بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
يمثل كتابُ “التمييز البناء بين الرجال والنساء” حالة اشتباك معرفي مع واحدة من القضايا الجدلية الدائرة في الساحة الفكرية والسياسية في المغرب وفي العالم الإسلامي، وهي علاقة الرجال بالنساء التي تأسست في الشريعة على قاعدة التكامل، وتأسست لدى المخالف الحضاري الغربي على أساس التماثل، وذلك وفق منشأ مفهوم المساواة وتطوره في النسق الحضاري والثقافي والتاريخي الغربي، ويحاول أصلاءُ المفهوم ومهندسوه تسكينّه في النسق الحضاري الثقافي لمجتمعات الأمة الإسلامية عبر وكلائه المحلين وغيرهم، وذلك في سياق ما نعيشه من حالة حرب المفاهيم ومسخ القيم .
وقد وفق أستاذنا أحمد الريسوني تمام التوفيق حين اختار مفهومّ التمييز موضوعا لدراسته العلمية التي أسسها على خماسية منهجية مدماكية شكلت الوعاءّ المنهجي للمفهوم، وهي التأصيل والتعليل والتحليل والتقويم والتوثيق، وذلك على النحو الآتي:
- مدماك التأصيل:
فقد استند في تأصيل مفهومِ التمييز البناء إلى أصلين مكينين: الفطرة والشرعة، وأثبت أن الشرعةّ في مجملها مؤسسة على الفطرة، والإمام ابن عاشور يقرر هذا الأصل فيقول: “الأحكام التشريعية الإسلامية جارية على وفق النظم التكوينية، لأن واضع الأمرين واحد”.
- الفطرة:
استند أستاذنا إلى التاريخ البشري والواقع الإنساني المعاصر في مختلف الحضارات والثقافات، وإلى شهادة الوحي المؤكد لما درجت عليه فطرة الناس في الزواج وبناءِ الأسرة.
- الشرعة:
أما الشرعة فقد استند إليها الأستاذ من وجوه ثلاثة:
- أ. وجه الأحكام:
حيث استعرض عددا من الأحكام الشرعية في المساواة بين الجنسين، والأحكامِ المميزة بينهما من نصوص الوحي، تؤكد في النهاية في نظر الأستاذ أن المساواة بين الجنسين هو الأصل، وأن التمايز استثناء.
- ت. وجه المقاصد:
في سياق تأصيله لمفهوم التمييز بين الرجل والمرأة، استدعى المقاصدّ الناظمةّ للزواج من حيث هو العلاقةُ الشرعيةُ الرابطة بين الجنسين، أجملها في المقاصد الناظمة للسعادة بين الزوجين، من حب ورحمة وتساكن وتعاون واستمتاع، والمقاصد الحاكمة للوظائف الاستراتيجية للأسرة.
- ث. وجه الاجتهاد:
أثبت الأستاذ أن مدخل الإفادة من المرجعية الشرعية هي الاجتهاد بمفهومه الأصولي، من حيث هو منصب شرعي ومرتبة علمية، ينوب المجتهد فيه مناب النبي صلى الله عليه وسلم في البيان والإفتاء والتبليغ، اجتهاد يستفيد من اجتهاد من سبقنا بعلم وإيمان، وينفتح على حكمة العصر.
- مدماك التعليل
لم ينفصل مدماكُ التعليل عن التأصيل والتقصيد والتحليل في مقاربة الأستاذ الريسوني لمفهوم التمييز البناء، فقد علله إجمالا بما سماه ” التعادل والتكامل”، ذلك أن التمييز بين الجنسين في الشرعة والفطرة قائم على مصلحة ثلاثية الأبعاد: مصلحة الزوجين ابتداء، ومصلحة الأسرة تبعا، ومصلحة المجتمع انتهاء، ولم يقم التمييز على أساس التماثل حتى يستبشع، كما علل أصلّ المساواة بين الجنسين بالعدل، مما يجعل من المساواة وسيلة إلى تحقيق العدل، وليست مطلوبة لذاتها، وإنما بحسب ما تفضي إليه، فتكون مطلوبة إن أفضت إلى العدل، ومدفوعة إن أفضت إلى ظلم وغبن.
- مدماك التحليل
التحليل مدماك منهجي مطرد في معظم ما استعرضه الأستاذ من نصوص وقضايا وأفكار، فمن جملة النصوص المهمة التي أشبعها تحليلا ونقدا نص الفصل 19 من الدستور المغربي، حيث حلل جمله وعباراته، وميز فيها بين الغامض والواضح، وظواهره ومضمراته، كما حلل الأحكامّ الشرعية الواردة في موضوع العلاقة بين الجنسين، فميز بين أحكام المساواة وهي كثيرة وهي الأصل ومنها التعلم والتعليم والحقوق والواجبات، وأحكامِ التمييز، ومنها أحكام الأسرة، وفائض الرعاية للإناث.
- مدماك التقويم
لقد عزز الأستاذ منهجه بمدماك التقويم والتفكيك لرأي المخالف، لأن موضوع العلاقة بين الجنسين الذي عليه مدار الكتاب إشكال خلافي، وهو ما اقتضى من الأستاذ استدعاءّ رأي المخالف وتفكيكّ بنيته والكشفّ عن مغالطاته، ودفعّ إيراداته وشبهاته في تمام العدل والإنصاف، من خلال الأسئلة الآتية:
- سؤال المرجعية:
فقد أورد الأستاذ في سياق تقويمه لرأي المخالف سؤال المرجعية التي بنى عليها المخالف مفهومه للمساواة، وهو سؤال جدلي مهم اقتضاه لزوم الكشف عن البنية الفكرية للمخالف الذي يتعمد إضمار مرجعيته ولا يعلن عنها، فأبان الأستاذ أن مرجعية المخالف تقوم على الأصول الآتية: موت الإله، علاقة صراع بين الرجل والمرأة، تغييب مصلحة الأسرة والمجتمع، وعن تلك الأصول نشأ المفهوم.
- سؤال النقض والإلزام
من الأسئلة الكاشفة عن تهافت البنيان الفكري للمخالف في موضوع العلاقة بين الجنسين سؤال النقض، الذي سماه الأستاذ ” التمييز في محاربة التمييز”، فمن سلامة الرأي والموقف سلامته من حالات النقض، وقد كشف الأستاذ عن حالات عديدة من النقض في رأي المخالف، نذكر منها: التشنيع على زواج القاصرات، والتباكي على الأمهات العازبات، مع السكوت عن العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج، وعن الابتزاز الجنسي في المحافل والمؤسسات، وعن اضطهاد المحجبات والعفيفات، وعن الدعارة المقننة والمقنعة، إلى غيرها من أوجه النقض والإلزام للمخالف.
- دفع إيراد المخالف
أما ما يورده المخالف من إيرادات وشبهات في جملة قضايا، وعلى رأسها ثلاث قضايا: القوامة، والتعدد، والميراث، فقد تولى الأستاذ دفعها ببيان واضح ناصح للمقتضى التأصيلي لتلك القضايا، وأنها من التمييز البناء الضامن لمصلحة الزوجين والأسرة والمجتمع، وفق نظام الشريعة المتكامل.
- سؤال الأصالة
من الأسئلة القاسية على المخالف، التي اهتدى إليها الأستاذ في تقويمه ونقده سؤالُ أصالةِ المقاربة لمفهوم المساواة بين الجنسين لدى المخالف، فقد كشف الأستاذ عن ثغرة كبيرة في مقاربة المخالف للموضوع، وهي اعتماده على المقاربة الأيديولوجية، بدل المقاربة العلمية التي تستند إلى الدراسات العلمية الموضوعية، وعاب الأستاذ على المخالف ما يمارسه من ضغوط مالية وسياسية واقتصادية على كل دراسة علمية تثبت ما يخالف أطروحة المخالف.
- مدماك التوثيق
فقد حرّص الأستاذ تمام الحرص على الأمانة العلمية فيما أورده في الكتاب من نصوص ونقول وآراء، وذلك بتخريج الآيات والأحاديث، وعزو النقول إلى مظانها، كما أحسن صنعا في إدراج جملة من البيانات والشروحات والإضافات في الهامش خادمة لقضايا المتن، كما هو ديدن العلماء في كتاباتهم، وإنما تتميز الكتابة العلمية عن غيرها بالتوثيق.
تلكم هي المداميك المنهجيةُ المشكلةُ للوعاء المنهجي العام الذي أدار به أستاذنا إشكال التمييز بين الجنسين، أرجو أن أكون قد وفقت في سلامة اكتشافها، وحسن عرضها، وإن تكن الأخرى فحسبي أني اجتهدت وما آلوت، والحمد لله رب العالمين.