نعم، هو نصر رباني تاريخي، سيسجله التاريخ بمداد من فخر، لما يحمله من أبعاد إيمانية وتداعيات استراتيجية وتاريخية، تتجاوز حدود السلاح والسياسة وتفاصيل الأحداث.
هو نصر رباني، تحقق رغم البون الشاسع في موازين القوى، فغزة المحاصرة منذ عشرين سنة واجهت جيشا من أقوى جيوش المنطقة والعالم، ظل مدعوما بالسلاح والعتاد والاستخبارات من الغرب وبعض العرب طيلة سنتين، ومع ذلك صمدت وحققت إنجازات عسكرية وسياسية غير عادية، مصداقا لقوله تعالى: (كم من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله والله مع الصابرين) البقرة: 249]، وكأنها تنطبق حرفيا على ما حدث في غزة. هو نصر رباني، لأن معاني الصبر والثبات والتوكل على الله والرضى بقضاء الله، كانت حاضرة وبقوة، في خطاب المقاومة وأهل غزة، فالنصر جاء مع الإيمان والاحتساب.
إن ما حصل في غزة – بالفعل – يتجاوز كل الحسابات العسكرية والسياسية التقليدية، لأن ما جرى لم يكن مجرد مواجهة بين جيش نظامي وقوة مقاومة، بل كان زلزالا أخلاقيا وإنسانيا، عرى النظام الدولي وكشف هشاشة مفاهيم طالما روج لها، مثل “حقوق الإنسان”، و”القانون الدولي”، و”الشرعية الدولية”. فالعدوان على غزة لم يكن حربا على الأرض فحسب، بل حربا على الحقيقة والكرامة والذاكرة الجماعية لشعب يباد على مرأى ومسمع من العالم.
إن التقديرات العسكرية التي كانت تعتمد على موازين القوى التقليدية، سقطت أمام صمود غير مسبوق لشعب محاصر منذ سنوات، يقاتل بموارد محدودة، لكنه يملك إرادة لا تقهر. أما الحسابات السياسية، فقد عجزت عن فهم التحول النوعي الذي فرضته غزة، من حيث تأثيرها على الرأي العام العالمي، وانكشاف الأنظمة المتواطئة، وتآكل ما تبقى من هيبة للمؤسسات الدولية.
في غزة، لم تكن المعركة فقط على الأرض، بل في الضمير العالمي، في وسائل الإعلام، في الجامعات، في الشوارع، وفي وجدان ملايين الأحرار الذين رأوا بأعينهم الظلم العاري، فاختاروا الانحياز إلى الحقيقة، لا إلى موازين القوة. لهذا، فإن ما حصل في غزة ليس حدثًا عابرًا، بل تحولا تاريخيا سيبقى تأثيره حاضرا في الوعي العالمي وفي مسار القضية الفلسطينية لعقود قادمة.
وهو نصر استراتيجي تاريخي بكل المقاييس، من الناحية العسكرية والمعنوية والسياسية. إذ رغم التفاوت الكبير في الإمكانيات بين المقاومة في غزة وجيش الاحتلال، فإن ما حققته غزة يعكس عدة حقائق، منها:
أولا: عودة القضية الفلسطينية إلى صدارة القضايا العالمية:
أعادت ملحمة طوفان الأقصى القضية الفلسطينية إلى صدارة القضايا العالمية، بعد سنوات من التهميش والتطبيع ومحاولات طمس الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني. فقد فرضت التطورات الميدانية، وحجم العدوان على غزة، والتضحيات الجسيمة التي قدمها الفلسطينيون، واقعا جديدا جعل من تجاهل القضية أمرا مستحيلا. فتصدرت فلسطين نشرات الأخبار، وعادت إلى واجهة الاهتمام الشعبي والسياسي والإعلامي في مختلف أنحاء العالم، وخرجت الملايين في عواصم العالم مطالبة بوقف العدوان ورافضة لسياسات الاحتلال. كما شهدت المؤسسات الدولية تصاعدا في النقاش حول الجرائم المرتكبة وشرعية مقاومة الاحتلال، مما شكل تحولا في الوعي العالمي تجاه القضية. لقد أثبتت هذه المعركة الحاسمة أن فلسطين ما زالت قضية حية، وأن محاولات تغييبها عن الوجدان العالمي لم تفلح، بل إن عدالة نضال شعبها، وصموده، وصوت مقاومته، قادرة على إعادة رسم الأولويات السياسية والإنسانية عالميا.
ثانيا: صمود أسطوري:
لقد سطر أهل غزة ملحمة من الصمود الأسطوري في وجه واحدة من أعنف الحملات العسكرية التي شهدها العصر الحديث، فرغم الحصار الخانق، والدمار الواسع، وفقدان عشرات آلاف الأرواح، ظل أهل غزة متشبثين بأرضهم، متمسكين بحقهم في الحياة والحرية، يواجهون القصف والمآسي بقلوب مؤمنة، واحتضنوا بعضهم البعض وسط الركام، وأصروا على البقاء في مدنهم المحاصرة والمدمرة رغم محاولات التهجير والاقتلاع. فلم تكن المقاومة بالسلاح فقط، بل بصمود النساء، وصبر الأطفال، وعزيمة الكوادر الطبية، وتحدي الصحفيين، فكلها وجوه متعددة لمقاومة شعب آمن بعدالة قضيته. لقد قدم أهل غزة نموذجا نادرا في التضحية والثبات، جعل من طوفان الأقصى علامة فارقة في التاريخ الإسلامي والإنساني، ورسالةً إلى العالم بأن الكرامة لا تقصف، وأن الشعوب قد تجرح لكنها لا تهزم.
ثالثا: كسر هيبة الاحتلال:
شكلت معركة طوفان الأقصى لحظة فارقة في تاريخ الصراع، إذ أسهمت في كسر هيبة الاحتلال الإسرائيلي التي طالما روج لها كقوة لا تقهر. فالهجوم المفاجئ والمباغت الذي نفذته المقاومة الفلسطينية كشف هشاشة المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، وأحدث صدمة كبيرة داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه. لم تعد صورة “الجيش الذي لا يقهر” صامدة أمام مشاهد الاقتحامات الجريئة، وانهيار التحصينات، وحالة التخبط السياسي والعسكري التي أعقبت العملية. لقد زلزلت هذه الضربة ثقة الاحتلال في قدرته على الردع والسيطرة، وأربكت حساباته الاستراتيجية، وأثبتت أن إرادة الشعوب أقوى من ترسانات السلاح، وأن التفوق التقني لا يصمد طويلا أمام الإرادة والعقيدة والإيمان بالحق. بهذا، لم تكن العملية مجرد مواجهة عسكرية، بل كانت كسرا معنويا ونفسيا لهيبة الاحتلال التي بنيت على الخوف، وها هي تتهاوى أمام صمود المقاومين وشجاعة الشعب.
رابعا: الانكشاف الأخلاقي للاحتلال الصهيوني:
كشفت معركة طوفان الأقصى الوجه الحقيقي للاحتلال الصهيوني أمام العالم، حيث سقطت بشكل صارخ أقنعة “الديمقراطية” و”التحضر” التي طالما حاول الترويج لها. فقد ارتكب الاحتلال جرائم واسعة النطاق بحق المدنيين، من تدمير للمنازل فوق رؤوس ساكنيها، واستهداف للمستشفيات والمدارس، إلى الحصار الممنهج والتجويع، مما شكل انتهاكا صارخا للقوانين الدولية والمواثيق الإنسانية. هذا الانكشاف الأخلاقي تجلى أيضا في ازدواجية المعايير الغربية التي تعامت عن هذه الجرائم أو بررتها، مما زاد من الوعي العالمي بعدالة القضية الفلسطينية، وأدى إلى تعاطف شعبي واسع واحتجاجات في مختلف أنحاء العالم. لقد بينت هذه المعركة أن الاحتلال لا يملك أي أساس أخلاقي في ممارساته، وأن مقاومة هذا الظلم حق مشروع في وجه نظام استعماري قائم على القتل والتهجير والقمع.
خامسا: وحدة الشعب الفلسطيني:
أظهرت معركة طوفان الأقصى – بصورة جلية – مدى وحدة الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن وجوده، من غزة الصامدة، إلى الضفة المنتفضة، والقدس المرابطة، وحتى داخل أراضي 48 والمخيمات في الشتات. تجلت هذه الوحدة في الموقف الشعبي الجامع والداعم للمقاومة، وفي قوة التلاحم والتكاتف بين مكونات الشعب رغم تباعد الجغرافيا وشدة المعاناة. لقد تجاوز الفلسطينيون الانقسام السياسي في لحظة تاريخية شعر فيها الجميع بأن المعركة مع الاحتلال هي معركة وجود وكرامة وهوية، وهتف الفلسطيني في كل مكان لفلسطين، وعبر عن انتمائه ورفضه للاحتلال بكل وسيلة ممكنة، ما أكد أن القضية ما تزال حية في ضمير الشعب، وأن الحدود والحواجز لم تفلح في تمزيق نسيجه الوطني. لقد قدم الشعب الفلسطيني خلال طوفان الأقصى صورة مشرفة عن الوحدة النضالية والمصير المشترك، ورسالة واضحة بأن قوة الفلسطينيين الحقيقية تكمن في توحّدهم خلف هدف التحرر والعودة.
سادسا: إعادة رسم معادلات الردع:
في سياق حرب طوفان الأقصى، برز تحول جذري تمثل في إعادة رسم معادلات الردع بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الصهيوني، فلم تعد قواعد الاشتباك التقليدية التي فرضها الاحتلال لعقود قائمة، بل كسرت بشكل واضح حين تمكنت المقاومة من تنفيذ عمليات نوعية جريئة أربكت الحسابات الإسرائيلية وأحدثت صدمة أمنية وعسكرية واسعة. فلأول مرة، وجد الاحتلال نفسه في موقع الدفاع، يتعامل مع مقاومة تملك قدرات متطورة وإرادة قتالية صلبة، قادرة على مفاجأته في عمقه، وتغيير موازين القوى الميدانية والمعنوية. هذا التحول أعاد تعريف مفهوم الردع، فلم يعد مقتصرا على امتلاك القوة النارية فحسب، بل على القدرة على المبادرة، والمفاجأة، والصمود تحت النار. لقد أثبتت المقاومة أنها لم تعد طرفا ضعيفا يرد فقط على الاعتداءات، بل باتت تملك زمام المبادرة، وتفرض معادلات جديدة بقوة الإرادة والتخطيط والمواجهة. وهكذا، فإن طوفان الأقصى لم يكن مجرد معركة، بل لحظة مفصلية في مسار الصراع، أعادت تشكيل ميزان الردع وأجبرت الاحتلال على إعادة التفكير في استراتيجيته الأمنية والعسكرية تجاه غزة وفلسطين عموما.
سابعا: طوفان الوعي:
لم تكن معركة طوفان الأقصى مجرد حدث عسكري أو مواجهة ميدانية بين فصيل مقاوم وقوة احتلال، بل شكلت لحظة فارقة أعادت تشكيل الوعي الجمعي العربي والإسلامي، بل وحتى الإنساني، تجاه القضية الفلسطينية. فقد كسرت هذه المعركة حالة الجمود واليأس التي سادت في أوساط كثيرة نتيجة التواطؤ الدولي والصمت الإقليمي، وأعادت الاعتبار لفكرة المقاومة كخيار شرعي وفعال في مواجهة الاحتلال والاستعمار، فتحول “طوفان الأقصى” من عملية عسكرية إلى طوفان وعي، كشف التزييف الإعلامي الذي ساد لعقود، وأسقط خطاب الاحتلال حول “الضحايا الأبرياء” و”الدفاع عن النفس”، حين أظهر الوجه الحقيقي لكيان مبني على القتل والتمييز العرقي. وقد كان لسائل التواصل الاجتماعي أثر حاسم في نقل الحقيقة، حيث تجاوزت الرواية الرسمية وأوصلت صور المجازر والحصار والتجويع إلى ضمير العالم، فخرجت الملايين في مظاهرات حاشدة تطالب بوقف العدوان وإنهاء الاحتلال. لقد تسببت هذه اللحظة في ولادة جيل جديد من الوعي، أكثر إدراكا لتعقيدات القضية، وأقل انخداعا بالخطاب الرسمي أو “السلام المزعوم”. فطوفان الوعي لا يعني فقط التضامن مع غزة أو التنديد بالعدوان، بل هو إعادة تموضع شاملة لمفاهيم الكرامة، والحرية، والعدالة، والمقاومة، في ظل عالم يزداد انكشافا وافتضاحا في نفاقه وصمته أمام الهمجية والتوحش الصهيوني. وهكذا، فإن طوفان الأقصى لم يهز أسوار الاحتلال فحسب، بل هز أيضا جدران الصمت، وفجر سيول الوعي في ضمير الشعوب، مما قد يكون مقدمة لتحول حقيقي في مسار الصراع مع الكيان الصهيوني.
إن معركة طوفان الأقصى ليست مجرد محطة في مسار الصراع الفلسطيني مع الاحتلال، بل هي تحول جذري سيترك أثرا عميقا واستراتيجيا في المشهد الفلسطيني والإقليمي والدولي. لقد مثلت هذه المعركة لحظة فارقة، كسرت فيها المقاومة الفلسطينية معادلات الردع التقليدية، وفاجأت الاحتلال والعالم بقدرتها على التنظيم والمباغتة، وأثبتت أن إرادة التحرر لا يمكن أن تقهر، مهما كانت موازين القوة مختلة.
نسأل الله أن يتمم النصر بتحرير كامل فلسطين، وأن يحفظ أهل غزة الأبطال، وأن يخزي كل من خذل القضية أو تآمر عليها.
تعليق واحد
“وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المومنين القتال وكان الله قويا عزيزا”
لم ينالوا خيرا، وإنما نالوا الخزي والذل والانكشاف أمام العالم الذي كانت الغشاوة على بصره. أذعن كيان الشر المطلق لإرادة الله سبحانه، وأوقف صاغرا توحشه وإبادته، متنازلا عن لاءاته وأسطوانته المشروخة، تحت ضغط ضربات المقاومة الشريفة الباسلة أولا، وضغط شرفاء العالم ممن سلِمت فطرتهم فانحازت الى الحق، ورفضت الظلم، فساندت بما استطاعت. وحاضنة شعبية عرفت فلزمت والتزمت، وضحت بكل ما تملك، ثباتا على أرضها، ورفضا لمخططات المجرمين المفسدين.
طوفان الأقصى تقدير بشري نعم، واجتهاد سياسي عسكري نعم، حقق مكاسب جمة، وكشف عظائم الأمور- رغم الثمن الباهض- لعل أظهرها إحياء القضية الفلسطينية بعد أن ظن أعداؤها أنها حُنطت، وإثبات أن كيان التوحش لايردعه الا الصمود وإعداد العدة، الم يقل ربنا سبحانه:(واعدوا لهم مااستطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لاتعلمونهم)؟ الم يخاطب سبحانه المظلوم بقوله:(أذن للذين يقاتَلون بأنهم ظُلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق الا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفاع الله الناسَ بعضَهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيه اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز).
ومن انجازات الطوفان أنه كشف الطوائف والاتجاهات والفهوم، فأظهر الصادقين، الصابرين، وأبرز المتخاذلين والصامتين، والمنافقين الشامتين، وأعداء الحق والعدل والإنصاف المتقوّلين، من أهل التأويل الجاهل والانتحال الباطل ممن يتذرعون بانتقادهم لمبادرات صناع الطوفان وفكرته، ويتعالمون بأنهم الأقدر على تقدير المصالح! فإذا بهم يضربون في الصميم محكمات الوحي، وقطعيات النصوص بفاسد التأويل، وانتحال أهل الباطل. ولذلك ركنوا الى الظلم والظالمين، ونافحوا عن وجودهم وغصبهم لأرض لها أهلها وذووها، وصاروا حماة للغصب والظلم عن بُعد، ومن داخل بلادنا ووطننا. فمتى كان ناصر الظالم الموالي له منافحا عن وطنه؟!
كما أثبت الطوفان زيف ادعاءات المؤسسات الدولية ومواثيقها، وعجزها عن إنصاف المظلوم وردع الظالم، فضُربت بذلك مصداقيتها، فصارت أشبه ماتكون بسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى اذا جاءه لم يجده شيئا.
هنيئا للشرفاء من شعب فلسطين الأبي الصامد المرابط على أرضه، ومن المقاومين الأبطال، الذين جعلوا المحتل يذعن للتفاوض، ويوقف توحشه، ولا ضمان لعدم نكثه وغدره ونقضه العهود والمواثيق- على عادته- الا قضاء الله وقدره.
هنيئا للمقاومة حِلمها وكظمها الغيظ، وصبرها وتحملها الاسطوري لطعنات الخونة والمرتزقة من هنا ومن هناك، حتى اتهمهم (زعيمهم) الذي ترابط جرافات العدو قاب قوسين أو أدنى منه ومن حاشيته؛ ب(أولاد الكلب). ولم ينبس ببنت شفة طيلة عامين من الإبادة والتجويع والتعطيش، فلم تمكنه تنازلاته وتنسيقه الأمني الذليل من إدخال كسرة خبز، أو كوب ماء الى أبناء وطنه المقهورين بله أن يحمي الوطن! فهاهم( اولاد الكلب)، يحققون المعجزات!( ولله العزة ولرسوله وللمومنين ولكن المنافقين لايعلمون)
رحم الله الشهداء، وثبت المرابطين، وبنى الديار بفضله وجوده وكرمه، آمين
البشير القنديلي