نوقشت يوم الأربعاء 16 جمادى الآخرة 1446 موافق 18 دجنبر 2024 أطروحة جامعية تقدم بها الطالب الباحث عبد الله أيت القاضي لنيل شهادة الدكتوراه، من مركز الدراسات في الدكتوراه “الآداب والعلوم الإنسانية والفنون وعلوم التربية”, محور الدراسات الإسلامية، في موضوع” العقود الفاسدة في الأحوال الشخصية والمعاملات المالية من خلال “مواهب الجليل” للحطاب (ت 954هـ) توصيف ودراسة”، وقد تكونت لجنة المناقشة من السادة الأساتذة: الدكتور عمر جدية رئيسا، والدكتور محمد شاكر المودني، والدكتور محمد الحاجي الدريسي عضوين، والدكتور إدريس وهنا مشرفا، وبعد المناقشة والمداولة منحت للطالب الباحث ميزة مشرف جدا، مع تنويه اللجنة وتوصية بطبع البحث.
وفيما يلي تقرير الطالب الباحث:
الحمد لله الكريم الواهب، ذي العطايا والفضائل والمواهب، أحمده حمد المستغفر التائب، وأشكره شكرا يستزيد النعم والمطالب، وأعوذ به من الشرور وسوء العواقب، والصلاة والسلام على من بوأه الله أعلى المراتب، وكشف به ظلمة الغياهب، فأنار به المشارق والمغارب، وعلى صحابته ذوي الفضائل والمناقب، من ساروا على نهجه بدورا وكواكب، فكانوا منابع للهدى وللعلم مشارب.
أما بعد: فإن من توفيق الله تعالى لعبده، ودلائل إرادة الخير به، أن ييسر له سبل التعرف على شرعه والتفقه في دينه، والكشف عن مراده تعالى في أحكامه وحكم تشريعه، إذ بالفقه يستبان حل الشيء من حرمته، وبه يعلم صحيح العمل من فاسده، وقد قيض الله لهذا الأمر من كل خلف عدولا ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، يعلمون الناس علم الدين والشرائع، ويفهمونهم ما حوته الشريعة من الحكم واحتوته من البدائع، تعليما وتعلما واتباعا، واستنباطا وتفريعا، وتخريجا وتجديدا، من خلال شرع الله الحكيم، ومنهجه القويم، الموحى به إلى رسوله الكريم، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ولذلك فإن من الجوانب الفقهية التي أولاها علماء الإسلام أهمية كبرى، وعناية فائقة قصوى، ما يتعلق بمعاملات الناس وتصرفاتهم، وما يطرأ على أحوالهم وارتباطاتهم، بيانا لقوانين الشريعة في علاقات الناس بعضهم ببعض، أخذا وردا، زواجا وطلاقا، بيعا وشراء، سلفا وإجارة وكراء… ونحو ذلك مما يصطلح عليه في الفقه بـ “قسم المعاملات” الشامل لأبواب المناكحات والمعاوضات والتبرعات، ومن الجوانب التي أخذت من اهتمامهم مساحة من الشرح والتبويب، والتصنيف والترتيب، طبيعة العقد وتقسيماته، وما يتصل بصحته وفساده، وإبطاله وإلغائه، واعتباره وتصحيحه، مما هو محط الخلاف والنقاش بين المذاهب الفقهية المعتبرة، وقد جمعت مباحثه في مؤلفات مستقلة، كما تفرقت في أبحاث علمية متعددة، تلتمس مسائلها في مظانها، وتراجع في أبوابها، ويعد الإمام أبو عبد الله الحطاب من أهم من كشف الحجاب ورفع النقاب عن مسائل في هذا الباب من خلال ما سطره في كتابه مواهب الجليل، الذي امتاز بتوضيح مشكلاته، وبيان خفي مبهماته، حيث عني بالاستدلال، واعتمد صحيح الأقوال، واهتم بتعريف الحدود وضبط معانيها، وتقييد الفروع بتقييداتها، وعزو النقول وتوجيهها، ما جعل كتابه محل اهتمام الباحثين ومحط أنظار المهتمين بالفقه وأصوله، وقد ارتأيت أن أفرد جزئية من هذا الموضوع بالدراسة والتحليل، لبيان ما قد يستغلق في باب العقود الفاسدة، وشرح كلام الفقهاء في هذا الباب، من خلال تتبع مسائله، واستنباط أحكام مباحثه، فيما تفرق من أبواب التنظير الأصولي، والتطبيق الفقهي لمسائل العقد الفاسد بإطلاقه الخاص، فجمعت ذلك في دراسة بعنوان: “العقود الفاسدة في الأحوال الشخصية والمعاملات المالية من خلال مواهب الجليل للحطاب توصيف ودراسة“، في محاولة لإبراز نظرة فقهاء المالكية للعقد الفاسد، انطلاقا من توصيف الفساد في العقود والتصرفات، وتمثيلا بالمسائل الفقهية الواردة في مواهب الجليل، مما يقرب الصورة ويوضح معالمها قدر المستطاع وحسب مبلغ الجهد، والله من وراء القصد، وعليه المعتمد.
أهمية الموضوع:
إن كل بحث له دوافع ورغائب تجعل بحث موضوعه ذا أهمية، غير أن الأهمية تتفاوت من بحث لآخر حسب الفائدة المرجوة من كل عمل، و تتجلى أهمية هذا البحث في كونه يبحث طبيعة العقد من حيث الصحة والبطلان -وتحديدا لبحث العقود التي ترتقي عن درجة البطلان ولكنها لا تصل إلى مرتبة الصحة إلا بمصحح- وذلك من خلال مواهب الجليل لأبي عبد الله الحطاب الذي يعد من مطولات الفقه المالكي، سعيا لإبراز التصور المالكي في معالجة العقد الفاسد تصحيحا وإمضاء لما لذلك من بالغ الأثر في إصلاح بعض العقود التي يتخللها ذلكم النقص الذي لا يصل إلى الإبطال، فجاء هذا البحث تبيانا للمنهج المالكي الجامع بين مدرستي الجمهور والحنفية معا.
دوافع اختيار الموضوع: تعددت دوافع اختياري لهذا البحث وانشطرت إلى دوافع ذاتية وأخرى موضوعية، لكنني سأتجاوز ما نثرته في مقدمة البحث لأكتفي هنا بأهم هذه الدوافع الذي يرجع إلى كون هذه الدراسة تجربة علمية وخطوة أولى للترقي في معارج علمية لمشروع موسوعي كبير يهدف إلى
التنظير لفساد العقود والتصرفات عند المالكية، من حيث بحث مفهوم الفساد عند المالكية، وبيان منشئه في العقود والتصرفات، ومعالجته بالتصحيح والإمضاء أو الفسخ والإلغاء وبحث الآثار المترتبة على ذلك استحضارا للضوابط والوسائل الخادمة لهذا الأمر، محاولة لإبراز المنهج العام الذي تتميز به المدرسة المالكية في توصيف العقد الفاسد ومعالجته، وقد جعلت الحطاب في مواهبه مفتاحا لهذا العمل ومنطلقا لهذا المشروع العلمي، على أن يتم توسيع الرقعة التأليفية للعلماء بالغرب الإسلامي خطوة خطوة، ثم بعدها إلى تآليف المدراس الأخرى، وإن كنت أعلم -يقينا- أن هذا عمل جليل ليس سهل المنال، ولكنني في الآن ذاته لا أستبعد قدرة الله تعالى ليقين علمي أن ذلك وإن صعب على الباحثين إلا أنه ليس على الله بعزيز، مستحضرا أن لكل مجتهد نصيبه من النجاح، والمجتهد إن لم يؤجر على الإصابة، فهو مأجور -بإذن الله تعالى- على الاجتهاد، أسأل الله تعالى أن يمدني ببركة في العمر ويرزقني بسطة في العلم ويشد أزري بنخبة معينة لي من أهل العلم حتى يرى هذا العمل النور ليكون من العلم النافع الذي تزخر به المكتبة المالكية فتنتفع به الأمة في الدنيا، ويصل أجر مدده للساهرين عليه بعد ارتحالهم للآخرة.
إشكالية البحث:
تتجلى إشكالية الموضوع في محاولة الكشف عن منهج تعامل المالكية مع العقد الفاسد، علما أن النظر الأصولي المالكي يوافق ما ذهب إليه الجمهور في عدم التفرقة بين البطلان والفساد، إلا أن التطبيقات الفقهية قد يخالف فيها نظر المالكية عموم هذه القاعدة، أخذا بقواعد أخرى.
مناهج البحث ومنهجيته:
إن أي موضوع يجمع بين النظر الأصولي والتفريع الفقهي يقتضى فيه المنهج العلمي معالجته بمنهج تحليلي متكامل، استقراء ووصفا واستنباطا، وقد اعتمدت -في بحثي هذا- المنهج الوصفي لتوصيف مصطلح الفساد وصفا أصوليا من حيث مفهومه ومجالاته وأسبابه، وبيان موقف المدرسة المالكية في علاقتها بطريقة الجمهور والحنفية موافقة ومخالفة، وكذا توصيف المسائل المستخرجة من مواهب الجليل المضمنة للفساد وتصنيفها حسب سبب فسادها.
كما اعتمدت المنهج الاستقرائي لتتبع واستقراء أبواب الأحوال الشخصية والبيوع وما شاكلها، من خلال مواهب الجليل قصد استخراج المسائل الفاسدة منها بغية توصيفها ودراستها.
وعززت هذين المنهجين بالمنهج الاستنباطيالذي يعين على بحث ودراسة المسائل الفاسدة التي تم استقراؤها من كتاب “مواهب الجليل” لغرض تحديد إطلاق مصطلح الفساد فيها وتصنيفه أصوليا، أهو من قبيل الفساد الحنفي أو الفساد المالكي المرادف للبطلان؟.
كما استعنت بإضاءات منهجية تفصيلية تمثلت أهمها فيما يلي:
– ملاحظة المسائل الفقهية التي تخللها الفساد من خلال تأمل ما كتبه الحطاب في مواهبه والتعبير عنها بصياغة دقيقة مفهمة لسبب فسادها؛ وإن تعددت المسائل الفاسدة لسبب واحد أجمع المشترك منها تحت مسمى واحد وأعنونها بعنوان جامع لها.
– نقل كلام أبي عبد الله الحطاب في المسألة لتوصيفها وصفا دقيقا ثم دراستها وتحليلها من خلال التركيز على منشأ فسادها أهو في فقد الشرط أو اختلال الركن، أو لأمر آخر، ثم أعقب ببيان طرق تصحيح المسألة والتدليل لذلك بكلام فقهاء المذهب.
خطة البحث
إن أول ملحظ منهجي يتبادر إلى ذهن من يسمع أي عنوان لدراسة أكاديمية هو طرح السؤال عن القراءة المفاهيمية للعنوان، ولذلك ارتأيت أن يكون أول ما أخطه في هذا البحث -بعد المقدمة- هو تفكيك عنوان الدراسة والتعريف بالمفاهيم المكونة لهذا العنوان، فخصصت فصلا تمهيديا جوابا عن أسئلة يطرحها عنوان البحث من قبيل: ما العقد الفاسد؟ وما الأحوال الشخصية والمعاملات المالية؟ ومن هو أبو عبد الله الحطاب؟ وما مواهب الجليل؟ حيث حظي المبحث الأول من هذا الفصل بالإجابة عن ماهية العقد مع الإشارة إلى إشكال التنظير له في المذهب المالكي، معقبا بمبحث ثان جوابا عن الأحوال الشخصية من حيث حقيقتها واستعمالها في الساحة العلمية، مردفا إياها بالحديث عن معنى المعاملات المالية ومختتما الفصل بمبحث ثالث خصص لترجمة موجزة لأبي عبد الله الحطاب مركزا فيها على الجانب العلمي من حياته أخذا وعطاء، مع الإشارة إلى مواهب الجليل ومكانته في الفقه المالكي.
وأما مصطلح الفساد فلم أشر إليه في الفصل التمهيدي لكونه مصطلحا أصوليا تباين فيه النظر الأصولي لمدرسة الجمهور ومدرسة الحنفية، وبما أن المدرسة المالكية قد تخالف القاعدة العامة لمدرسة الجمهور في التقيد بمعنى الفساد تنظيرا وتطبيقا، أخذا بقواعد أخرى كمراعاة الخلاف وإعمال مقاصد الشرع فإن المنهج العلمي يقتضي -مع كل هذه الفوارق- الوقوف عند تحديد معنى الفساد عند المالكية وهو ما خصص له الباب الأول الذي ضمنته فصلين: أولهما في تحديد ماهية الفساد، وثانيهما في توصيف المالكية للفساد في العقود والتصرفات، أما ماهية الفساد فإنه ينبني على ثلاثة أسس: أولها: تعريف الفساد وذكر خصائصه والألفاظ ذات الصلة به، وثانيها: في منشأ الفساد في العقود والتصرفات، وثالثها: الآثار المترتبة على الفساد والتفرقة في ذلك بينه وبين البطلان، وأما منهج توصيف الفساد عند المالكية فمرتكزه كذلك على ثلاثة أسس: أولها: موافقة المالكية الجمهور في عدم التفريق بين الباطل والفاسد إجمالا، وثانيها: مواطأة المالكية الحنفية في إمكانية تصحيح العقد الفاسد، وثالث الأسس يعتبر علة للأسسين السابقين وهو سبب اختلاف المدرستين: والذي مرده إلى قاعدة اقتضاء النهي الفساد من عدمه.
وأما الباب الثاني والثالث فقد خصصا لجرد المسائل التي تخللها الفساد في أبواب الأحوال الشخصية والبيوع وما شاكلها، ثم ختمت البحث بأبرز النتائج وأهم التوصيات.
وقد جرت عادة الباحثين في تقديم أطروحاتهم أن يشيروا إلى الدراسات السابقة التي كتبت في الموضوع لكنني سأتجاوز ذلك اختصارا للوقت مكتفيا بما تم تسطيره في مقدمة البحث لأستغل هذه الدقائق القليلة المتبقية كي أشير إلى ما هو أهم من الدراسات السابقة -رغم أهميتها- وهو الآفاق المستقبلية للموضوع، مؤكدا ما تمت الإشارة إليه آنفا من أن البحث يعد خطوة أولى لمشروع علمي كبير، لتحرير منهجية المالكية في التعامل مع العقد الفاسد، كما أن البحث يفتح الباب أمام الباحثين لإخراج دخائر المخطوطات التي ألفتها عائلة الإمام الحطاب، جدا وأبا وابنا، ولا أترك هذه الفرصة دون التنويه إلى الجهود التي يبذلها الدكتور فؤاد عطاء الله، وعائلة الدكتور الغرياني في العناية بجزء من هذا التراث وإخراجه إلى نور الطبع.
وختاما أجدد خالص شكري للجنة العلمية القائمة على هذا العمل: رئيسا ومشرفا وأعضاء، كما لا يفوتني في هذا المقام أن أعبر عن تقديري وامتناني لجميع الأساتذة، أعضاء مختبر “العلوم الدينية والإنسانية وقضايا المجتمع”، أسأل الله تعالى أن يجازيهم خيرا.
والحمد لله رب العالمين.