من الموضوعات التي كانت تثير فضولي دائما هو موضوع التكملات أو ما يسمى بالمكملات، من حيث فهم كنهها، وضبط محلها وموقعها، خصوصا عندما أستصحب عند مطالعة تفاصيلها موضوع المرتبة الثالثة من مراتب المصالح، ألا وهي مرتبة التكميليات أو التحسينيات.
فمصطلحا التكميليات والتكملات معا في غاية من التقارب، حيث يتأسسان على نفس الجذر اللغوي وهو مادة كمل، والذي يفيد بحسب معاجم اللغة معاني التمام الذي يجزأ منه أجزاؤه، نقول: لك نصفه وبعضه وكَمالُه، وأكملت الشيء أي أجملته وأتممته[1].
وأما في الاصطلاح، فبالنسبة لمصطلح التكميليات، فقذ حظي باهتمام واسع من أهل المقاصد، بحكم تعلقه بمراتب المصالح في الشريعة الإسلامية بحسب ما تواطأ عليه أهل الفن منذ تقسيم الجويني، وهي مرتبة الضروريات ومرتبة الحاجيات ومرتبة التكميليات، إذ تم تعريف التكميليات بحسب ما أورده الشاطبي الذي معه نضج هذا العلم واستوى، بأنها الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنّسات، التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق[2].
أما مصطلح التكملات، التي مفردها تكملة، أو مصطلح المكملات، التي مفردها مكملة أو مكمل، أو مصطلح التتمات التي مفردها تتمة، فلها نفس المعنى، إلا أن دلالتها الاصطلاحية لم تحظ بنفس اهتمام دلالة التكميليات؛ إذ الملاحظة الأساس، أن منذ الكشف عن هذا المصطلح –أي التكملات- مع الغزالي مرورا بمن بعده إلى الشاطبي، لم يحظ بالعناية بإيراد تعريفه المباشر– وهو الحال نفسه مع تعريف مقاصد الشريعة- ، فاهتمام الغزالي بهذا المصطلح تمثل في الإشارة إليه بعد ذكر مراتب المصالح الثلاث حيث قال: “ويتعلق بأذيال كل قسم من الأقسام، ما يجري منها مجرى التكملة والتتمة”[3]، أما الشاطبي فقد تحدث عن هذا المصطلح مع بداية المسألة الثانية، أي بعد المسألة الأولى التي جعلها للحديث عن تقسيم المصالح إلى المراتب الثلاث، حيث قال: “كل مرتبة من هذه المراتب ينضم إليها ما هو كالتتمة والتكملة، مما لو فرضنا فقده لم يخل بحكمتها الأصلية، فأما الأولى، فنحو التماثل في القصاص…”[4] ثم تابع في التمثيل لهذه التكملات، ثم ختم بقوله: “ومن أمثلة هذه المسألة أن الحاجيات كالتتمة للضروريات، وكذلك التحسينيات كالتكملة للحاجيات، فإن الضروريات هي أصل المصالح”[5]. أما المسألة الثالثة فقد خصها للحديث عن شروط الأخذ بالتكملات، ليعود في المسألة الرابعة إلى الحديث عن القواعد التي تضبط العلاقة بين الضروريات والحاجيات والتحسينيات.
ومن جهة أخرى، فالمثير للانتباه، أنه إذا كان بعض الأصوليين ممن جاءوا بعد الغزالي 505ه حافظوا على الإطلاق الذي يعنيه الغزالي بالمصطلح، وأخص بالذكر هنا الآمدي 613ه، إلا أن الكثير منهم ممن تكلموا في الموضوع، إنما قصدوا بالتكملات والتتمات المرتبة الثالثة من مراتب المصالح، أي التكميليات والتحسينيات، من أبرزهم العز بن عبد السلام 660ه الذي يعد أول المتأخرين عن الغزالي الذين خرجوا عن المعنى الذي أصله الغزالي وأكده الآمدي، حيث قال مثلا: “وعلى الجملة فمصالح الدنيا والآخرة ثلاثة أقسام، كل قسم منها في منازل متفاوتات. فأما مصالح الدنيا فتنقسم إلى الضرورات والحاجات والتتمات والتكملات. فالضرورات: كالمآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح والمراكب الجوالب للأقوات وغيرها مما تمس إليه الضرورات، وأقل المجزئ من ذلك ضروري، وما كان في ذلك في أعلى المراتب كالمآكل الطيبات والملابس الناعمات، والغرف العاليات، والقصور الواسعات، والمراكب النفيسات ونكاح الحسناوات، والسراري الفائقات، فهو من التتمات والتكملات، وما توسط بينهما فهو من الحاجات. وأما مصالح الآخرة ففعل الواجبات واجتناب المحرمات من الضروريات وفعل السنن المؤكدات الفاضلات من الحاجات، وما عدا ذلك من المندوبات التابعة للفرائض والمستقلات فهي من التتمات والتكملات”[6].
ومنهم أيضا القرافي 684ه الذي تابع شيخه العز بن عبد السلام 660ه حيث قال: “المصالح الشرعية ثلاثة أقسام، ما هو في محل الضرورات، وما هو في محل الحاجات، وما هو في محل التتمات”[7].
ومنهم كذلك نجم الدين الطوفي 716ه المتأخر عن القرافي 684ه إذ قال: “المناسب ينقسم إلى ما هو في محل الضرورات، وإلى ما هو في محل الحاجات، وإلى ما هو في محل التتمات والتكميلات”[8].
إذا كان الغزالي الكاشف عن مفهوم التكملات، والشاطبي الذي تقدم كثيرا في إحاطته بما يحتاجه من ضبط، وغيرهما من أعلام هذا الفن، لم يعتنوا بتعريفه، فقد حاول بعض المعاصرين تقديم تعريف عنه، كان من أبرزهم نور الدين الخادمي حيث قال : “مكملات المقاصد هي جملة الأحكام التي تجعل المصالح الضرورية والحاجية والتحسينية تامة وكاملة ومكتسبة على أحسن الوجوه وأفضلها”[9].
وقبل ذلك أشار في المدخل إلى أن “المقصود بالمكملات والمتممات:
– ما يكمل المصالح الضرورية؛ سواء كان مصالح حاجية أو مصالح تحسينية أو غيرها من المكملات.
– ما يكمل المصالح الحاجية، من مصالح تحسينية ومن غيرها من المكملات.
– ما يكمل المصالح التحسينية”[10].
وهو ما أكده عند تفصيله فيما بعد في مكملات كل مرتبة على حدة.
فهذه التقريرات التي أوردها الخادمي وفقه الله، ليست من نسج الخيال، ولكن بدون شك تدل عليها الكتابات الأصولية والمقاصدية في هذا الشأن، ولو بدلالة الإشارة أو دلالة اللزوم، فالشاطبي عند حديثه عن قصد الشارع في وضع الشريعة، يقر في المسألة الثانية أن “كل مرتبة من هذه المراتب ينضم إليها ما هو كالتتمة والتكملة، مما لو فرضنا فقده لم يخل بحكمتها الأصلية”[11]، ليفصل في أمثلة هذه التكملات، ثم يضيف : “ومن أمثلة هذه المسألة أن الحاجيات كالتتمة للضروريات، وكذلك التحسينات كالتكملة للحاجيات”[12]، فعبارة الشاطبي “ومن أمثلة” تدل على وجود أمثلة أخرى خارج هذه الدائرة، أي دائرة كون الحاجيات والتحسينيات تكملة للضروريات، وكون التحسينيات تكملة للحاجيات، فهو قدم بأمثلة أولى عن الموضوع ثم أعقبها بأمثلة المراتب الثلاث، وهذا كله يفهم منه أن المكملات التي تخدم بها المراتب الثلاث بعضها بعضا، هي جزء من المكملات، أي أن هناك مكملات أخرى خارجة عن مكملات المراتب الثلاث، وهو المعنى الذي أفصح عنه الخادمي لكن بدلالة العبارة، مقابل دلالة اللزوم التي تفهم من كلام الشاطبي، وكل ذلك يتأصل عند الغزالي الذي جعل التكملات أذيالا تابعة لكل مرتبة، بما يوحي إلى فصل التكملات ولو جزئيا عن المراتب الثلاث.
وهو المعنى الذي يردده أيضا غير هؤلاء بالتوارث ومتابعة اللاحق للسابق، حيث قال على سبيل المثال جمال الدين الإسنوي 772ه: “فترجح الضروريات ثم الحاجيات ثم التتمات، والمكمل لكل قسم ملحق به..، فالمكمل للضروري مقدم على الحاجي, والمكمل للحاجي مقدم على التحسيني”[13]، بمعنى أنه فصل بين المكملات، والحاجيات والتحسينيات، والأعجب أن ما يكمل الضروري جعله بإطلاق مقدما ومرجحا على الحاجي، وما يكمل الحاجي أيضا جعله بإطلاق مقدما ومرجحا على التكميلي، ولم يفترض على الأقل أن يكون قرينا أو مساويا له.
بل امتد هذا الفهم إلى بعض المعاصرين، وأحيانا بشكل طافح، كما هو عند الدكتور عبد الرحمن الكيلاني الذي عند تعليقه على قاعدة الشاطبي بأن اختلال الضروري يلزم منه اختلال الباقيين بإطلاق، قال: هذه هي الأمثلة التي يسوقها الإمام الشاطبي لبيان اختلال الحاجيات والتحسينيات عند اختلال الضروريات، غير أنا بالنظر إليها لا نجدها من الحاجيات ولا التحسينيات، ولكنها من مكملات الضروريات، فإن انتفاء الغرر والجهالة ليس أمرا حاجيا ولا تحسينيا، وإنما هو من مكملات الضروري المتمثل في البيع، إن كان ضروريا، كذلك فإن اعتبار المماثلة في القصاص ليس أمرا حاجيا ولا تحسينيا، وإنما هو من مكملات الضروري في حفظ النفس”[14].
بعد كل هذا، يمكن القول إن هذا الرأي يحتاج لقليل من المراجعة، فمقولة أن يكون من المكملات ما لا ينتمي لا إلى الحاجيات ولا إلى التحسينيات، هو مما لا يتخيل في شريعة الإسلام، بمعنى أن كل تكملة للضروريات والحاجيات والتحسينيات، هي بالضرورة تنتمي لأحد هذه المراتب الثلاث، لسبب بسيط أن المراتب الثلاث هي مراتب تستوعب كل أحكام الشريعة بمقاصدها ووسائلها، وكأن الشريعة بأكملها مقسمة هرميا إلى ثلاث مراتب: المرتبة الأولى والعليا الضروريات، والمرتبة الثانية الوسطى الحاجيات، والمرتبة الثالثة الدنيا التحسينيات، وبالتالي فحتى المكملات بأكملها لابد أن تجد لها موطئا وموطنا داخل هذا التقسيم، وهذا من مقتضيات الشمول والصلاحية لكل زمان ومكان في شريعة الإسلام؛ وإلا إن قلنا بأن المكملات مستقلة لا تندرج لا في الحاجيات ولا التحسينيات، نسفنا التقسيم الثلاثي، ونفينا عنه استيعاب مصالح الدين وألغينا عنه صفة مراتب الدين.
وهذا يعني أن حتى الأمثلة الأخرى للمكملات التي تكلم عنها الشاطبي أو غيره من علماء هذا الفن قديما وحديثا، لا تخرج عن المراتب الثلاث، يقول الشاطبي على سبيل التمثيل بعد تقعيده بأن كل مرتبة من هذه المراتب ينضم إليها ما هو كالتتمة والتكملة: “فأما الأولى، فنحو التماثل في القصاص، فإنه لا تدعو إليه ضرورة، ولا تظهر فيه شدة حاجة، ولكنه تكميلي، وكذلك نفقة المثل، وأجرة المثل، وقراض المثل، والمنع من النظر إلى الأجنبية، وشرب قليل المسكر، ومنع الربا، والورع اللاحق في المتشابهات، وإظهار شعائر الدين، كصلاة الجماعة في الفرائض والسنن، وصلاة الجمعة، والقيام بالرهن والحميل، والإشهاد في البيع إذا قلنا: إنه من الضروريات..، وأما الثانية، فكاعتبار الكفء ومهر المثل في الصغيرة، فإن ذلك كله لا تدعو إليه حاجة مثل الحاجة إلى أصل النكاح في الصغيرة، وإن قلنا: إن البيع من باب الحاجيات، فالإشهاد والرهن والحميل من باب التكملة..، وأما الثالثة، فكآداب الأحداث، ومندوبات الطهارات، وترك إبطال الأعمال المدخول فيها وإن كانت غير واجبة، والإنفاق من طيبات المكاسب، والاختيار في الضحايا والعقيقة والعتق، وما أشبه ذلك”[15]. فهنا يطرح السؤال حول أحكام كثيرة مما ذكر، ترتبط بها مصالح لا يمكن عزلها عن المراتب الثلاث، كالمنع من النظر إلى الأجنبية، ومنع الربا، والإشهاد في البيع…
والخلاصة المقصودة أولا من كل هذا، أن التكملات لا تخرج عن الحاجيات والتكميليات، أي إنها إما تكميليات تخدم الحاجيات والضروريات، أو حاجيات تخدم الضروريات، فالتكملات رغم أهمية التنصيص عليها من الناحية الشكلية لإبراز خدمتها للضروريات والحاجيات؛ إلا إنها من حيث المضمون والجوهر، لا تحمل قيمة مضافة بالنسبة لصرح المقاصد والمصالح، سوى أنها مصالح حاجية أو تحسينية، لأن ما يعبر عنه المصطلح هو أصلا متضمن وداخل في ترتيب المصالح إلى ضروريات وحاجيات وتكميليات، وبالتالي فرغم الحديث عن مكملات الضروريات أو الحاجيات أو حتى التكميليات، فلا ينبغي إغفال أنها إما حاجيات أو تكميليات. بمعنى أنه كما أشار بعض أهل الفن إلى أن الحاجيات والتحسينيات من التكملات، فلا ينبغي إغفال العكس، أي أن التكملات أصلا وفصلا هي إما حاجيات أو تكميليات.
أما الخلاصة الثانية فترتبط بالضوابط والقواعد التي قيلت عن التكملات وعن المراتب الثلاث، فضوابط الأولى تهم وتتماهى مع ضوابط الثانية، فالضابط الأساس للتكملات كما أورده الشاطبي وهو أن كل تكملة فلها- من حيث هي تكملة- شرط، وهو: أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال، وذلك أن كل تكملة يفضي اعتبارها إلى رفض أصلها، فلا يصح اشتراطها عند ذلك[16]، فهو ضابط يعبر أيضا عن علاقة الضروريات بالحاجيات والتحسينيات وعلاقة التحسينيات بالحاجيات، كما أن القواعد التي تضبط المراتب الثلاث والتي سماها الشاطبي مطالب خمسة لا بد من بيانها، هي أيضا مطالب خمسة لا بد من بيانها حتى في ضبط علاقة التكملات بما تكمله من مصالح، وهي:
أحدها: أن الضروري أصل لما سواه من الحاجي والتكميلي.
والثاني: أن اختلال الضروري يلزم منه اختلال الباقيين بإطلاق.
والثالث: أنه لا يلزم من اختلال الباقيين بإطلاق اختلال الضروري بإطلاق .
والرابع: أنه قد يلزم من اختلال التحسيني بإطلاق أو الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما.
والخامس: أنه ينبغي المحافظة على الحاجي وعلى التحسيني للضروري[17].
وأما الخلاصة الثالثة فتتعلق بسبر أغوار سبب التسمية بالتكملات عموما، وعند الشاطبي على الخصوص، إذ يبدو أن السبب والعلة– في صورة تشبه تخريج المناط – إنما هو الإشارة إلى الباب الفقهي الواحد أو الجزئية الفقهية الواحدة، التي يتكامل فيها ويلتقي ما هو ضروري من الأحكام مع ما هو حاجي وتحسيني، لضمان حصول المصلحة المقصودة من التشريع الحكيم؛ وبعبارة أخرى، يمكن القول إن التكميليات والحاجيات التي تخدم نفس الموضوع المتعلق بالضروريات، هي المكملات.
ومن أمثلة ذلك:
التماثل في القصاص: فهو تكملة للقصاص من أجل حفظ النفس من جهة الضروريات، وليس تكملة للصلاة أو غيرها من الأبواب.
الأذان: فهو تكملة للصلاة، إذ يخدم مقصدها الضروري لحفظ الدين وإقامة الشعيرة، لكنه لا يعتبر تكملة للقصاص أو غيره من الأحكام.
الإشهار في النكاح: ويعد تكملة للنكاح، وذلك لخدمة مقصدها الضروري من أجل حفظ النسل وصيانة الأعراض، وليس لحفظ المال أو العقل.
وبذلك يظهر أن مفهوم التكملات يعبر عن نسب وظيفي يجمعه بمراتب المقاصد والمصالح الثلاث.
ولا شك أن هذا الملمح سيعين على تلمس التعريف المستوفي والمستوعب لعناصر مفهوم التكملة.
وأما الخلاصة الرابعة فإنها تبع لما سبق، وتتعلق بمبحث هو أصعب المباحث في هذا الشأن، وهو إشكال التمييز بين المكملات، وما تكمله من مصالح مقصودة أصالة، وذلك بسبب ما قد يقع من الخلط بين المكملات والمقاصد الأصلية المرتبطة بها، إذ قد يقع الخطأ من بعض الدارسين في بعض المكملات، فيجعلون من المكملات ما ليس منها، بل تكون في الحقيقة مقاصد أصلية، وقد تكون بعض المصالح مكملات من جهة، وفي الآن نفسه مقصودة أصالة من جهة أخرى. ويمكن التمثيل على هذا الكلام بما أشار إليه نور الدين الخادمي في علم المقاصد الشرعية، حيث جعل من تتمات وتكملات الضروريات[18]:
– تحريم البدعة، لما في وجودها وبقائها من ضياع الدين وتبديله وتنقيصه؛ لذلك مُنعت وحرِّمت؛ تحقيقا للتدين الكامل والعبادة التامة الخالصة، الخالية من شوائب الزيادات والنواقص.
– معاقبة الداعي إلى البدع؛ لأنه يدعو إلى الكفر المفوت لحفظ الدين.
– المبالغة في حفظ العقل، بتحريم شرب القليل وإيجاب الحد فيه؛ فالقليل حُرِّم للتتميم والتكميل.
كما جعل أيضا الخادمي من مكملات المقاصد الحاجية[19]:
– الجمع بين الصلاتين في السفر والمرض مشروع لتكملة الحاجة إلى التوسعة والتخفيف؛ فلو لم يشرع لم يُخَل بأصل التوسعة وذلك التخفيف.
– مراعاة الكفء ومهر المثل في الصغيرة؛ فإن مقصود النكاح يحصل بدونها، لكن اشتراط ذلك على سبيل تكميل النكاح من حيث تحقيق دوامه واستمراره، وتحصيل السكن والمودة والرحمة بين الزوجين.
من خلال ما ذكر، يظهر ما أشرنا إليه من خلط بين المكملات والمراتب الثلاث، ونبدأ بالتعليق على جعله تحريم البدعة ومعاقبة الداعي إليها من تكملات الضروريات، فقد نتفق معه على معاقبة الداعي إلى البدعة، أما تحريمها أصلا فأبعد ما يكون عن التكملات بالمعنى الذي يقصده الخادمي، بل هو من المصالح المقصودة أصالة حفظا للدين من جانب العدم، فكما جعل سبحانه لحفظ الدين أحكاما لحفظه من جانب الوجود كالعبادات والاعتقادات، فقد جعل له من المحرمات ما يحفظه من جانب العدم كتحريم البدع، وفي هذا المقام نستعين بالشاطبي الذي يفصل في كلامه موضوع البدعة وعلاقتها بمراتب المصالح في الاعتصام: “فمعلوم أن هذه البدع ليست في رتبة واحدة فلا يصح مع هذا أن يقال: إنها على حكم واحد، هو الكراهة فقط، أو التحريم فقط. ووجه ثالث، أن المعاصي منها صغائر ومنها كبائر، ويعرف ذلك بكونها واقعة في الضروريات أو الحاجيات أو التكميليات، فإن كانت في الضروريات فهي أعظم الكبائر، وإن وقعت في التحسينات فهي أدنى رتبة بلا إشكال، وإن وقعت في الحاجيات فمتوسطة بين الرتبتين. ثم إن كل رتبة من هذه الرتب لها مكمل، ولا يمكن في المكمِّل أن يكون في رتبة المكمَّل، فإن (المكمِّل مع المكمَّل) في نسبة الوسيلة مع المقصد، ولا تبلغ الوسيلة رتبة المقصد، فقد ظهر تفاوت رتب المعاصي والمخالفات”[20]، وهنا نفي للشاطبي في عدها من المكملات، وما يزيد هذا الكلام وضوحا قوله في فصل تفاوت البدع: “فالبدع من جملة المعاصي، وقد ثبت التفاوت في المعاصي، فكذلك يتصور مثله في البدع. فمنها ما يقع في الضروريات، ومنها ما يقع في رتبة الحاجيات، ومنها ما يقع في رتبة التحسينات، وما يقع في رتبة الضروريات، منه ما يقع في الدين أو النفس أو النسل أو العقل أو المال”[21].
وبناء على هذا الكلام النفيس، نرجح على العموم أن تحريم البدع يندرج في الضروريات أصالة، لكن يختلف مقامها ورتبتها على وجه التفصيل بحسب درجة البدعة، فقد تكون مندرجة في الحاجيات أو التحسينيات، وهو أشبه ما يكون بالكليات الخمس، أي حفظ الدين والنفس..، فهي كليات ترتبط أصالة برتبة الضروريات، مع العلم أنها على وجه التفصيل قد تندرج في الحاجيات أو التحسينيات.
أما ما ذكره الخادمي أيضا من أن الجمع بين الصلاتين في السفر والمرض مشروع لتكملة الحاجيات، أي الحاجة إلى التوسعة والتخفيف، فهو كلام لا يصح من حيث أن جمع الصلاة بسبب السفر والمرض هو من الأمثلة التي تذكر لحفظ عين المصالح الحاجية، وليس هو تكملة للحاجيات، لكن قد ندرجه في تكملة الضروريات من حيث أن الحاجيات هي في الأصل مكملات للضروريات.
وأما الخلاصة الخامسة فتتعلق بعلاقة التكميليات بالتكملات، فهي علاقة جزء بكل، فالتكميليات من المكملات، لأن المكملات قد تكون حاجيات وقد تكون تكميليات، فهما معا مقصودان للشارع، مقصودان لذاتهما من جهة، لأن المصالح الحاجية والتكميلية من المعلوم أن الشريعة قاصدة لحمايتهما ورعايتهما، لأنها لم تأت لحماية الضروريات فقط، بل لتوفير حياة الراحة والرفاهية أيضا للمكلف، لرفع الحرج عنه وبث الجمال والكمال على مصالحه الدينية والدنيوية، ومقصودان لغيرهما من جهة أخرى، باعتبار أن هذه التوسعة في المصالح تخدم المصالح الضرورية وتكون حامية ومقوية لها، لهذا فتسمية المكملات يقصد بها ما يراد تكميله من الضروريات والحاجيات وحتى التكميليات.
فحتى مرتبة التكميليات لها مكملات، لكنها لا تخرج عن دائرة التكميليات لأنها آخر مرتبة من مراتب المصالح، وكما قلنا سابقا لا وجود لمصلحة لا تندرج في المراتب الثلاث مهما كان قدرها صغيرا وحجمها ضئيلا، وهذا يزداد وضوحا بإيراد ما ذكره أئمة هذا الفن وعلمائه من أمثلة عن مكملات التكميليات، حيث ذكر الشاطبي مثلا منها آداب الأحداث، ومندوبات الطهارات، والإنفاق من طيبات المكاسب، والاختيار في الضحايا والعقيقة والعتق[22]، فالشاطبي جعل كل تلك الأحكام بمثابة مكملات للتكميليات، وهذا لا إشكال فيه، ونزيد على ذلك أنها رغم تكملتها للتكميليات فهي لا تخرج عن هذه المرتبة، أي التكميليات، بمعنى أن مرتبة التكميليات تتضمن مستويات من المصالح التي ترعاها الأحكام، بعضها أعلى قدرا وأهمية من بعض –وهذا حاصل حتى بالنسبة لمرتبة الحاجيات ومرتبة الضروريات-، القاسم المشترك بينها أنها تضفي جمالا وكمالا على حياة الإنسان في دينه ودنياه، بحيث أن المرتبة الدنيا مع الأعلى منها في نفس الموضوع الفقهي، ستكون مكملة لها وخادمة.
وبذلك فمصطلح التكملات أو المكملات في العمق ما هو إلا ضبط وتوضيح للعلاقة بين المصالح الثلاث أي الضروريات والحاجيات والتكميليات، بمعنى أن الحاجيات والتكميليات هي مكملات للضروريات من جهة، كما إن التكميليات هي مكملات للحاجيات وحتى للتكميليات من جهة أخرى.
[1] – العين للخليل الفراهيدي، 5/ 378، وتهذيب اللغة لمحمد بن أحمد بن الأزهري الهروي، 10/ 148
[2] – الموافقات 2/ 22.
[3] – المستصفىص174.
[4] – الموافقات 2/ 24.
[5] – الموافقات 2/ 25.
[6] – قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 2/71.
[7] – الذخيرة للقرافي، 7/ 159.
[8] – شرح مختصر الروضة، 3/ 385.
[9] – علم المقاصد الشرعية، ص94
[10] – علم المقاصد الشرعية، ص93
[11] – الموافقات 2/ 24.
[12] – الموافقات 2/ 25.
[13] – نهاية السول شرح منهاج الوصول، ص391.
[14] – قواعد المقاصد عند الإمام الشاطبي، ص215
[15] – الموافقات 2/ 24 و25.
[16] – الموافقات 2/ 26.
[17] – الموافقات 2/ 31.
[18] – علم المقاصد الشرعية، ص95
[19] – علم المقاصد الشرعية، ص96
[20] – الاعتصام، 2/517
[21] – الاعتصام، 2/518
[22] – الموافقات 2/ 24.

