فقه السنة النبوية معالم منهجية ونماذج تطبيقية
[ملخص محاضرة الأستاذ أحمد الريسوني، بكلية
الشريعة والدراسات الإسلامية، بجامعة قطر، يوم 29/4/2024]
المقاصد بين القرآن والسنة
إذا كان القرآن الكريم هو مستودع مقاصد الرسالة المحمدية والشريعة الإسلامية، فالسنة النبوية هي خادمة تلك المقاصد؛ تبيينا وـوكيدا وتطبيقا وتحقيقا.. وعادة ما يذكر العلماء استمداد مقاصد الشريعة، فيذكرون القرآن والسنة معا، ولا ثالث لهما. قال ابن عاشور: “واستقراء أدلة كثيرة من القرآن والسنة الصحيحة يوجب لنا اليقين بأن أحكام الشريعة الإسلامية منوطةٌ بحِكمٍ وعللٍ راجعة للصلاح العام للمجتمع” .
ولكن السؤال هو: هل تضمنت السنةُ مقاصدَ أخرى، غير تلك الواردة في القرآن؟
شيخ المقاصد أبو إسحاق الشاطبي – وكما هو دأبه – يجعل كل ما في السنة راجعا إلى ما في القرآن ومستمَدا منه، كما في قوله: “القرآن الكريم أتى بالتعريف بمصالح الدارين جلبا لها، والتعريفِ بمفاسدهما دفعا لها. وقد مر أن المصالح لا تعدو الثلاثة الأقسام وهي: الضروريات ويلحق بها مكمِّلاتها، والحاجيات ويضاف إليها مكملاتها، والتحسينيات ويليها مكملاتها، ولا زائد على هذه الثلاثة المقررة في كتاب المقاصد. وإذا نظرنا إلى السنة وجدناها لا تزيد على تقرير هذه الأمور؛ فالكتاب أتى بها أصولا يُرجع إليها، والسنة أتت بها تفريعا على الكتاب وبيانا لما فيه منها، فلا تجد في السنة إلا ما هو راجع إلى تلك الأقسام. فالضروريات الخمس كما تأصلت في الكتاب تفصلت في السنة” .
وقد نظرتُ وفكرت كثيرا في المقاصد المضمنة في السنة النبوية، فلم أجد فيها – حتى الآن – مقاصد كلية لا توجد في القرآن. ولكنها تتضمن من المقاصد:
1. ما هو مطابق لما في القرآن من المقاصد كلية،
2. مقاصد جزئية وتطبيقات عملية.
– فأما السنن والأحاديث النبوية المطابقة لكليات القرآن ومقاصده العامة:
فمنها السنن والأحاديث الواردة في حفظ الضروريات الخمس (الدين والنفس والنسل والعقل والمال). ومنها ما يتعلق بمقاصد: العدل، والإحسان، وصلة الأرحام، وإيتاء ذي القربى، والتزكية، والتراحم، وإخراج المكلفين من العبودية للأهواء والشهوات إلى عبودية الله وحده، وأداء الأمانات، والوفاء بالعهود، واليسر، والسماحة، ورفع الحرج، والإنفاق من فضل الله في سبيل الله، واجتناب الفواحش والخبائث ما ظهر منها وما بطن..
ففي كل واحد من هذه الأبواب ومقاصدها نصوص قرآنية ونبوية متطابقة، وهي مشهورة مذكورة.. فلا أطيل بسردها وتوضيحها.
– وأما المقاصد الجزئية وتطبيقاتها العملية في السنة النبوية، فأتناول ما تيسر منها، من خلال الإضاءات والأمثلة الآتية..
• السنة النبوية بين الظواهر الملفوظة والمعاني المقصودة
البحث والكشف عن مقاصد النصوص الشرعية عامة، ونصوص السنة النبوية خاصة، له مستويان يكمِّل أحدهما الآخر:
– المستوى الأول: مقاصدها الدلالية،
– المستوى الثاني: مقاصدها المصلحية.
فالمستوى الأول: المقاصد الدلالية،
يبحث عن المعنى المقصود من النص، حتى يفهم على وجهه الصحيح، وحتى لا يفهم منه ما لم يُـقصد به..
فكثير من النصوص تحتمل أن تكون على أصلها اللغوي، وتحتمل أن تكون على معنى اصطلاحي شرعي. وكثير من العمومات قد تكون على عمومها، وقد يكون عمومُها غيرَ مقصود أصلا، وقد يكون عمومها مخصوصا. ومنها ما يكون على ظاهره وما تفيده ألفاظه، ومنها ما يكون ظاهرُه غيرَ مقصود، فيكون مؤولا.. وهنا تأتي مسألة الحقيقة والمجاز، وأيهما المقصود بالنص أو باللفظ.
وكل هذه المسائل الأصولية تنطبق على نصوص القرآن والسنة معا..
ثم تختص السنة بالبحث عن دلالات أخرى؛ مثل دلالة الفعل والتقرير، ودلالة بعض التصرفات النبوية: هل قُصد بها التشريع العام الدائم، أو قصد بها تدبيرٌ وقتيٌّ عابر، أم أنها تشريع، لكنه تشريع خاص بحالة معينة، أم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد به التكليف والتأسي أصلا، وهو ما عبر عنه بعض المعاصرين بالسنة غير التشريعية..
ومن ها هنا انبثق اتجاهان في فهم النصوص ومقاصدها الدلالية:
أ- اتجاه يتمسك بالألفاظ والظواهر والعمومات والدلالات اللغوية، ولا يقبل أي دلالات مجازية أو عقلية أو عُرفية، ولا أي تخصيص للعمومات، ولا تقييد للمطْلقات، ولا أي تعليل أو تأويل، إلا بنص صريح يدل بظاهره على ذلك.. وهذا الاتجاه يتجسد – أكثر ما يتجسد – في المذهب الظاهري. قال ابن حزم “فصحَّ أن اتباع الظاهر فرضٌ، وأنه لا يحل تعديه أصلا” . وقال: “فتركُ الظاهر الذي علمناه، وتعدِّيهِ إلى تأويل لم يأت به ظاهر آخر، حرام وفسق ومعصية لله تعالى. وقد أنذر اللهُ تعالى وأعذر. فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها” .
ب- اتجاه يتحرى المعاني “المقصودة”، ظاهرة كانت أو غير ظاهرة. ويعتمد لذلك كل الدلائل والقرائن، سواء كانت من داخل النص أو من خارجه.
فإذا ثبت أن مقصوده هو ظاهره وعمومه، وقف عنده وأخذ به، وإذا ثبت أن المعنى المقصود هو غير الظاهر الحرفي للنص، فالعمل إنما هو بالمعنى المقصود، لا بالظاهر الملفوظ.
وقد أورد ابن بطال القرطبي حديث عائشة في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأزواجه: «أَسْرَعُكن لحاقا بي أطولكن يدا». ثم نقل قول المهلب: “اليد في هذا الحديث: الإنعامُ والإفضال. وفيه: أن الحكم للمعاني لا للألفاظ، بخلاف قول أهل الظاهر” .
وفي حديث الصحيحين عن حذيفة رضي الله عنه قال: (لقد خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم خطبة ما ترك فيها شيئا إلى قيام الساعة إلا ذكره…)، قال العلامة محمد أنور شاه الكشميري: “واعلم أن العموم قد يكون مدلولا، ولا يكون مقصودا، وهذا هو عموم غير مقصود، فاعلمه. فإنه قد زلَّت فيه الأقدام، وتحيرت منه الأحلام… فإذا دريتَ أن العموم قد لا يكون مقصودا، فلا تتعلق بالألفاظ” .
علما بأن مثل هذا التجاوز للدلالات الحرفية للكلام، إلى مقاصد يفهمها النبهاء، ليس بالقدر القليل أو الاستثنائي في النصوص الشرعية، وفي أساليب اللسان العربي عامة، بل هو الغالب فيها. ولذلك كان قصد المتكلم ومقصِده هو المعول عليه، سواء وافق الظاهرَ أو خالفه. ومن له خبرة ودراية بالخطاب العربي يميز ذلك بسياقاته وقرائنه، المقالية والمقامية. قال ابن القيم “وقد كانت الصحابة أفهمَ الأمة لمراد نبيها وأتبعَ له. وإنما كانوا يدندنون حول معرفة مراده ومقصوده، ولم يكن أحد منهم يظهر له مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يعدل عنه إلى غيره البتة” .
وعلى هذا جماهيرُ العلماء من السلف والخلف.. قال الشاطبي: “وهو الذي أَمَّـهُ أكثر العلماء الراسخين” .
والمستوى الثاني، النظر في المقاصد المصلحية:
يبحث في الحِكم والمصالح المقصودة من السنن النبوية، قولا كانت أو فعلا أو تقريرا. وهنا أيضا نجد اتجاهين مماثلين للاتجاهين السابقين في المستوى الأول، أو هما هما..
الأول: يرى أن السنن النبوية كلها وحي منزل من الله تعالى، لنتعبده بها، لا أقل ولا أكثر.
أما تعليل نصوصها وتقصيدُها، وتوجيهُ معانيها وتأويلُها، بالنظر والاجتهاد، واستعمال القواعد والقرائن المختلفة، فهو مرفوض عندهم، بل يعتبرونه افتئاتا وتقولا على الله تعالى.
الثاني: هو ما عليه عامة فقهاء المذاهب الأربعة، على تفاوت بينهم في ذلك. فهم يعتقدون أن “الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد، في المعاش والمعاد. وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها. فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل” .
• حديث بني قريظة بين أهل الظواهر وأهل المقاصد
في صحيح البخاري، عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لنا لما رجع من الأحزاب: لا يصلينّ أحد العصر إلا في بني قريظة. فأدرك بعضَهم العصرُ في الطريق. فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها. وقال بعضهم: بل نصلي، لم يردْ منا ذلك. فذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعنف واحدا منهم.
وفي صحيح مسلم، عن عبد الله قال: نادى فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم انصرف عن الأحزاب: «أن لا يصلين أحد الظهر إلا في بنى قريظة». فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة. وقال آخرون: لا نصلى إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن فاتنا الوقت. قال: فما عنَّفَ واحدا من الفريقين.
لهذا الحديث أهمية أصولية كبيرة..
فقد استنجد به “المصَوِّبة”، القائلون بأن كل مجتهد مصيب. وردَّ عليهم “المخَطِّئة” القائلون بأن المصيب من المجتهدين المختلفين واحد، وغيره مخطئون، ردوا بأن الحديث ليس فيه تصويب الفريقين، وإنما فيه فقط كونُ المجتهد المخطئ معذورا ولا تثريب عليه.
وفي موضوعنا: تجاذبه أهل الظاهر وأهل المقاصد. واعتبره كل فريق حجة له، وحجة على الطرف الآخر!
ورغم أن الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم “لم يعنف واحدا من الفريقين”، فالجميع اتفقوا على أن ذلك لا يعني التسوية بين من صلَّوا قبل بني قريظة، حفاظا على الوقت، ومن لم يصلُّوا حتى وصلوا إلى بني قريظة، امتثالا لظاهر الأمر النبوي.
وعليه، فأهل المقاصد يرون الصواب والأفضلية مع الذين أدَّوْا صلاة العصر في وقتها، وحصلوا مقصود الأمر النبوي فوصلوا إلى بني قريظة بأسرع ما يمكن. وبذلك حازوا الحسنيين والأجرين..
وأهل الظاهر يرون الصواب والأفضلية مع الذين أخروا الصلاة إلى حين وصولهم بني قريظة، لكونهم نفذوا الأمر النبوي بالتمام والكمال.
ولعل أقوى المدافعين عن الرأي الأول هو ابن قيم الجوزية في (زاد المعاد). فقد تبنى ونصر رأي القائلين بأن الذين أدَّوا صلاة العصر في الطريق، أي في وقتها، هم الذين “حازوا قَصَبَ السَّبْقِ، وكانوا أسعدَ بالفضيلتين؛ فإنهم بادروا إلى امتثال أمره في الخروج، وبادرُوا إلى مرضاته في الصلاة في وقتها، ثم بادرُوا إلى اللِّحاق بالقوم، فحازوا فضيلةَ الجهاد، وفضيلةَ الصلاة في وقتها، وفهِمُوا ما يُراد منهم، وكانوا أفقهَ من الآخرين، ولا سيما تلك الصلاةَ، فإنها كانت صلاة العصر، وهى الصلاةُ الوسطى بنصِ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح الصريح، الذى لا مدفعَ له ولا مطعن فيه، ومجيء السُّنَّة بالمحافظة عليها، والمبادرة إليها، والتبكير بها، وأن مَن فاتته، فقد وُتِرَ أهله وماله، أو قد حَبِطَ عملُه، فالذي جاء فيها أمرٌ لم يجىء مثلُه في غيرها. وأما المؤخِّرون لها، فغايتهم أنهم معذورون، بل مأجورون أجراً واحداً لتمسُّكِهم بظاهر النص، وقصدهم امتِثَال الأمر، وأما أن يكونوا هم المصيبين في نفس الأمر، ومَن بادر إلى الصلاة وإلى الجهاد مخطئاً، فحاشا وكلا، والَّذِينَ صلَّوْا في الطريق. جمعوا بين الأدلة، وحصَّلُوا الفضيلتين، فلهم أجران. والآخرون مأجورون أيضاً رضى الله عنهم” .
وأما أقوى المدافعين عن رأي الظاهرية فلن يكون سوى ابن حزم القرطبي، الذي قال: “ولو أننا حاضرون يوم بني قريظة لما صلينا العصر إلا فيها، ولو بعد نصف الليل” . فهو يرى أن هذه الطائفة “مصيبة مأجورة أجرين. والأخرى مجتهدة مأجورة أجرا واحدا، معذورة في خطئها بالاجتهاد، لأنها لم تتعمد المعصية” .
وأهم حجج ابن حزم هي :
– أولا: الأخذ بظاهر النطق النبوي وعدمُ مخالفته..
– وثانيا: الأمر بالصلاة في بني قريظة، هو أمر خاص لمرة واحدة معينة، والأمر بأداء الصلوات في وقتها هو أمر عام مؤبد، فيُحمل العام على الخاص، وتكون صلاة العصر في ذلك اليوم استثناء، فوجب الالتزام بهذا الأمر الاستثنائي. وبهذا نجمع بين أداء الصلاة في وقتها في عامة حياتنا، ونؤدي الصلاة لمرة واحدة في مكانها المحدد، ولو بعد وقتها الاعتيادي، تنفيذا لهذا الأمر الاستثنائي.
خلاصة المسألة حكماً ومنهجا..
وهي تكمن في الجواب على هذه الأسئلة:
– هل الأمر النبوي للصحابة بأن لا يصلوا العصر – أو الظهر – إلا في بني قريظة معلل أو تعبدي؟
– وإذا كان تعبديا، كما هو الجواب الحتمي والوحيد عند ابن حزم، فهل الصلاة في بني قريظة لها – في ذاتها – بركة تعبدية ومزية دينية على الصلاة في الوقت؟
– وإذا كان الاختيار الجازم الحازم لابن حزم هو صلاة العصر في بني قريظة، ولو بعد منتصف الليل، فما العمل في صلاة المغرب وصلاة العشاء؟ هل يصليهما في وقتهما قبل بني قريظة؟ فتكونان قد صُليتا قبل صلاة العصر! أم يؤخرهما أيضا إلى بني قريظة، فيكون قد خالف ظاهر الأمر النبوي؛ لأنه ليس فيه إلا صلاة العصر (أو الظهر، على الرواية الأخرى)، فبأي دليل يؤخر المغرب والعشاء عن وقتهما؟
لست أدري ما عسى أن تكون إجابات ابن حزم ومن يقول بقوله في هذه المسألة؟
أما على منهج: الأمور بمقاصدها، وأن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ، وأن اللفظ تابع لقصد المتكلم، وليس العكس.. فالجواب هو ما يلي..
1. الأمر النبوي بألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، كان واضحا من سياقه وسباقه أن مقصوده الإسراع والسعي إلى بلوغ بني قريظة قبل انصرام وقت العصر، وأن الصلاة في بني قريظة لم تطلب منهم لذاتها. وهذا ما صرح به الصحابة الذين صلوا قبل بني قريظة. ففي رواية البخاري المتقدمة “وقال بعضهم: بل نصلي، لم يردْ منا ذلك”، أي الصلاة حتما في بني قريظة ولو فات الوقت. وليس في الحديث أن الآخرين ردوا على هذا الفهم وهذا التعليل..
2. تسلسل الأحداث في هذه النازلة، يدل دلالة واضحة على أن المقام هو مقام التدبير الحربي، الذي يتطلب الاستنفار والمبادرة والإسراع والمباغتة..
قال ابن القيم: “فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة (أي بعد عزوة الأحزاب)، لم يكن إلا أن وضع سلاحه، فجاءه جبريل فقال: أوضعتَ السلاح؟ والله إن الملائكة لم تضع أسلحتها؟!، فانهض بمن معك إلى بني قريظة، فإني سائر أمامك أزلزل بهم حصونهم وأقذف في قلوبهم الرعب. فسار جبريل في موكبه من الملائكة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على أثره في موكبه من المهاجرين والأنصار. وقال لأصحابه يومئذ: [لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة]. فبادروا إلى امتثال أمره ونهضوا من فورهم، فأدركتهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصليها إلا في بني قريظة، كما أمرنا، فصلوها بعد عشاء الآخرة. وقال بعضهم: لم يرد منا ذلك، وإنما أراد سرعة الخروج. فصلَّوها في الطريق…” .
3. اعتاد الصحابة – وخاصة الأكثر صحبة منهم – على أن التدابير النبوية في إدارة الشؤون العسكرية، هي في غالبها اجتهادات قيادية منه صلى الله عليه وسلم، وليست تعبدية ولا توقيفية. ولذلك روجع فيها أكثر من مرة، فقبل المراجعة والتعديل. وهذا يدخل ضمن ما يسمى: تصرفات النبي صلى الله غليه وسلم بالإمامة، وهي كلها تصرفات مصلحية ومعللة، ويجب التعامل معها على هذا الأساس، لا على أساس التعبد والتوقيف.
4. الأخذ بظواهر الأوامر النبوية وحرفيتها، دون اعتبار لمعانيها ومقاصدها، وخاصة في المجال الحربي، قد يكون مَهلكة. وهاكم المثال لذلك.
ففي صحيح مسلم: عن علي قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، واستعمل عليهم رجلا من الأنصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا. فأغضبوه في شيء، فقال: اجمعوا لي حطبا. فجمعوا له. ثم قال: أوقدوا نارا، فأوقدوا. ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى. قال: فادخلوها. قال: فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار.
فكانوا كذلك، وسكن غضبه، وطفئت النار.
فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لو دخلوها ما خرجوا منها؛ إنما الطاعة في المعروف».
فلا أدري هل سيقول ابن حزم رحمه الله: لو حضرنا هنالك لدخلنا تلك النار، امتثالا لظاهر الأمر النبوي؟!
5. ومن هذه المهالك أيضا: تمسك بعضهم بالمعنى الحرفي الجامد لمعنى “الرمي” المذكور في حديث الإمام مسلم، عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على المنبر يقول: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي».
وعنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه قال: «مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ، ثُمَّ تَرَكَهُ، فَلَيْسَ مِنَّا» أَوْ: «قَدْ عَصَى».
وعند أبي داود وابن حبان “أن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثةً الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومنبله…”.
تفسير الجمهور وتفسير بعض الظواهريين..
فالجمهور على أن السهام والنبال ليست مقصودة لذاتها، وليس الرمي بها مطلوبا بعينه، وإنما المقصود كل الأدوات والأسلحة الفعالة في القتال.. فهي تُدخل الجنة صانعَها ومستعملها والممدَّ بها.
وقال العلامة محمد انور شاه الكشميري (المتوفى ستة 1353هـ): “والتحريضُ على الرَّمْي كان في الزمان الماضي، وأما اليوم فينبغي أن يكونَ على تَعَلُّم استعمالِ الآلات التي شاعت في زماننا، كالبندقية، والغاز. ومن الغباوة الجمودُ على ظاهر الحديث؛ فإِنَّ التحريض عليه ليس إلا الجهاد، وليس فيه معنىً وراءه؛ ولما لم يق الجهادُ بالأقواس لم يبق فيها معنىً مقصودٌ، فلا تحريض فيها”.
قال: “ومن هذه الغباوةِ ذهبت سَلْطنةُ بخارى، حيث استفتى السلطانُ علماءَ زمانه بشراء بعض الآلات الكائنة في زمنه، فمنعوه، وقالوا: إنَّها بِدْعة؛ فلم يدَعوه أن يشتريها حتى كانت عاقبة أَمْرِهم أنهم انهزموا، وتسلَّط عليهم الرُّوسُ. ونَعوذُ بالله من الجهل» .
ولو عاش العلامة الكشميري في زماننا لقال: إن الرمي المأمور به في الحديث، إنما يتحقق باستعمال الصواريخ الموجهة، وراجمات الصواريخ، والطائرات المقاتلة، والطائرات المسيَّـرة..
وختاما
– فإن فهم مقاصد السنن والأحاديث النبوية – الدلالية والمصلحية – يتوقف على ربطها وتنسيق معانيها مع الكليات والمقاصد الشرعية العامة، المتواترة في القرآن والسنة.
– وإن العبارات والألفاظَ متى حملت لنا المعاني المقصودة، وفهمناها منها على المعهود في اللسان العربي، وعلى ما يوافق مقاصد الشرع.. فالأولوية لمقاصد الخطاب ومعانيه، لا لألفاظه ومبانيه. قال العلامة الكشميري: “فدَعِ العباراتِ وخُذْ بالمرادِ، فإنَّ ذلك سبيلٌ السداد. ومَنْ لا يراعِي أساليبَ الكلامِ يختبِطُ بكلِّ واد” ..
– وإن حديث بني قريظة يدل على أن الأخذ بطواهر النصوص الشرعيىة قد يكون أصحابُه معذورين ولا مؤاخذة عليهم، لكون هذا الاحتمال قويا أو قريبا، وفيه وجه ما من الصواب، ولو لم يكن هو الصواب وهو المقصود.
– وجميع العلماء الذين يَعتبرون المعانيَ والمقاصد ويقدمونها، كثيرا ما يأخذون في بعض النصوص بظواهرها، باعتبارها هي عين المقصود. وقد يكون الظاهر في بعضها هو قول الجمهور، أو يكون مجمعا عليه.
– وإنما المشكلة في اعتماد الظاهر منهجا عاما مطردا في فهم الشريعة وجميع نصوصها، ورفضِ أي تقصيد أو تأويل خلافَ الظاهر اللفظي. وهذا ما لا دليل عليه، لا في حديث بني قريظة، ولا في سواه. بل الأدلة متضافرة على ضده. ولذلك قال ابن العربي: “فإن في اتباع الظاهر على وجهه هدمَ الشريعة، حسبما بيناه في غير ما موضع” .