الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
أما بعد، فهذا جوابي على مقال الأستاذ الفاضل الدكتور مصطفى قرطاح، الذي أسعد قلبي انتقاده، وأثلج صدري إرشاده، تهذيبا وتشذيبا، من خلال بوابة مركز المقاصد للدراسات والبحوث مشكورا مأجورا بحول الله، فهكذا تنمو الأفكار ويشتد عودها، حتى تصير راسخة في أصولها، باسقة في فروعها، واضحة في مسارها، ناضجة في ثمارها.
وتفاعلا مع ما خطته أنامل الدكتور مشكورا، أبدي هذه الملاحظات التي ستكون أحيانا موافقة له، وأحيانا مخالفة، وأحيانا بين المنزلتين
أولا:
أول ما أحب أن أبدأ به هو الحديث عن القصد الأساس من مقالتي الموسومة ب : “التقسيم الأصولي للمصلحة بحسب الاعتبار الشرعي والتوسيع المستوعب”، وهو إبداء ملامح إعادة النظر في التقسيم بهذا الاعتبار، إذ إن غرضي وقصدي منه هو البحث عن تقسيم يكون فعلا مستوعبا مستوفيا مستغرقا لكل الحاجيات العلمية خصوصا في زمننا، زمن التوسع في النظر المصلحي، وزمن سيادة منظومات فكرية وحضارية، أولا تتأسس على بعد المصلحة، وثانيا تخلق إشكالات حضارية وفكرية وفقهية واسعة بحكم انبنائها على أصول فكرية ومنهجية مختلفة عن أصولنا.
وهنا أشير إلى أن التقسيم المقترح ليس سداسيا كما أشار الناقد الكريم، بل هو تقسيم رباعي، قسمه الرابع فصلت فيه الكلام والشرح في جزئيات ظن أنها من عناصر التقسيم، وهذا يظهر من خلال وضعي لها في المقالة على هذه الشاكلة:
- مصلحة نص عليها الشارع، أو نقول مصلحة شهد لها الشارع: وهي على قسمين:
أ- مصلحة شهد الشارع باعتبارها: وهي المسماة بالمصلحة المعتبرة
ب- مصلحة شهد الشارع بإلغائها: وهي المسماة بالمصلحة الملغاة
- مصلحة لم ينص عليها الشارع، أو نقول مصلحة لم يشهد لها الشارع:
أ- الوصف المناسب المرسل
ب- الوصف المعارض للنص
لكن عند الحديث عن هذا الأخير، اقتضى الأمر التفصيل في هذا النوع من المصالح التي يمكن ان تكون معارضة للنص، فقد تكون هذه المصلحة متوهمة، وقد تكون ما سميته حقيقية للتمييز فقط عن غيرها، والحقيقية هنا تكون مزاحمة للنص فيرجح أقواهما، وهو ما يقتضيه مفهوم الاستحسان في أحد تفاصيله. لكن مصطلح المصلحة الحقيقية لم أعرضه بقصد إدخاله في عناصر التقسيم بحسب الاعتبار الشرعي، لأنه بكل بساطة لا علاقة له به، إذ لا أتخيل أحدا يهتم بمجال الفكر المصلحي والمقاصدي، يمكن أن يدرج هذا المصطلح في سياق الحديث عن أقسام المصلحة بحسب الاعتبار الشرعي، فحديثي عنه لا أقصد به دلالة اصطلاحية خاصة، بقدر ما هي لغوية عامة.
لكن، ومن باب الاستفادة من استدراك وانتقاد الدكتور قرطاح المشكور والمحمود، فكلامه كان داع بالنسبة لي لإعادة النظر في طريقة عرض التقسيم الرباعي ليكون معبرا فعلا عن المقصود، ومستوعبا لكل أطرافه. وبذلك فالتقسيم الذي أزعم تحقيقه لسمة الاستيعاب والاستغراق هو :
- مصلحة شهد لها الشارع بنص جزئي: وهي على قسمين:
أ- مصلحة شهد الشارع باعتبارها بنص جزئي: وهي المسماة بالمصلحة المعتبرة
ب- مصلحة شهد الشارع بإلغائها بنص جزئي: وهي المسماة بالمصلحة الملغاة
- مصلحة لم يشهد لها الشارع بنص جزئي، بل بنص كلي: وهي على قسمين:
أ- مصلحة شهد الشارع باعتبارها بنص كلي: وهي المسماة المصلحة المرسلة
ب- مصلحة شهد الشارع بإلغائها بنص كلي: وهي المسماة المصلحة المتوهمة.
وإذا قلنا إن أبرز دواعي هذا التقسيم الرباعي هو زيادة وتقوية الاستيعاب والاستغراق، فهذا لا يعني أن التقسيم الثلاثي السابق يعاني من نقص أو خلل بين، فهو من حيث ما قدمه علماء هذا الفن عن شرح مضمونه ومعانيه، فلن نختلف بأنه مستوف ومستوعب، لكن في نظري أن تقوية الاستيعاب والزيادة في الضبط والتصنيف أجدر وأزخر وأزهر، وذلك بإضافة قسم المصلحة المتوهمة ليكتمل البناء ويشتد عوده. فإذا تحدثنا عن تقسيم المصلحة الى معتبرة ومرسلة، وجدناه مستوعبا استيعابا كليا، من حيث المعنى والمضمون، ومن حيث التصنيف والتبويب، باعتباره يعالج كل أوجه معالجة الشريعة للعلل المصلحية، أي سواء التي نُص على اعتبارها بنص جزئي أو بنص كلي، بينما في شق المصلحة الملغاة، وجدنا من الناحية المضمونية من تكلموا عنه أدخلوا فيه كل العناصر المرجوة، ولكن من الناحية الدلالية والاصطلاحية فلا يدل على ذلك، ولا يسع كل ذلك، باعتبار هذه الدلالة تتجه إلى الملغى بنص جزئي فقط، فهذا التنصيص على النص الجزئي يطرح إشكالات معينة في مقابل النص الكلي، رغم أنها لا تطفو على السطح، بحكم طريقة تناول هذا النوع من المصالح وما قدم حوله من شروح، لكن الإشكال يبقى مطروحا على الأقل على مستوى التصنيف والتبويب الذي طرح عدة أعلام ضرورة مراجعته والتجديد فيه في الفكر الأصولي عموما. وبذلك فتقوية التصنيف والتقسيم تزيد المضمون المقصود وضوحا، وهو ما تدل عليه القاعدة الشهيرة، أن الزيادة في المبنى زيادة في المعنى، فهذه قاعدة تقال في الكثير من القضايا والمسائل هي أقل شأنا مما نحن الآن فيه.
إضافة لذلك، فمن أبرز دواعي توسيع هذا التقسيم هو الرد على أصجاب الخطاب الحداثوي الذي يستهدف الشريعة، من خلال النص على ما يسمى بالمصلحة المتوهمة وإيلائه ما يستحق، باعتبار أن الاكتفاء بسلاح المصلحة الملغاة قد لا يفي بالغرض، غرض سد أفواه من لا يشرف هذا المقام بذكرهم وبيان ضعف حجتهم، لأن المصلحة الملغاة ذات حيز ضيق عموما، من جهة لأنها تنصرف إلى المعاملات التي نص الشرع على منعها رغم ما تتضمنه من مصلحة بسبب رجحان المفسدة، أي عدم اعتبار المصلحة المرجوحة بسبب تعارضها مع المفسدة الراجحة، ومن جهة ثانية لتعلقها بما نصت الشريعة على إلغائه بنص جزئي فقط، إذ هذا الأمر قد يفتح لهؤلاء المجال للاحتجاج بأن ما تمنعه الشريعة هو ما نصت على منعه وتحريمه بنصوص جزئية مباشرة، بينما الحديث عن المصلحة المتوهمة يفتح ويفسح مجالا أوسع وإمكانيات أرحب لرد شبهاتهم وأباطيلهم.
أما القول بأن هذا القسم زائد لا طائل وراءه ياعتبار أن الإلغاء في المتوهمة يكفي فيه قسم المصلحة الملغاة، فهو قول أتفق معه من وجه دون أوجه، فرغم أن التقسيم الثلاثي عموما تتحقق به الكفاية من حيث استيعاب أنواع المصلحة بحسب الاعتبار الشرعي، إلا أن إضافة قسم المصلحة المتوهمة هو تقوية لهذا التقسيم وزيادة تحصين له، إن لم أقل أن فيه إضافة نوعية، باعتبار أن الإلغاء ينصرف إلى إلغاء الشريعة لبعض المصالح لكونها مرجوحة، أما التوهم فينصرف إلى عدة معاني أخرى نحن في حاجة إليها، أبرزها منع التشهي والقول على الله بغير علم، ومنها إلغاء بعض المصالح لا لكونها مرجوحة بلغة الشريعة، ولكنها أصلا متوهمة لا أساس لها إلا في أذهان أصحابها، والشريعة منها براء، ليس من حيث إلغاؤها لجانب المصلحة المرجوحة فيها، بل بإبطالها جملة وتفصيلا بالعمل بكلياتها ومبادئها.
ثم إن القول بأن الإلغاء في المتوهمة يكفي فيه قسم المصلحة الملغاة، نقابله بالقول بالقياس، على أن الأمر لو كان كذلك لقلنا بمثله في المرسلة مع المعتبرة، إذ الاعتبار في المرسلة يكفي فيه قسم المصلحة المعتبرة، إذ المرسلة معتبرة لكن بنص كلي، والمتوهمة أيضا ملغاة لكن بنص كلي.
وهذا الكلام أربطه بما أنكره علي الناقد الكريم مشكورا عند حديثي عن المصلحة المتوهمة، فلو شئت لرددت كلامه بما يدل عليه كلامه نفسه، كما رد كلامي بما دل عليه كلامي نفسه، إذ أسوق من كلامه ما يوحي إلى رجحان اختياري واجتهادي المتواضع، فعند كلامه عن المصلحة المرسلة، تحدث على أن الناس بعد سياج الشريعة (لما أصبحوا يدركون الوجه المصلحي للشريعة وسياقه واتجاهه، هدتهم إلى المنهج الذي به يميزون المصالح التي قد تعترضهم في حياتهم، ويدركون رتبها وأنواعها، وذلك بنصوص عامة وقواعد كلية، فسموها مصالح مرسلة). أقول: إن نصف كلامه الأول إن حجبنا نصفه الثاني فلن نختلف في كونه ينطبق على المصلحة المعتبرة أيضا، فما دام أن الناس أدركوا الوجه المصلحي، واهتدوا إلى المنهج الذي يميزون به المصالح، فما سيختارونه من مصالح العاجل لا يخرج عن ما اعتبره الشرع بنصوصه، وبالتالي فكل ذلك لا يمكن إخراجه عن الاعتبار الشرعي، أي المصلحة المعتبرة. ثم زاد قائلا: (ومن ثم فإفراد المصالح المرسلة بقسم مستقل يجد مستنده في منهج الشارع في تشريع المصالح والدلالة عليها). فعبارة يجد مستنده في منهج الشارع في تشريع المصالح والدلالة عليها، هو حديث في العمق عن ما اعتبره الشارع من مصالح لا غير. وأنا هنا لا أقصد إلى نفي قسم المصلحة المرسلة، بل أثبتها ولو مع حضور مدخل الاعتبار الشرعي، إنما أقيس عليه إثبات قسم المصلحة المتوهمة ولو مع حضور مدخل الإلغاء الشرعي،
وختاما لهذه النقطة، فإن هذا التقسيم الموسع المقصود كما تم التأكيد سابقا، هو مزيد ضبط واستيعاب لأنواع المصلحة بحسب الاعتبار الشرعي، بمعنى أن فيه زيادة فائدة، ولا يترتب عليه ما يُخشى من المفاسد أو ما يورث خللا في البنية الأصولية لموضوع الفكر المصلحي، فإن لم يكن فيه نفع، فهو على الأقل يخلو من الضرر .
ثانيا:
بالنسبة للملاحظة المنهجية المتعلقة بذكر فوائد التقسيم قبل بسط التقسيم: أعتقد أنني قدمت للموضوع بعبارة الاعتبارات والدواعي قبل التفصيل في التقسيم. وفي العادة، فدواعي الحديث عن الموضوع تسبق الحديث عن الموضوع نفسه، ورغم ذلك فقد أشرت في المقدمة ذات الترقيم 3 في ثنايا الحديث عن الدواعي إلى ملامح التقسيم الموسع حتى أحيط القارئ الكريم علما وأتجنب تأخير البيان عن وقت الحاجة.
ثالثا:
من الأخطاء غير المقصودة التي وقعت فيها، تعريف الوصف المعارض للنص، تمهيدا للحديث عن المصلحة المتوهمة، حيث قلت عن التعريف : وهو يفيد ما يجده الناس في شؤون حياتهم وتدبير أمورهم الدنيوية من مصالح، تعارض جزئيا أو كليا نصا من نصوص الشرع وحكما من أحكامه. ومحل الخطأ هو ذكر المخالفة الجزئية أو الكلية للنص، مع العلم أن المخالفة الجزئية تتعلق بالمصلحة الملغاة. فما شهد الشارع بإلغائه بنص جزئي هو المسمى بالمصلحة الملغاة.
رابعا:
أتفق أيضا مع الدكتور قرطاح من حبث إن المصلحة المعتبرة قد يقع لها أحوال من التزاحم مع النص الشرعي، ولا يتوقف الأمر على ما تكلمت عنه في نطاق المصلحة الحقيقية، لكن ما أريد التنبيه عليه أن حديثي عن التزاحم والتصادم مع الثانية لا ينفي الأولى، فإنما فرض الحديث عنها سياق خاص، وألزم الإشارة إليها التفصيل في المصالح التي شهد لها أو ألغاها بنص كلي.
خامسا:
بالنسبة للنقول التي أوردتها عن أصحابها من الأئمة الأعلام وخصوصا الإمام الطوفي والإمام الباقلاني، لم يكن همي وقصدي مناقشة آرائهم وأقوالهم، التي من طبيعة الحال خالفهم فيها الكثير من أعلام الفكر المقاصدي والمصلحي، وإنما قصدي هو سبر أغوار الهواجس التي كانت تحكمهم في التعاطي مع موضوع المصلحة نظرا لحساسيته، ولا شك أن الهواجس والتخوفات التي صارت تحكمنا أو ينبغي أن تحكمنا في زمننا هذا أشد وأنكى سيما وأننا نعيش في زمن لا تحكمه حضارتنا، بل حضارة أخرى تنتج ونحن فقط نستهلك، حضارة لا تراعي قيمنا ومنظومتنا، بل وتستهدف تمييعها وتقويضها، حضارة للأسف صار من بني جلدتنا من صار ناطقا رسميا لها. فلكل هذه الاعتبارات وغيرها صار موضوع المصلحة أشد حساسية بالنسبة لنا أكثر مما كان عليه الأمر زمن الباقلاني والطوفي رحمهما الله، فهذا هو همي وعزمي.
أجدد شكري وامتناني للأخ الفاضل الدكتور مصطفى قرطاح على ما جاد به من ملاحظات موجهة ومسددة، سائلا المولى سبحانه أن يتقبل منه ومن القائمين على المركز.