تم نشره بتاريخ : 2018/01/05
يرتبط مفهومان أساسيان متكاملان ببناء الأسرة المسلمة ، الأول مصطلح الرعاية والحفظ، والثاني مصطلح القوامة. والأول حاكم على الثاني ومهيمن عليه. ومدار الرعاية على الحفظ والصون والحياطة. قال ابن منظور:” رَعَى الأَمِيرُ رَعِيَّته رِعايةً ورَعَيْتُ الإبلَ أَرْعاها رَعْياً ورَعاه يَرْعاه رَعْياً ورِعايَةً حَفِظَه وكلّ مَنْ وَلِيَ أَمرَ قومٍ فهو راعِيهم وهُم رَعِيَّته” [1]. ولاشك أن الرعاية المشتركة للأسرة من أهم ما يلزم طرفي العقد، وهي مسؤولية مشتركة بين الزوجين، ويؤكدها حديث البخاري عن ابنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: « أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ … »[2]. وأكد القرآن على صفة الحفظ بالنسبة للزوجات بصفة خاصة فقال عنهن: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ } [النساء: 34]
وبجانب الرعاية يوجد مفهوم القوامة وهو مصطلح قرآني، أصله من القيام على الشيء والعناية به. وقد أمر الله تعالى به عامة الناس فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ } [المائدة: 8]. وفي العلاقات الأسرية اقتضت سنة الحياة أن تتكامل أدوار الرجل والمرأة، وأن تُسند الرئاسة لأحدهما يقوم بها في تكامل وتشاور مع الطرف الآخر. وهكذا كلّفت الشريعة الرجل بالقيام المادي والمعنوي على الأسرة، وتحمّل إدارتها. قال الله تعالى {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]. فالقوامة حسب جمهور المُفسرين مسؤولية إضافية مادية ومعنوية يتحمّلها الزوج، تتجلّى في قيامه على شؤون زوجته وأبنائه، وهي:” قيام الحفظ والدفاع، وقيام الاكتساب والإنتاج المالي، ولذلك قال تعالى: ﴿ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِم﴾”[3].
إن مسؤولية قيادة الأسرة وإدارة شؤونها والنظر في مصالحها، لا يعني الاستبداد والتسلط، ولا إهمال واجب الشورى و التداول فيما يُصلح أمر البيت والأبناء. لكن بعد الشورى قد لا يحصل الاتفاق والتراضي في أمر من الأمور فلمن يكون القرار النهائي؟ لقد حسمت الشريعة الأمر فجعلته للرجل، باعتباره المسئول الأول عن الأسرة[4]، ودعت الزوجة إلى طاعة زوجها في المعروف حرصا على حفظ سفينة الأسرة. وقد أشارت الآيات القرآنية إلى هذه الطاعة حين منعت المرأة من النشوز والاستعلاء على الزوج وأذنت له في علاجه تربويا عند الاقتضاء حرصا على دوام العشرة والألفة. وتضمنت كتب الحديث نصوصا متعددة تؤكد وجوب طاعة المرأة لزوجها في المعروف ومن ذلك:
- روى الترمذي عن أَبي هريرة رضي الله عنه ، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، قَال:( لَوْ كُنْتُ آمِراً أحَداً أنْ يَسْجُدَ لأحَدٍ لأمَرْتُ المَرأةَ أنْ تَسْجُدَ لزَوجِهَا)[5].
- وروى الترمذي عن أم سَلَمَة رضي الله عنها، قَالَتْ : قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (( أيُّمَا امْرَأةٍ مَاتَتْ ، وَزَوْجُهَا عَنْهَا رَاضٍ دَخَلَتِ الجَنَّةَ ))[6].
- وروى البخاري ومسلم عن « إِذا باتَتِ المرأةُ مُهاجِرَة فراش زوجها لعنتْها الملائكةُ حتى تَرْجِعَ »[7].
- وروى النسائي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – : قال : قيل لرسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- : «أيُّ النساءِ خَيْر؟ قال: «الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَ، وَلَا تُخَالِفُهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهَا بِمَا يَكْرَهُ» [8].
إن المقصود من الطاعة المأمور بها شرعا، حفظ الأسرة ومنع تصدعها بنشوز الزوجة واستعلائها على الزوج، وهو ما وجّهت الآية إلى علاجه. ومن جهة أخرى فإن طاعة الزوجة لزوجها لا تعني عدم المراجعة، ولا استبداد الزوج بأمور الأسرة؛ بل إن السنة النبوية شاهدة على إصغاء النبي عليه السلام لنسائه، وأخذه برأيهن في أمور كثيرة وخطيرة، وقد انتصر هديه مع أخلاق الأنصار على فظاظة سكان مكة في علاقتهم بزوجاتهم، كما يُوضحه كلام عمر رضي الله عنه في قصة التخيير:» كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الْأَنْصَارِ إِذَا هُمْ قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ فَصِحْتُ عَلَى امْرَأَتِي فَرَاجَعَتْنِي فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي فَقَالَتْ وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليُرَاجِعْنَهُ وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ فَأَفْزَعَنِي فَقُلْتُ خَابَتْ مَنْ فَعَلَت مِنْهُنَّ بِعَظِيمٍ«[9].
إن مفهوم الطاعة تعبدي كما يظهر من النصوص السابقة، تقوم به الزوجة إرضاء لربها، وحرصا على الاستقرار سفينة الأسرة. لكن عندما تُصر الزوجة على الحرية المطلقة، وتستعلي على الزوج ولا ترضى به، فإن الأمر يمنع استمرار الحياة الزوجية، وهنا يأتي التشريع القرآني لمعالجة النشوز والخروج عن الطاعة من قبل المرأة. قال الحق سبحانه:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا } [النساء: 34]. وهو نص دقيق يحتاج إلى نظر شمولي مقاصدي لئلا يفهم منه أنه يتناقض مع تكريم الإسلام للمرأة ومع حريتها في الاختيار والتصرف. فالتوجيه في الآية مقصده الإصلاح، ورجوع الزوجة إلى طاعة زوجها بالمعروف، وهو يتدرج العلاج من الموعظة الحسنة التي ترقق القلوب، إلى الهجران داخل بيت الزوجية، وقد ينتهى إلى الضرب غير المبرح في البيئات والأعراف التي لا تراه إهانة ولا عيبا.
لقد بعث النبي عليه السلام في بيئة بدوية تهين المرأة، وتوقع عليها أنواعا من الأذى، ولا ترى الضرب إهانة للزوجة. فتدرج عليه السلام في معالجة هذا العرف الفاسد فبيّن للناس أن الضرب لا يليق بالكريم مع زوجته التي يسكن إليها وقال فيما رواه البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ:«لَا يَجْلِدُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ»[10]. ثم جعل عليه السلام ضرب النساء سببا كافيا للنصح برفض خطبة الرجل، حيث روى البخاري عن فاطمة بنت قيس أنها استشارت النبي عليه سلم فيمن تقدم لخطبتها من الرجال فقال لها:« أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ»[11].
ورأى بعض أهل العلم أن الضرب المنصوص عليه في الآية مباح إباحة جزئية روعيت فيها أعراف الناس زمن البعثة ؛ وهو مكروه بالنظر الكلي، وهذا ما فقهه البخاري حين ترجم بقوله:” باب ما يكره من ضرب النساء”[12]. كما استحسن ابن العربي قول عطاء بعدم ضرب الزوجة ولو امتنعت عن الطاعة الواجبة فقال:”هَذَا مِنْ فِقْهِ عَطَاءٍ، فَإِنَّهُ مِنْ فَهْمِهِ بِالشَّرِيعَةِ وَوُقُوفِهِ عَلَى مَظَانِّ الِاجْتِهَادِ عَلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالضَّرْبِ هَاهُنَا أَمْرُ إبَاحَةٍ، وَوَقَفَ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ مِن طَرِيقٍ أُخْرَى .. وَإِنَّ فِي الْهَجْرِ لَغَايَةَ الْأَدَبِ”[13]. وهكذا فإن ضرب الزوجة مكروه إن لم يكن حرام على الجملة، نظرا لما يُورّثه من جفوة تُنافي السكن المقصود من الزواج، ويصبح غير جائز في بيئة لا ترضاه ولا تقبله. وإن قاعدة سلطة ولي الأمر في تقييد المباح وقواعد منع الضرر قد تجعل من حق ولي الأمر أن يمنع الضرب حين يكون مظنة لوقوع مفاسد أعظم[14] وهو ما رآه ابن عاشور حين قال: ” يجوز لولاة الأمور إذا علموا أن الأزواج لا يحسنون وضع العقوبات الشرعية مواضعها ولا الوقوف عند حدودها أن يضربوا على أيديهم استعمال هذه العقوبة ويعلنوا لهم أن من ضرب امرأته عوقب كي لا يتفاقم أمر الإضرار بين الأزواج لا سيما عند ضعف الوازع”[15].
إن صلاح الأسرة مرتبط بحصول التوافق والتآلف بين أفرادها، وهو ما ينبغي أن يحرص عليه طرفي العقد تحقيقا لمقصد الزواج في حصول السكينة والتراحم. قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [الروم: 21].
[1] لسان العرب، ابن منظور، مادة رعى.
[2] صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب باب قول الله تعالى و {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59].
[3] التحرير والتنوير، ابن عاشور، المجلد 2، ج5، ص 38.
[4] جعل القانون المدني الفرنسي قيادة الأسرة مسئولية مشتركة بين الزوجين (قبل 1970 كانت التنصيص على القيادة للرجل ثم اغير الأمر بعدها بسبب تغليب مبدأ المساواة)، وهو ما أخذت به مدونة الأسرة المغربية ولو دو نصريح حين جعلت الأسرة تحت رعاية الزوجين. ولاشك أن نتيجة ذلك أن الخلاف حين لا يحل يرفع للقضاء للنظر فيه.
L’ essenciel du droit de la famille ; CORINNE RENAUT-BRAHINSKY ;page 50.
[5] سنن الترمذي، أبواب الرضاع، باب ما جاء في حق الزوج على المرأة.
[6] سنن الترمذي، أبواب الرضاع، باب ما جاء في حق الزوج على المرأة.
[7] صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها.
[8] سنن النسائي، كتاب النكاح، باب أي النساء خير.
[9] صحيح البخاري، كتاب المظالم والغضب، ، باب الغرفة والعلية.
[10] صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب ما يكره من ضرب النساء.
[11] صحيح مسلم بشرح النووي ، كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثا لا نفقة لها.
[12] صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب ما يكره من ضرب النساء، الفتح (10/379).
[13] أحكام القرآن ، أبو بكر بن العربي، ج1، ص: 525.
[14] أنظر كتاب تقييد المباح دراسة أصولية وتطبيقات فقهية للمؤلف.
[15] التحرير والتنوير، ابن عاشور، مجلد 2، ج 5، ص 44.