تمت مناقشة رسالة دكتوراه تقدم بها الطالب الباحث عبد المجيد بلبصير في موضوع ” إجماع أهل المدينة في الموطأ دراسة مصطلحية”، وذلك يوم الخميس 23 أكتوبر 2025 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس فاس، وقد تكونت لجنة الماقشة من السادة الأساتذة : الدكتور عمر جدية رئيسا، والدكتور حميد الوافي عضوا، والدكتور امحمد الينبعي عضوا، والدكتور إدريس وهنا مشرفا ومقررا. وبعد المناقشة العلمية، والمداولة نال الطالب الباحث شهادة الدكتوراه بميزة مشرف جدا مع تنويه اللجنة وتوصية بالطبع، ونقدم فيما يلي تقرير الباحث تعميما للفائدة:

سم الله الرحمن الرحيم 

وبعد، فإنما تقرير البحث خبر مقدم عن مبتدإ البحث ومنتهاه، ولئن عد في مسار العمل خاتمة المطاف، فعسى أن يكون في واجهة البحث فاتحة الألطاف، مثيرا لمخاضات معطياته، مشيرا إلى عصارات حيثياته، عبر محاور خمسة ملمة بشتات امتداداته وارتداداته، ويمكن تلخيص مادتها تباعا فيما يلي:

         المحور الأول: موضوع البحث وأهميته:

مثل العلم المستند إلى وحي الله الذي هو عين الهدى والعلم، “كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها” إبراهيم 26-27.

وإنما جنى العلم وأكله –نظريا- مناهجه، وأفنانه وفروعه قواعده، وجذوره التي هي أساس كل ذلك ألفاظه ومصطلحاته.

ففي البدء كان المصطلح.. إذ كل المناهج للقواعد، والقواعد من مصطلحات.

فطينة العلم الأولى إنما هي المصطلح، ثم مر على خلقه أدوار وأطوار، إلى أن صارت الطينة ذلك الخلق الآخر.

فمن المصطلح كان الابتداء، وعليه قام البناء، وإليه آل النشوء والارتقاء.

ومن ثم صح القول أن “ليست المصطلحات مفاتيح للعلوم فحسب، بل هي العلوم ذاتها”[1].  

وحيث إن “أول التجديد قتل الماضي بحثا”[2]، فعسى أن يكون ما بذل من جهد في بحث الموضوع الذي شرفت بالاشتغال عليه، على عين أستاذي المشرف الدكتور إدريس أوهنا حفظه الله، لبنة في مشروع الاستئناف والتجديد، إذ حاول أن يقارب مصطلحيا إجماع أهل المدينة في الموطأ من خلال صيغه، وهو مفهوم وإن لم تستوف ألقابه الشروط المطلوبة في جودة المصطلح، من دقة ووجازة واستيعاب، إذ ما تزال في طور المصطلح الجملة المطبوع بطابع فطرة العلم، إلا أن أهميته بالأساس تنجلي في تشكله بقوة في صورة مفهوم أصولي استدلالي كبير، في مرحلة ما قبل تدوين العلم، أي ما قبل رسالة الشافعي رحمه الله، وهي المرحلة الأصل، أي مرحلة ميلاد العلم، التي منها يمتد سند العلم، وعليها تبنى عبر مسار العلم أحكام العلم، وإليها يستند في العلم كل ذي علم.

وإنما كل مولود يولد على الفطرة، وكذلك حال العلم، بحيث تولد مفاهيمه واصطلاحاته كالبهيمة العجماء، ما ترى فيها من جذعاء.

المحور الثاني: دوافع البحث وإشكاليته:

إن البحث في “إجماع أهل المدينة في الموطأ: دراسة مصطلحية” كما هو عنوان هذه المحاولة الكأداء، إنما هو استمرار من صاحبه، عقب بحث الإجازة، في النبش في المصطلح الأصولي عامة، مع التركيز فيه إبان بحث المعمقة، بتوجيه من أستاذي الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله، على المرحلة الأصل خاصة، وعلى متن الموطأ بصفة أخص.

على أن هذا الاستمرار والاستقرار، فضلا عن أنه ابتداء احترام للضابط الشمولي ببعده الحضاري في البحث العلمي[3]، إنما تفرضه انتهاء دوافعُ عامة متعلقة بأصل الموضوع ومجاله، وموجباتٌ خاصة متعلقة بصلب المفهوم وحيثتياته، ويمكن عرضها بإيجاز فيما يلي:

أ-دوافع البحث في الموضوع عامة:

وهي تتعلق إجمالا إما بالمرحلة الأصل، وإما بالنص المشتغل عليه، وإما بهما معا، ما يعين في إبراز السياق العلمي والمنهجي لدرس المصطلح الأصولي في الموطأ، ويمكن تلخيص ذلك تباعا في الآتي:

أولا– الإسهام في سد حاجة البحث إلى الدرس المفهومي للتراث الأصولي -وغير الأصولي- في مرحلة النشأة والتأسيس، بما يقتضي أولا إقامة شخصيته النصية والمصطلحية تحقيقا وتوثيقا وإحصاء، إذ يشكل ذلك دعامة صلبة لوصف مادته الوصف العلمي السليم “الذي ينبني عليه التقويم السليم والتأريخ السليم”[4].

ثانيا- الإسهام في سد حاجة الموطأ إلى دراسات مصطلحية وافية، يتناول كل منها الألفاظ الدائرة بين أهل النظر، حسب مجالات التوظيف فقها وحديثا وأصولا، بحيث يتم في كل منها الجمع بين الجانبين النظري والتطبيقي للدرس المصطلحي من قبل الباحثين زرافات ووحدانا، وقد تركها فضيلة الأستاذ الفريد رحمه الله وصية باقية في عقبه من الطلاب.

ثالثا- الإسهام في سد حاجة الدرس إلى إضاءة الإطار المعرفي الذي يحتضن المصطلح الأصولي في الموطأ من حيث المجال، ويكشف عن بعده المنهجي الذي يتوخاه رفعا للإشكال. وإنما المجال مجالان، عام تترجمه علاقة المصطلح المعهود بقضية الفقه بين أهل الرأي وأهل الأثر، وخاص تستعيبه صلته بمسألة المذهب المالكي مفهوما وأصولا.

لذا كان الكشف فيه عن الواقع الدلالي للمصطلح الأصولي ابتداء، هو المدخل الأساس للوقوف على حقيقة المذهب المالكي وأصوله، أدلة وقواعد، وكانت نتائج هذا بالتبع مقدمات ضرورية للحسم في جزء كبير من قضية الفقه بين أهل الرأي وأهل الأثر، وخصوصا بين مدرستي الحجاز والعراق.

ب-موجبات البحث في المفهوم خاصة:

وهي مستفادة من التمرس بقدر غير يسير من حيثيات مفهوم إجماع أهل المدينة وعملهم خاصة، فيما تيسر من مصادره ومظانه، ويمكن تلخيصها في محورين اثنين:

أولا- ما يتعلق بمركزية المفهوم:

وحيث إن أصول المذهب المالكي إنما هي في مجملها أصول عمرية قبل أن تكون أصولا مالكية، كما حقق بعض الباحثين[5]، فإن محورية الاتفاق المدني علما وعملا، إنما بدت ملامحها جلية منذ عهد الفاروق رضي الله عنه، ممتدة إلى ما بعد عهد مالك بن أنس، بحيث جاوزت بخيطها الناظم عبر حلقات سندها المتصل، مقصد التعبير عن حجية المفهوم أصلا استدلاليا قائما، إلى تقرير قوته معيارا منهجيا حاكما، فكان بذلك من أهم ثوابت العلم والمنهج المحفوظة رسميا ومجتمعيا، عند الاجتهاد والفتوى والتأصيل والتنزيل والتشكيل، كما تقرر في موضعه.

ويكفي في إبراز مركزية المفهوم طيلة قرون الخيرية هذه، أن اعتداد أهلها بالشخصية الاستدلالية والمنهجية لإجماع أهل المدينة وعملهم، كان التعبير عنه رغم تفاوت أعصرهم، على سبيل توارد الخواطر أحيانا،

هذا فضلا عن اعتدادهم بالشخصية المصطلحية للمفهوم، بحيث شكل تعبيرهم عنه بألفاظ متقاربة، جهازا مصطلحيا كثيفا، برع مالك رحمه الله في حكايته ومحاكاته وإغنائه، وإن عمل في بعضه بالتشذيب والتهذيب.

ثانيا: ما يتعلق بإشكالية المفهوم:

 وحيث إن الضابط الإشكالي عمود البحث العلمي وسنامه، باعتبار البحث “عملا منظما يهدف إلى حل مشكلة معرفية باستقراء جميع مكوناتها التي يظن أنها أساس الإشكال”[6]، فقد يصح الزعم ،منطلقا افتراضيا للبحث، أن مفهوم إجماع أهل المدينة قد بلغ من غبش التقدير والتصوير درجة الاحتراق، ذلك أن التنازع في معناه وتعريفه، ثم فيما يمكن أن يتعلق به ائتلافا أو اختلافا، تداخلا أو تكاملا؛ فضلا عما انبنى على حقيقته من مسائل فقهية، وما تناسل عنها من قضايا أصولية، ذات الصلة بحجيته ومستنده، وتصنيفه وترتيبه، ومستوياته ووظائفه، كما أشير إليه في موضعه، إنما جرى التباحث في ذلك كله أخذا وردا، منذ أن صار الإجماع والعمل بالمدينة، بما ركز مالك في ثنايا موطئه، أصلا مميزا لمذهبه الذي هو في أصله امتداد لمذهب أهل المدينة.  

وقد بدت بوادر التنازع ابتداء في صورة مراسلات فمناظرات، ثم مدارسات ومراجعات، بحيث كان إشكال المفهوم في هذه المرحلة يأخذ بالظاهر طابعا فروعيا في الغالب، وإن كان في عمقه رجعا لصدى الأصول كما نص عليه الحجوي الثعالبي آخر تعقيبه مثلا على ما كان من مكاتبات بين مالك والليث[7].

ثم اتسعت فيما بعد دائرة معالجة الإشكال وحيثياته، بأسلوب حجاجي غالبا، هيمن عليه مسلك التقسيم من قبل أهل الأصول، قدامى ومحدثين. بيد أن المفهوم رغم ما كتب فيه من قبل المتأخرين من الدارسين خاصة لم يقتل بحثا، إذ ثمة إشكالات متعلقة به ما تزال عالقة، على مستوى دوائره الكبرى الثلاث مما ذكر قبل، تعريفا وعلاقات وقضايا، فكان لزاما لأجل حلحلة ذلك كله، إعادة ترتيب مادته من جديد، عسى أن يثمر الجديد.

المحور الثالث: منهج البحث وخُطته:

لا جرم أن إعادة ترتيب مادة المفهوم بقصد تقريب الواقع الدلالي لصيغه في شروح الموطأ أصالة، وإضاءة ما علق به من الإشكالات في كتب الأصول تبعا، إنما يقتضي الانضباط أساسا إلى روح المنهج وخُطته في الدرس المصطلحي، وصفيا بمستوييه التقريري فالتقديري، ثم تاريخيا “ليتضح التطور الحاصل في المفهوم، -فموازنا ومقارنا-.. ليظهر جهد اللاحق، ويبرز فضل السابق”[8] من أهل النظر فيه، وهو ما استدعى استفراغ الوسع في استيعاب مادة المفهوم وتنظيمها، قبل تحليلها وتركيبها، إذ بذلك يسلم سبك النتائج نظما وعرضا، وذلك وفق ما يلي:

أ- جمع مادة المفهوم: وقد جرى تقريرا طبق ما يلي:

  أولا- جمع المادة الخام:

 ومبناه على جرد صيغ المفهوم بمواردها في الموطأ، ثم ترتيبها -عقب تفكيكها- ترتيبا أبجديا حسب أوائل جذور الألفاظ المفاتيح لتراكيبها في جدول جامع، تيسيرا لإحصائها وتصنيفها،  وتمهيدا لتبين مجالات استعمالها وهيئات ورودها، مفردة أو مكررة، مجردة أو موصولة، مثبتة أو منفية.. ضمن نصوصها من أبواب الموطأ.

ثانيا- جمع المادة الواصفة وفق ببليوغرافيا مصادر البحث ومراجعه:

وقد تم ذلك عقب إحصاء الصيغ ضمن المادة الخام من خلال ما تيسر من مصادر ومراجع مفيدة في الموضوع، إذ قسمت بعد الفرز والتصنيف إلى أربع خانات كبرى، تصدرتها شروح الموطأ بما لها من حكم الأصل في الاشتغال بالمقصود، ثم تلتها تواليا كتب الفقه والأصول وتاريخيهما، فتآليف المتأخرين، ثم أطاريح الدارسين، بما لذلك كله على تفاوته من حكم التكملة في تحقيق المطلوب.

وقد رتبت كتب كل منها ترتيبا تاريخيا ما أمكن، توطيئا لرصد ما قد يطرأ على المفهوم في ثنايا موارده من تطورات، وتلمسا لما قد تصل إليه حركتاه الزمانية والكمية من امتدادات، كما أشير إليه في موضعه؛ وهي ببليوغرافيا ظلت مفتوحة طيلة مسار البحث لكل ما قد يضيء جوانب المفهوم صلبا وتوابع، فضلا عما يخدم ذلك وإن لم يكن وثيق الصلة به نحو كتب المعاجم والتراجم والمصطلحية، وبعض كتب الحديث والتفسير والمنطق والتاريخ والأدب..

ب-وصف مادة المفهوم: وقد جرى تقديرا وفق ما يلي:

أولا-الوصف الداخلي للمفهوم:

وهو عماد البحث وقوامه حقيقة، ومبناه عقب الإيواء إلى ركن منهجي شديد في تصنيف الصيغ وترصيفها في مجموعات، ضمن قطبين كبيرين هما “قطب الأمر المجتمع عليه” ثم “قطب الأمر عندنا”، على كشف الواقع الدلالي لنماذج صورها في الموطأ من خلال مادة الشروح أصالة، ما تطلب التتبع اليقظ لسياق كل منها على حدة، تمهيدا لمعالجة ما استخرج من نصوص في ثنايا مسائلها، مضيئة لمؤداها وحيثياتها، بالتحليل والتعليل، لأجل تقدير مفادها في التعبير عن اتفاق أهل المدينة بالكل أو بالجل، وتوصيف ما يمكن أن يعتلق بها من الصيغ من خلال حركتها الموضعية في متن الموطأ، فضلا عما يمكن أن يتصل بها من قضايا ذات الصلة بصلب المفهوم، مصادر وخصائص وضوابط.

وقد أسس لكل ذلك بعرض المعنى المعجمي للفظها المفتاح الذي عليه مدار قراباتها من الصيغ، وذلك عقب عرض صفة ورودها ومجالات استعمالها ضمن كتب الموطأ وأبوابه.

ثانيا-الوصف الخارجي للمفهوم:

 وهو محصلة البحث ونتيجته، ومبناه على توصيف إشكالات المفهوم وتقدير توجيهها بالموازنة والمقارنة بين آراء الأصوليين والدارسين، من خلال صورته الكلية المركبة عبر حركته الكمية الممتدة ضمن مادته الواصفة فيما عدا الشروح مما أشير إليه من تكملات، مصادر وتآليف وأطاريح.

وتجدر الإشارة إلى أن الوصف الخارجي للمفهوم بصورته الكلية الجامعة، محكوم تلقائيا بنتائج الوصف الداخلي لصوره الجزئية المتناثرة في مادة الصيغ بمتعلقاتها؛ وقد أدمجت مباحثه بإيجاز غير مخل، تعريفا وعلاقات وقضايا، ضمن شروح قيود مفهومه أول الفصل الثالث أواخر البحث، كما ورد في موضعه.

المحور الرابع: محتوى البحث:

 هذا، ومن مجموع ما توخاه بحث المفهوم متنا ومنهجا، فقد خرج محتواه دون المقدمة والخاتمة في بابين اثنين:

أما الأول فباب تمهيدي خصص لبيان السياق العلمي والمنهجي للمفهوم، فضلا عن إبراز مركزيته في النسق الفقهي المدني إلى عهد مالك، وذلك من خلال فصلين اثنين يندرج تحت كل منهما مباحث ومطالب وفق ما يلي:

-الفصل الأول في البحث في إجماع أهل المدينة من خلال الصيغ: نظرات تقويمية ومعالم منهجية: وقد ركب في ثلاثة مباحث، أولها في واقع البحث في إجماع أهل المدينة من خلال الصيغ في الدراسات الأكاديمية، والثاني في منهج التبويب والترتيب لألفاظ الصيغ وعباراتها، والثالث في منهج التوصيف والتوظيف لمعاني الصيغ وقضاياها.

وأما الفصل الثاني ففي مركزية إجماع أهل المدينة مركبا ضمن مبحثين اثنين،خصص الأول لمركزية المفهوم عند الصدر الأول صحابة ثم تابعين فتابعيهم؛ وخصص الثاني لمركزية المفهوم عند الإمام مالك من خلال أقواله في غير الموطأ أولا، ثم من خلال تعابيره عن المفهوم في الموطأ ثانيا.

وأما الباب الثاني فمعجمي مصطلحي خصص لتوجيه ما اندرج تحت قطبي المفهوم من صيغ بمسائلها، ودراسة ما تركب عنها من مكوناته، تعريفا وعلاقات وقضايا، وذلك في ثلاثة فصول.

أما الفصل الأول فقد عرض لمجموعات قطب “الأمر المجتمع عليه” ضمن مباحث ثلاثة، خصص أولها لصيغ إثبات الاجتماع، وثانيها لصيغ نفي الاختلاف، وثالثها لصيغة من صيغ إثبات الاجتماع موصولة بصيغة من صيغ نفي الاختلاف.

وأما الفصل الثاني فقد عرض لمفهوم الصيغة القطب الثانية “الأمر عندنا”، ضمن ثلاثة مباحث متفاوتة الاعتبار، خصص أولها لوصف مؤدى الصيغة باعتبار ورودها باللفظ، وثانيها باعتبار ما يقوم مقامها، وثالثها باعتبار نقل عياض لمعناها ضمن مستند التصنيف، بحيث اندرج تحته نماذج لأربع مجموعات من الصيغ موزعة على أربعة مطالب، مطلب لصيغ العمل ونفي العمل، ومطلب لصيغ جريان الأحكام، ومطلب لصيغ المعروف والمعرفة مسندة إلى الناس، ومطلب لما اقترن من الصيغ بلفظ “ببلدنا”.

بينما تم طي مفهوم الصيغة باعتبار نقل الباجي ضمن مستند التصنيف أيضا، لخروجه عن معنى الاتفاق المدني، فضلا عن تعلقه التبعي بمؤدى الصيغة من حيث الدلالة على عندية الاختيار لدى مالك دون عندية الائتمار لدى أهل المدينة؛ لذا تم الاكتفاء بالتمثيل لما اندرج تحته من الصيغ، المتعلقة تباعا بصيغ السماع وملحقاتها من صيغ الأخذ والرأي المسندة إلى مالك نفسه، أو المسندة إلى بعض أهل المدينة دون غالبهم، وذلك آخر المبحث الأول، مبحث ورود الصيغة باللفظ.

وأما الفصل الثالث فقد ركب في مبحثين، خصص أولهما لصياغة التعريف المطابق بالاستنتاج لإجماع أهل المدينة بصورته الكلية التأصيلية، المركبة من صوره الجزئية التنزيلية، المستفادة من مؤدى الصيغ النماذج ضمن مسائلها في الموطأ، مع مناقشة ما ارتبط بمفهومه لدى الأصوليين والدارسين، نحو ما تعلق به  عبر حركته الكمية التطورية من مفاهيم كبرى، تكاد تنحصر إشكالاتها في علاقته بالإجماع الأصولي، وعلاقته بخبر الآحاد، وعلاقته بالعرف والعمل؛ ونحو ما تفرع عنه من قضايا يمكن تلخيص أبرز معالمها كما سلف في حجيته ومستنده، وتصنيفه وترتيبه، ومستوياته ووظائفه، وسماته وخصائصه؛ وذلك من خلال تحليل قيود التعريف تباعا.

وخصص ثانيها لرصد ما تناسل عن الصيغ بقطبيها من علاقات ائتلافا فاختلافا، فتداخلا وتكاملا.

وأما الخاتمة فلم تشذ عما تخصص له الخواتيم من طي منشور البحث وإيجاز نتائجه وخلاصاته، واستشراف آفاقه.

المحور الخامس: نتائج البحث وآفاقه وصعوباته:  

وحيث إنه “لا ينبغي لحصيف يتصدى إلى تصنيف أن يعدل عن غرضين، إما أن يخترع معنى، أو يبتدع وصفا ومتنا..” [9]؛ فقد حاول البحث جاهدا على مستوى الإسهام في الابتداع المنهجي فيما يتعلق بالموضوع ما يلي:  

  1-أن يعيد ترتيب مادة مفهوم “إجماع أهل المدينة في الموطأ” من جديد، بالاستناد إلى اعتبارات التصنيف لصيغه وتعابيره ضمن قطبيها، مستفادةً من نص تفسير أمهاتها عند مالك، من طريق ابن أبي أويس بنقلي الباجي وعياض على تفاوتهما حجما ومعنى.

2-أن يستقصي المصطلحات الجمل للمفهوم في الموطأ، تمهيدا للمدارسة الوصفية التحليلية لمؤدى أمهاتها، دون فصل بينها وبين محاضنها من المسائل، ولا بين مادتها الخام ومادتها الواصفة في الشروح والمصادر.

3-أن يؤسس لمنهاج تطبيقي متكامل، يفي بوصف المؤدى للصيغة القطب الثانية المشكَلة “الأمر عندنا”، من خلال ما سطر في ذلك من اعتباري الورود بلفظها فبما يساويه أولا، ثم باعتباري نقلي عياض والباجي لتفسيرها عند مالك ثانيا، مع طي الوصف باعتبار نقل الباجي آخر الوصف باعتبار الورود باللفظ على سبيل التذييل.

4- أن يصوغ باستلهام روح المنهج الوصفي التاريخي في الدرس المصطلحي، التعريف المقارب إن لم يكن المطابق لمفهوم “إجماع أهل المدينة”، من حيث كونه دليلا كليا بما تناثر في الموطأ وغيره من صوره الجزئية، ثم من حيث كونه نسقا قواعديا بما تأسست عليه أحكامه من ضوابط منهجية؛ وذلك بتركيب بطاقة هوية مفصلة عنه، يرجى أن ينحل في ثناياها من بيانات قيود التعريف، بضرب من الموازنة والمقارنة، ما علق بالمفهوم عبر حركته الممتدة في الزمان، من إشكالات، لاسيما ما تعلق بقضايا الحجية والتصنيف، والمستويات والوظائف، والأصول والخصائص؛ فضلا عما ألحق بذلك مما اتصل بعلاقاته على مستوى الائتلاف والاختلاف، فالتداخل والتكامل.

5- أن يوازن من حيث المؤدى بين الصيغتين القطبين، بما اندرج تحت كل منهما من أوزاع الصيغ، موازنة تفيد وفاقهما في الدلالة على المفهوم بالأصالة، دون تأثر بارز بخروج العندية في الصيغة القطب الثانية “الأمر عندنا” عن الائتمار إلى الاختيار، حال عوز مالك إلى السماع، أو حال تعارض الأدلة عنده دون ترجيح باتفاق غالب.

6- أن يحدد بتدقيق المقارنة معالم الفصل بين الإجماع المدني وبين ما تداخل معه من الأدلة الشرعية، ضربا من التداخل، سواء تعلق الأمر بقوام حجيته بشرط التواتر  المتساوية فواصله وقيد المشاهدة، فارقين جوهريين للمفهوم عن دليل الإجماع الأصولي بهما معا، وعن دليل العمل بسائر البلاد المستوطنة من قبل آحاد الصحابة بالأول خاصة؛ أو تعلق الأمر بقوام مستنده بالاعتبار بشهادة الشرع في الأصل فارقا جوهريا عن دليل العرف والعادة؛ أو تعلق بقوام الترجيح للمعتبر منه نقلا واجتهادا، بما بلغ من معالي الصدق والصواب، والتلقي والقبول، والشيوع والذيوع، سمات جوهرية قاصرا عنها دليل الآحاد عند التعارض إجمالا.

وأما على مستوى الإسهام في الاختراع المعنوي، فلم يدَّع البحث لجهده المتواضع فيه ابتكارا، سوى ما حاول إضاءته في ثنايا التحليل والتركيب لمعان لها صلة بعمق المفهوم، رنا إلى دقائقها بعض القدماء المحققين، دون أن تلقى كبير اهتمام من محدثي الدارسين، وهي متعلقة إجمالا بمستويين اثنين هما دونما ريب أكبر آفاق البحث في الموضوع:

الأول: مستوى التوصيف: وهو متصل بجانب التفسير والتقدير لمؤدى صيغ المفهوم بصوره الجزئية، لكن من خلال توسيع مستندات التوصيف، مع التنسيق بين تفاسيرها وتقاديرها، واختبار ماصدقها على واقع المفهوم في الموطأ والمدونة، بالنظر في المادة الواصفة في الشروح أساسا. ولعل مزيد الاشتغال على نص ابن أبي أويس، ونص ابن الفخار القرطبي، وغيرهما من نصوص الارتكاز متكاملة، يضيف في سياق بناء منظومة المفهوم معنى جديدا، وملمحا فريدا.    

الثاني: مستوى التصنيف: وهو متصل بجانب التقريب والترتيب للمفهوم بصورته الكلية ضمن النسق الأصولي، لكن من خلال تنويع مستندات التصنيف، مع المقارنة بين تقاريبها وتراتيبها، والاعتبار بأمتن مناهجها في الكشف عن امتدادات المفهوم وقضاياه، بالنظر في المادة الواصفة في الأصول أساسا. ولعل مزيد الاشتغال على ما جاد به في ذلك أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات، إذ أدرج المفهوم ضمن عمل الأولين، فضلا عن نص ابن خلدون في المقدمة، وغيرهما من مصادر الارتكاز متماسكة، يضيف في سياق بناء منهاج المفهوم ضابطا عتيدا، ومعيارا رشيدا. 

وأما الصعوبات فلم تنفك عن العمل منذ مرحلة الاقتحام، إذ الدوران مع المفهوم حيث دار وعر المساق، بما قد يطاق وقد لا يطاق، ما جعل دون كشف محجوبه وإصابة مطلوبه خرطَ القتاد، لاسيما في جانبه المعجمي، بحيث كان وصف المؤدى لبعض صيغ المفهوم غائر المخبر، شحيح المصدر، فضلا عما اقتضى وصف المؤدى لغالبها من التنقيب والتحليل الجهد الجهيد، ومن التنسيق والتركيب بذل المزيد؛ ناهيكم عما اكتنف صياغة التعريف للمفهوم من مشاق، إذ كان وصف واقعه الدلالي بقضاياه في الموطأ غير موطأ، كما كان تبيان قيوده أقرب إلى نحت في صخر، لا غرف من بحر.. 

وأما أستاذي المشرف فضيلة الدكتور إدريس أوهنا حفظه الله، الغيور الثبت والمناضل الحجة، بلسان صدق في ساحات العلم والتدافع مذ كان طالبا، وقلم سيال في ميدان الفكر والأصول ما يزال نظره ثاقبا، فإني مدين لحسن ظنه بطالبه مجددا صبره على الإدامة، شاكر جميل ثنائه على جهده دافعا عنه داء السآمة،  فالله أسأل لما أسدى من تشجيع وتوجيه، وما أنفق من وقت وقوم من أود، أن يجزيه الجزاء الأوفى، ويكرمه بالرضوان والحسنى، ويديم عليه الحكمة والعافية.

هذا، والشكر موصول لأولي الفضل من أساتذتي الأجلاء في لجنة الفحص والمناقشة، كل باسمه وسَمته: فضيلة الدكتور عمر جدية رائد البحث في درس المقاصد، وفضيلة الدكتور محمد الينبعي رائد المنهج في درس المصطلح، وفضيلة الدكتور حميد الوافي رائد التجديد في درس الأصول.

لما رسمت إلى التجديد معلمة       قال الخبير فغص غواص يا وافي

شهادة الشاهد النحرير كافية     كالقطع بالنص نعم الشاهد الكافي

 فالله أسأل لما أسدوا إلى البحث رغم زحمة انشغالاتهم من دقيق النظر، وما أهدوا  إليه من ملاحظات عسى أن يكون جميل الأثر، فضلا عما غمروا به الطلاب من كريم الخلق وخفض الجناح، وسعة الصدر بصدق انشراح، أن يثيبهم سبحانه أحسن الثواب في الدارين، وأن يجعلهم وعقبهم المادي والمعنوي من أهل الجنتين.

وأما أستاذي الحاضر الغائب فضيلة الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله، شمس مكناسة الزيتون قبل مغيبها بالأمس القريب، وعافية الناس والطلاب بتجديده العلمي والدعوي المتين، فالله أسأل كفاء حسن اقتراحه وبليغ وصيته، أن يجعل هذا العمل المتواضع في ميزان حسناته، ورفيع آثاره ودرجاته، وأن يتغمذه بواسع رحمته “مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا”.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.


[1]– مصطلحات نقدية وبلاغية في كتاب البيان والتبين للجاحظ 7.

[2]– بنظر أبجديات البحث في العلوم الشرعية 31. والقولة اشتهرت نسبتها إلى الأستاذ أمين الخولي بلفظ “أول التجديد قتل القديم بحثا وفهما ودراسة”. ينظر أمين الخولي والأبعاد الفلسفية للتجديد 9.

[3]– ينظر أبجديات البحث في العلوم الشرعية 30-31.

[4]– مصطلحات نقدية وبلاغية في كتاب البيان والتبين للجاحظ 13.

[5]– ينظر نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي 61.

[6]– أبجديات البحث في العلوم الشرعية 24.

[7]– ينظر الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي 2/446.

[8] – ينظر مفهوم القطع والظن وأثره في الخلاف الأصولي 11 (النسخة المرقونة).

[9]– عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي 1/8.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version