيثم الكشميهني (ت389هـ)، وأبو علي ابن السِّكن المصري البزِّاز (ت353هـ)، وغيرهم.
ومحمد بن يوسف الفربري إمام ثقة، ولم يتفرد بالرواية عن البخاري، بل هو واحد من تسعين ألفا سمعوا الصحيح من البخاري، وممن تابعه على رواية الصحيح ممن حُفظت أسماؤهم إبراهيم ابن معقل النسفي (295هـ)، وحمّاد بن شاكر النسوي (ت 311هـ)، وقد كان البيهقي يروي البخاري من طريقه كما يظهر من سننه، ومنصور بن محمد البزدوي (329هـ)، وحسين المَحامِلي (330هـ).
ورواية إبراهيم بن معقل النسفي محفوظة، من رواية الإمام أبي سليمان الخطابي؛ فقد قال في خطبة شرحه على صحيح البخاري: “معظم هذا الكتاب من رواية إبراهيم بن معقل النسفي حدثناه خلف بن محمد الخيام، قال: حدثنا إبراهيم بن معقل عنه سمعنا سائر الكتاب إلا أحاديث من آخره، من طريق محمد بن يوسف الفَرَبْري، حدثنيه محمد بن خالد بن الحسن قال: حدثنا الفربري عنه” .
ثم إن البخاري لم يتفرد بما في صحيحه، بل شاركه في كلها أو جلها أصحاب المستخرجات؛ كأبي بكر الإسماعيلي الجرجاني (ت377هـ) في المستخرج على صحيح البخاري، وأبي نعيم الأصبهاني (ت430هـ) في المستخرج على الصحيحين.
وشاركه في إخراج هذه الأحاديث مسلم في صحيحه، وأصحاب السنن الأربعة، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي (ت255هـ) في سننه، وغيرهم، كل شاركه في بعض ما أخرج.
وقد تواتر ثناء العلماء ممن عاصر البخاري أو عاصر من عاصره على صحيح البخاري، ولم يشكك واحد من هذه الأمة في صحة نسبة الكتاب إلى البخاري؛ فدل ذلك على ثبوت نسبة الكتاب إلى البخاري ثبوتا قطعيا.
فإن قيل: أين اختفت النسخة الأصلية؟ فالجواب أن من له دراية بتاريخ العلوم ومناهجها يعلم أن طريقة الإبلاغ عند العلماء هي أن يملي الشيخ من كتابه أو من حفظه، والطلبة يدونون، ثم يقابلون نسختهم بنسخة إمامهم، وهكذا دواليك؛ فلا محل لهذا السؤال، ونحن نعلم محنة البخاري، وكيف مات مضيقا عليه، وما تلا عصر البخاري من التقلبات الطبيعية والاجتماعية والسياسية والحروب وغيرها؛ فلا علمية ولا موضوعية في السؤال عن النسخة الأصلية.
ثم هذا كتاب ربنا نقطع بصحته، وثبوته، مع أنه ليس بأيدي الناس في زماننا ولا قبل زماننا الصحف الأصلية التي كتبت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإذا صحت نسبة الكتاب إلى البخاري، وثبتت نسبة الأحاديث المسندة التي أخرجها البخاري إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالظن الراجح الذي ارتقى إلى العلم النظري بإجماع الأمة؛ ثبتت حجية الجامع الصحيح.
فإن قيل: كيف تكون أحاديث الجامع الصحيح حجة على الخلق، وإنما ولد صاحبه سنة 194هــ، وتوفي سنة 256هـ؟ فالجواب أن ما أخرجه في صحيحه من الأحاديث المسندة فقد تلقاه من شيوخه عن شيوخهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت محفوظة في الصدور، ومبثوثة في المدونات الحديثية التي أخرج أصحابها الأحاديث بأسانيدهم؛ كموطأ مالك بن أنس، وجامع معمر بن راشد، ومصنف حماد بن سلمة (ت167هـ)، وسنن ابن جريج (ت150هـ)، ومسانيد أسد السنة (ت212هـ)، وعبيد الله بن موسى العبسي (ت213هـ)، ونعيم بن حماد الخزاعي (ت228هـ)، وإسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل، وغيرهم كثير؛ فليس البخاري بدعا من المحدثين، وإنما له فضل جمع ما تفرق من الأحاديث الصحاح في جامع مختصر، تلقى أحاديثه بمشافهة مشايخ بلغوا الغاية في الضبط والإتقان وطول ملازمة شيوخهم.
وخلاصة المسألة أن حجية أحاديث الجامع الصحيح لم تقم على الناس زمن البخاري، بل هي قائمة زمن النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع الصحب الكرام قوله ورأوا فعله، وما تلقاه التابعون منهم فهو حجة عليهم، وتستمر الحجية إلى زمان البخاري، بل إلى زماننا هذا.
فإن شغَّب طاعن في الجامع الصحيح وصاحبه بكون البخاري رجلا أعجميا من أوزباكستان؛ فالرد أن العلم رزق يؤتيه الله من يشاء من خلقه، وفق ما يشاء سبحانه، وحسب الطاعن أنه سلك مسلك المشركين المعترضين على إكرام الله نبيه بالوحي؛ بقولهم –فيما ذكر الله سبحانه-: ﴿ ﴾ [سورة الزخرف آية 30]، وقد رد الله عليهم بقوله: ﴿ ﴾ [سورة الزخرف آية 31]، وقد حفظ لنا تاريخ أمتنا من الأعلام الأعاجم الكبار لغة وحفظا وفقها ما تغني شهرتهم عن ذكرهم وبيان فضلهم، والعقل الصريح وواقعنا المعاصر شاهدان على أنه لا اعتبار لأصل الإنسان ولا لغته في منزلته العلمية ومكنته في الحفظ والفهم. والجامع الصحيح دليل واضح – لمن أنصف – على نبوغ الإمام البخاري حفظا وفقها ولغة.
وإن ادعى المبطلون بأن في صحيح البخاري أحاديث تعارض القرآن الكريم، والعقل، والواقع، فالجواب أن هذه الدعوى عارية عن الصحة، وقد تولى فضل الرد العلمي المفصل عليها جمع من الباحثين الأكارم، ومِن أحدثهم الدكتور محمد السائح –رحمه الله-( )
ونكتفي نحن بما يسمح به المقام؛ فنقول: إنا قد قرأنا صحيح البخاري مسندا إلى صاحبه من أوله إلى آخره فلم نر فيه ولم ير غيرنا ممن هم أجل علما، وأكثر حفظا وأعمق فهما ما ادعاه الطاعنون. وإنما يُسلَّم بدعوى مخالفة بعض أحاديثه القرآنَ إذا ثبت التناقض الصريح بينهما بحيث يكون أحدهما مثبتا ما نفاه الآخر، أو العكس، ولا يمكن الجمع بينهما إلا بتكلف وتعسف، أو يكون أحدهما آمرا بنقيض ما أمر به الثاني، ولا سبيل إلى تأليف أو تأويل، وهذا ولله الحمد منتف عن أحاديث الصحيح. وإنما أوقع القوم في توهم التناقض –إن افترضنا سلامة قصدهم- أن بضاعتهم مزجاة في لسان العرب ومعهود الخطاب، وأنهم أهملوا السياقين الحالي والمقالي للآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وغفلتهم عن تحقيق المناطين العام والخاص. ولو سلكنا مسلك القوم في اعتماد التعارض ظاهرا موجبا لإسقاط أحد النصين؛ للزم إبطال القرآن نفسه؛ ألا ترى أن الله تعالى يقول في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: ﴿ ﴾ [سورة القصص آية 56]، وقال: ﴿ ﴾ [سورة الشورى آية 49]؟ فالآيتان ظاهرهما التعارض؛ لأن الأولى نافية، والثانية مثبتة، ولكن بعد تعميق النظر، وحسن الفهم عن الله واستثمار سابق الكلام ولاحقه وسبب النزول؛ نخلص إلى أن الهداية المنفية في الأولى هي هداية التوفيق، والهداية المثبتة للرسول صلى الله عليه وسلم في الآية الثانية هي هداية الدلالة والبيان، والشيء ذاته يقال في قول الله تعالى: ﴿ ﴾ [سورة المؤمنون آية 102] وقوله: ﴿ ﴾ [سورة القصص آية 66]، وقوله: ﴿ ﴾ [سورة الصافات آية 27]، فهذه الآيات وما في معناها متعارضة ظاهرا، ويزول التعارض باستحضار أن يوم القيامة فيه أحوال؛ ففي بعضها لا تساؤل؛ لأن الكل منشغل بنفسه ومترقب مصيره، وفي بعض يتساءل الناس سواء من في الجنة ومن في السعير؛ فلا تعارض في حقيقة الأمر.
ثم إننا نقول للمبطلين قد حفظ الإمام البخاري القرآن وهو صبي صغير، وروى التفسير بأسانيده الجياد عن النبي صلى الله عليه وسلم وفحول المفسرين من الصحابة والتابعين والأئمة المهتدين، وكتاب التفسير في الجامع الصحيح، وما استنبط البخاري من الآيات في ثنايا الجامع أمارة على نبوغه في فهم القرآن الكريم وتفسير آيه؛ فكيف يُتصور أن يخرج أحاديث تناقض كلام الله دون أن يدري هو وأزيد من ثلاثين ومائة من جهابذة الفقه والفهم شرحوا صحيحه وعنوا بأدق الأمور فيه، ثم يكتشف ذلك خَلْف أبانوا بما كتبوا ونطقوا عن ضحالة في العلم وعقم في التفكير، وفقر في استحضار القرآن وتلاوة آياته؟؟؟؟
وأما زعمهم مخالفة أحاديث في صحيح البخاري العقلَ؛ فالجواب عنها أن نذِّكر بأن كلام محدثي الأمة مستفيض بأنه لا يتصور أن يصح خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يناقض صريح المعقول، بل جعلوا مناقضة النقل لصريح العقل آية على أنه موضوع مكذوب( )، وإنما يصح ما زعموا لو كان العقلاء مجمعين على استحالة أمر وأخرج البخاري حديثا يدل على وجوبه أو جوازه، أو أجمع العقلاء على وجوب أمر وأخرج البخاري حديثا يدل على استحالته، وقد نظرنا كما نظر من هم أعلى شأنا وعلما منا في صحيح البخاري فما وجدنا فيه حديثا ينافي منافاة تامة حكما عقليا قطعيا أجمع عليه أولى النهى والألباب ممن رجحت عقولهم، وثقب فهمهم. وأما “من تراه يعمد إلى حديث مخرج في صحيح البخاري، وتلقته الأمة بالقبول، ولم يطعن أي إمام في سنده، ولا في متنه، ويرده بدعوى مناقضة العقل؛ فلا شك أن صنيعه هو المخالف للمعقول؛ إذ كيف تجتمع الأمة محدثوها وفقهاؤها طيلة قرون تتلوها قرون على قبول خبر واعتماده شرعا متبعا أو نبأ صادقا، ثم يتوصل من لم يبلغ مبلغ الأئمة الجهابذة حفظا وفهما وصنعة إلى أن الخبر لا يقبله العقل؟؟؟؟!!! إن هذا لشيء عجاب” .
ثم إننا ننبه في هذا المقام إلى أمر أجمع عليه العقلاء وهو محدودية الإدراك، أي أن الإنسان كما أن له مجالا بصريا ومجالا سمعيا لا يتجاوزهما، وأن عجزنا عن إدراك بعض الأصوات بسمعنا، وإدراك بعض الأشياء بأبصارنا لا يستلزم عدمها؛ فكذلك عجزنا عن تصور شيء وتعقله لا يستلزم أنه غير معقول لغيرنا؛ وكم أمر كان مستحيلا قبل زماننا صار حقيقة نراها رأي العين في زماننا، والفيصل بين الخبر المناقض صريح المعقول والخبر المتجاوز حدود إدراك بعض العقول؛ أن الأول مما يجمع العقلاء سلفا وخلفا على أنه يضاد صريح العقل، وهذا لا وجود له في الجامع الصحيح، والثاني يكون التناقض في تصور بعض الناس لا في حقيقة الأمر، ولو رددنا كل خبر لم تطق عقولنا تعقله لرددنا كثيرا من آي القرآن الكريم أيضا؛ ألم تر أنهم طعنوا في أحاديث سجود الشمس، وحب جبل أحد النبي صلى الله عليه وسلم، وحنين الجذع، وأن أمة من بني إسرائيل مسخت إلى جنس الفأرة…مع أن لهذه الأمور أشباها في كتاب ربنا؛ فقد أخبرنا سبحانه بسجود النجم والشجر، وتسبيح السموات السبع والأرض وجميع المخلوقات، وقص علينا قصة سليمان والهدهد وهم سليمان بتعذيبه أو ذبحه إن لم يأت بعذر مقبول على غيابه، وذكر من شأنه إنكاره شرك ملكة سبأ وقومها، وتوجهه بكتاب سليمان إليها، وذكر قصة سليمان مع النملة، وما كان من شأنها في تحذير النمل، والتماس العذر لسليمان وجنوده، وأخبرنا سبحانه –ولا أصدق منه- أنه مسخ بعض بني إسرائيل قردة وخنازير، فإن كانوا إنما أنكروا أن يكون للممسوخين عقب، فجوابنا أنه في حديث الفأرة قال: «فقدت أمة من بني إسرائيل، لا يدرى ما فعلت، ولا أراها إلا الفأر، ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه، وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته؟» ، فقد ميز صلى الله عليه وسلم بين ما تلقاه وحيا وهو فقدان أمة من بني إسرائيل، وبين قوله: “لا أراها إلا الفأر” ليبين أنه قال ذلك ظنا واجتهادا؛ اعتمادا على الأمارة المذكورة، ثم أوحى الله إليه بأنه ما جعل نسلا ولا عقبا للممسوخين، فأخبرنا بذلك، كما في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: “ذكرت عنده القردة، قال مسعر: وأراه قال: والخنازير من مسخ، فقال: «إن الله لم يجعل لمسخ نسلا ولا عقبا، وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك»” . هذا ولم يتفرد البخاري بإخراج حديث الفأر بل شاركه تلميذه مسلم، والنسائي، وشيخه أحمد بن حنبل، وغيرهم، ولم يتفرد به شيخه –على ثقته- بل شاركه أزيد من أربعة؛ فواعجبا كيف قبلت عقول هؤلاء جميعا ومن لا يحصون كثرة من شراح الحديث ونقاده تلك الأحاديث، ثم يدعي من تسور محراب الحديث أنها تضاد العقل؛ لا جرم أن الخلل والقصور في عقل الطاعن لا في الحديث.
وأما من ادعى التعارض بين بعض أحاديث صحيح البخاري وبين الواقع؛ فإما أنه لم يفقه معاني ودلالات تلك الأحاديث أو أنه لم يفقه الواقع أو هما معا، ألم تر أن بعضهم طعن في حديث: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» ؛ لأنه مضاد للواقع الماضي والحاضر؟ واستشهدوا بأن أهل سبأ أفلحوا وأسلموا؛ بسبب قيادة امرأة حكيمة رشيدة، وفي وقتنا دول ولت نساء، وهي متقدمة أكثر منا بل تعتبر من الدول الأولى عسكريا وسياسيا واقتصاديا؛ فاقتضى ذلك بطلان هذا الحديث وإن أخرجه البخاري زعموا!!! وهذه حجة داحضة تدل على سوء فهم للواقع والنص معا؛ فأما ما ذكروه من أمر قوم سبأ فإنهم كانوا بقيادة هذه المرأة ضلالا عباد الشمس، يسجدون لها من دون الله، ثم إن نبي الله سليمان عليه السلام أقام عليهم الحجة وأبان لهم عن سلطان القوة التي وهبه الله إياها؛ فلما رأت ذلك رأي العين أسلمت مع سليمان لله رب العالمين، وخضعت له؛ فصارت وقومها تحت ولايته، فأفلحوا بسبب هذا لا بتولية امرأة، وهب أن الأمر كما ذكروا فإن هذا لا يضاد الحديث؛ لأن بناءه دال على الاستقبال وليس على الماضي؛ ففيه “لن يفلح قوم” و(لن) حرف نفي ونصب واستقبال. وأما اعتلالهم بحال بعض الدول فليس لهم فيه متكأ؛ لأن غاية ما حققت قوة اقتصادية أو سياسية أو عسكرية، وليست تلكم القوة مهما علت دالة على الفلاح؛ إذ الفلاح في لسان الشرع يعني الفوز بخيري الدنيا والآخرة، وتحقيق مرغوبهما، والسلامة من مرهوبهما، وقد ألمع إلى نحو ما ذكرنا العلامة عبد الحميد محمد بن باديس الصنهاجي (ت: 1359هـ)، فقال –بعد أن قطع بثبوت الحديث ودلالته على منع تولية المرأة الولاية العظمى-: “دفع اعتراض: في تواريخ الأمم نساء تولين الملك، ومن المشهورات في الأمم الإسلامية: شجرة الدر في العصر الأيوبي، ومنهن من قضت آخر حياتها في الملك، وازدهر ملك قومها في عهدها؛ فما معنى نفي الفلاح عمن ولوا أمرهم امرأة؟ هذا اعتراض بأمر واقع، ولكنه لا يرد علينا؛ لأن الفلاح المنفي هو الفلاح في لسان الشرع، وهو تحصيل خير الدنيا والآخرة، ولا يلزم من ازدهار الملك أن يكون القوم في مرضاة الله، ومن لم يكن في طاعة الله فليس من المفلحين، ولو كان في أحسن حال فيما يبدو من أمر دنياه. على أن أكثر من ولوا أمرهم امرأة من الأمم إذا قابلهم مثلهم، كانت عاقبتهم أن يغلبوا” . ومما يدل على أن الفلاح في لسان الشرع ليس كما توهموا قول الله تعال: ﴿ ﴾ [سورة المؤمنون آية 1]، ثم ذكر سبحانه أوصاف المؤمنين، ثم فسر الفلاح بقوله: ﴿ ﴾ [سورة المؤمنون آيتان 10- 11]؛ فما أعجب أن يُرد حديث ثابت عن نبينا اعتلالا بدول تمتعت بنصيب من الدنيا، مع كفرها، وشيوع الفواحش كاللواط والسحاق والزنا فيها، ومشاركة قادتها في تدمير أراضي الأبرياء، وسفك الدماء، وتمزيق أجساد الصغار والكبار أشلاء؛ فعن أي فلاح يتحدثون؟! لا جرم أنهم لم يعرفوا –إن صدقت نيتهم- واقعهم، ولم يفقهوا حديث نبيهم.
وعلى هذه النماذج فقس كل ما زعم المبطلون أنه مخالف للقرآن أو العقل أو الواقع.
وخلاصة الكلام أننا متى نظرنا نظر منصف في الجامع الصحيح ألفيناه جمع من حيث الجملة كل مقومات الحجية، ونعني بها هنا أن ما ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وليس ثمة قرينة حالية أو مقالية، متصلة أو منفصلة، تدل على وقوع أحد رواته في الوهم فإنه حجة واجب الاتباع؛ فإن كان خبرا عن أشياء ماضية أو مستقبلية أو ثواب أو عقاب وجب تصديقه، وما كان فيه من أحاديث الأحكام المحكمة غير المنسوخة مما قصد به التشريع للعباد كافة، ولم يكن حادثة عين، فواجب المسلم امتثال المأمور وترك المحظور، مع التمييز بين مراتب الأحكام.
ومجموع ما تمسك به الطاعنون في الجامع الصحيح واه من جهتين: الأولى: افتقارهم إلى المكنة العلمية، وشروط الأهلية، بل وافتقار بعضهم إلى الأمانة العلمية والثانية: وهن الشبهات التي تمسكوا بها، وحكم ميزان النقد العلمي بأنها طائشة لا وزن ولا ثقل لها.
خاتمة
الحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا على ما يسر لنا في هذه الرحلة العلمية بحثا عن الخصائص المنهجية لصحيح البخاري، ومقومات حجيته؛ وقد خلص البحث إلى ما يلي:
– من مزايا الجامع الصحيح أنه شامل لمختلف الموضوعات التي يحتاج إليها.
– المعتمد أصالة في صحيح البخاري هي الأحاديث المسندة، وما سواها من المعلقات التي لم يروها متصلة في موضع آخر، والمراسيل؛ فليست على شرط البخاري، ولا لها حكمه، وقد ذكرها البخاري لمناسبة حديثية أو فقهية
– وصف الصحة مشترك بين مجموعة من المدونات الحديثية؛ لكن للبخاري ميزة الأصحية؛ فهو أكثرها حديثا صحيحا، وفي الجملة أحاديثه أصح من غيره.
– الجامع الصحيح كتاب حديث وفقه، وفيه احتجاج بالقرآن الكريم وبالسنة المشرفة الصحيحة؛ ولذا فكل حديث مسند فيه، لم يثبت نسخه، ولا عارضه أصل أقوى منه بحيث يتعذر الجمع؛ فهو حجة واجب الاتباع.
– الثقة بالجامع الصحيح وصاحبه محققة، وكل الشبهات التي تثار حول صحة النسبة فهي إلزام بغير ملزم، ومقتضى المنهج العلمي الحصيف تحقق نسبة صحيح البخاري للإمام البخاري العدل الحافظ الثقة الفقيه. والله الموفق وبه نستعين والحمد لله رب العالمين.
لائحة المصادر والمراجع
القرآن الكريم برواية ورش عن نافع
أحكام القرآن لأبي بكر أحمد بن علي الجصاص المحقق: محمد صادق القمحاوي – عضو لجنة مراجعة المصاحف بالأزهر الشريف، دار إحياء التراث العربي – بيروت، 1405 هـ.
اختصار علوم الحديث لأبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان ط2، ص34.
أعلام الحديث لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي، تحقيق: د. محمد بن سعد بن عبد الرحمن آل سعود، جامعة أم القرى (مركز البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي، ط1، 1409 هـ – 1988م.
الإلزامات والتتبع للدارقطني لأبي الحسن علي بن الدارقطني، دراسة وتحقيق: الشيخ أبي عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، ط2، 1405 هـ – 1985م.
الأم لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، تحقيق محمد زهري النجار، دار المعرفة – بيروت، ط1، 1410هـ/1990م.
البرهان في أصول الفقه لأبي المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني، تحقيق: صلاح بن محمد بن عويضة، دار الكتب العلمية بيروت – لبنان، ط1 1418 هـ – 1997م.
تاريخ بغداد لأبي بكر أحمد بن ثابت الخطيب البغدادي، دراسة وتحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية – بيروت، ط1، 1417 هـ.
تأويل مختلف الحديث لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، المكتب الاسلامي – مؤسسة الإشراق، ط2، 1419هـ – 1999م، ص260-264.
تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق: أبي قتيبة نظر محمد الفاريابي، دار طيبة، ط2، 1415ه.
ترتيب المدارك وتقريب المسالك لأبي الفضل القاضي عياض بن موسى اليحصبي، تحقيق عبد القادر الصحراوي، مطبعة فضالة – المحمدية، المغرب، ط1، 1966 هـ- 1970م.
التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الجامع الصحيح لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي، تحقيق: د. أبو لبابة حسين، دار اللواء للنشر والتوزيع – الرياض، ط1، 1406 هـ – 1986.
تغليق التعليق على صحيح البخاري لأبي الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني، تحقيق: سعيد عبد الرحمن موسى القزقي، المكتب الإسلامي , دار عمار – بيروت, عمان – الأردن، ط1، 1405ه.
تقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث لأبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، تقديم وتحقيق وتعليق: محمد عثمان الخشت، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1405 هـ – 1985م.
التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح لأبي الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي، تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان، المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، ط1، 1389هـ/1969م.
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لأبي عمر يوسف بن عبد الله ابن عبد البر ، تحقيق: مصطفى بن أحمد العلوي , محمد عبد الكبير البكري، وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية – المغرب، ط: 1387هــ.
تهذيب الكمال في أسماء الرجال لأبي الحجاج جمال الدين يوسف بن عبد الرحمن المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة – بيروت، ط1، 1400 – 1980م.
التوضيح لشرح الجامع الصحيح لسراج الدين أبي حفص عمر بن علي ابن الملقن، تحقيق: دار الفلاح للبحث العلمي وتحقيق التراث، دار النوادر، دمشق – سوريا، ط1، 1429 هـ – 2008م.
الجامع لأبي عروة معمر بن راشد، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، نشر المجلس العلمي بباكستان، وتوزيع المكتب الإسلامي ببيروت، ط2، 1403 هـ، والجامع لأبي محمد عبد الله بن وهب، تحقيق: الدكتور رفعت فوزي عبد المطلب – الدكتور علي عبد الباسط مزيد، دار الوفاء، ط1، 1425 هـ – 2005م.
الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع لأبي بكر أحمد بن ثابت الخطيب البغدادي، تحقيق د. محمود الطحان، مكتبة المعارف – الرياض، ط1403هـ- 1983م.
الجرح والتعديل لأبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، طبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية – بحيدر آباد الدكن – الهند، دار إحياء التراث العربي – بيروت، ط1، 1271 هـ 1952م.
جرح والتعديل لأبي محمد عبد الرحمن بن محمد ابن أبي حاتم الرازي، طبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية – بحيدر آباد الدكن – الهند، دار إحياء التراث العربي – بيروت، ط1، 1271 هـ 1952 م.
حطة في ذكر الصحاح الستة لأبي الطيب محمد صديق خان القِنَّوجي، دار الكتب التعليمية – بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م.
خصائص مناهج المحدثين في ضبط السنة النبوية وأثرها في التربية والبحث العلمي لمحمد اصبيحي، منشور ضمن مجلة الجامعة الإسلامية بمنيسوتا بأمريكا للبحوث العلمية والدراسات الأكاديمية المحكمة، العدد التاسع، ، 1444ه- 2022م.
الرسالة لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، تحقيق: أحمد شاكر، مكتبه الحلبي، مصر، ط1، 1358هـ/1940م.
الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة لأبي عبد الله محمد بن أبي الفيض جعفر الحسني الكتاني، تحقيق محمد المنتصر بن محمد الزمزمي، دار البشائر الإسلامية، ط6، 1421هـ-2000م.
روايات المدلسين في صحيح البخاري جمعها – تخريجها – الكلام عليها لعواد الخلف، دار البشائر الإسلامية.
السنن لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي، تحقيق وتعليق: أحمد محمد شاكر، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي مصر، ط2، 1395 هـ – 1975م.
الشفا بتعريف حقوق المصطفى – مذيلا بالحاشية المسماة مزيل الخفاء عن ألفاظ الشفاء لأبي الفضل القاضي عياض بن موسى اليحصبي، حاشية: أحمد بن محمد الشمنى، دار الفكر الطباعة والنشر والتوزيع، ط 1409 هـ – 1988م.
صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط لأبي عمرو عثمان ابن الصلاح الشهرزوري، تحقيق: موفق عبدالله عبدالقادر، دار الغرب الإسلامي – بيروت، ط2، 1408.
طبقات الحنابلة لأبي الحسين ابن أبي يعلى، تحقيق: محمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة.
عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي لأبي بكر ابن العربي المعافري، دار الكتب العلمية بيروت.
العرف الشذي شرح سنن الترمذي لمحمد أنور شاه بن معظم شاه الكشميري الهندي، تصحيح: الشيخ محمود شاكر، دار التراث العربي -بيروت، لبنان، ط1، 1425 هـ – 2004م.
الفتاوى النبوية: الأوصاف والمقاصد لمحمد اصبيحي، بحث ضمن كتاب جماعي محكم بعنوان مقاصد الشريعة الإسلامية في ضوء السنة النبوية من خلال مقامات التصرفات النبوية، نشر مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، بيروت، ط1، 1444هـ- 2022م.
فتح الباري شرح صحيح البخاري لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار المعرفة – بيروت، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، تصحيح وإشراف: محب الدين الخطيب ط 1379.
فتح المغيث بشرح الفية الحديث لشمس الدين أبي الخير محمد بن عبد الرحمن، تحقيق: علي حسين علي، مكتبة السنة – مصر، ط1، 1424هـ/ 2003م.
فهرسة ابن خير الإشبيلي لأبي بكر محمد بن خير الإشبيلي، تحقيق: محمد فؤاد منصور، دار الكتب العلمية – بيروت/ لبنان، ط1، 1419هـ/1998م.
الفروق لأبي العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي، عالم الكتب. بدون تحقيق ولا رقم طبعة ولا تاريخ الطبع.
الكفاية في علم الرواية لأبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، تحقيق: أبي عبدالله السورقي وإبراهيم حمدي المدني، المكتبة العلمية – المدينة المنورة، ط1357ه.
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لعبد الحميد محمد بن باديس، تحقيق وتعليق أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية بيروت- لبنان.، ط1، 1416هـ – 1995م.
مراسيل صحيح البخاري لعواد حسين الخلف، مجلة البحوث القانونية والاقتصادية، جامعة المنصورة، ط1، 1422هـ- 2001م.
مسالك رد الحديث بين النقد العلمي والطعن المتحامل لمحمد السائح، دار الكلمة للنشر والتوزيع المنصورة، ط2، 2023م.
المستصفى لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، ط1، 1413هـ – 1993م.
المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت.
مشارق الأنوار على صحاح الآثار للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي السبتي، دار النشر: المكتبة العتيقة بتونس ودار التراث بمصر، ط1978.
معرفة السنن والآثار لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق: عبد المعطي أمين قلعجي، جامعة الدراسات الإسلامية (كراتشي – باكستان)، دار قتيبة (دمشق -بيروت)، دار الوعي (حلب – دمشق)، دار الوفاء (المنصورة – القاهرة)، ط1، 1412هـ – 1991م.
معرفة أنواع علوم الحديث لأبي عمرو عثمان ابن الصلاح، تحقيق: نور الدين عتر، دار الفكر- سوريا، دار الفكر المعاصر – بيروت، ط 1406هـ – 1986م.
معرفة علوم الحديث لأبي عبد الله الحاكم محمد ابن البيع، تحقيق: السيد معظم حسين، دار الكتب العلمية – بيروت، ط2، 1397هـ – 1977م.
مناهج المحدثين العامة والخاصة “الصناعة الحديثية” لعلي نايف بقاعي، دار البشائر الإسلامية، ط1، 1434هـ-2003م.
منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية لأبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، تحقيق، محمد رشاد سالم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط1، 1406 هـ – 1986م.
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج لأبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، ط2، 1347هـ- 1929م.
نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر لأبي الفضل أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني، تحقيق عبد الله بن ضيف الله الرحيلي، مطبعة سفير بالرياض، ط1، 1422هـ.
النكت على كتاب ابن الصلاح لأبي الفضل أحمد بن علي ابن حجر العسقلاني، تحقيق: ربيع بن هادي عمير المدخلي، عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية، ط1، 1404هـ/1984م.