هذه المقالة مأخوذة من كتاب : مقاصد الصوم وأحكامه وفق المذهب المالكي للمؤلف، وهو من إصدارات حركة التوحيد والإصلاح.
زكاة الفطر من الأعمال الواجبة عند نهاية رمضان ولها عدة أحكام نوضحها من خلال الإجابة عن الأسئلة التالية:
- ما المراد بزكاة الفطر؟ وعلى من تجب؟ وما حكمتها ومن يؤمر بإخراجها؟
- ما القدر الواجب فيها؟
- متى تجب؟ وما حكم إخراجها قبل وقتها أو تأخيرها عنه؟
- هل يجوز إعطاء القيمة في زكاة الفطر؟ وكيف تقوم؟
الجواب عن السؤال الأول:
زكاة الفطر فريضة فرضها النبي عليه السلام على المسلمين، تُخرج عند نهاية رمضان، وسُميت بزكاة الفطر تمييزا لها عن الزكاة الركن التي تجب وفق شروط ليس هنا محل ذكرها. ورأى المالكية وغيرهم أن زكاة الفطر تجب على الصغير والكبير ، الذكر والأنثى من المسلمين. واستدلوا على ذلك بما رواه مَالِك عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ”[1]. ولم يشترط لها المالكية نصابا، فكل من بقي عنده قوت يومه بعد إخراجها فإنه يخرجها ولو كان فقيرا. أما مقصدها وحكمتها فهي أولا التكفير عما صدر من الصائم مما يتنافى مع الصوم، ومن جهة أخرى فهي تُحقّق مقصد إشاعة التكافل بين المسلمين وإشراك الفقراء في فرحة العيد وجعلِهم يستغنون عن السؤال في يومه. روى أبو داوود عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما – قَالَ: ” فَرَضَ رَسُولُ اللهِ – صلى اللهُ عليه وسلَّم – زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ”.
وأما من يؤمر بإخراجها فهو الذي تلزمه نفقة الأسرة، كالزوج مع زوجته، والأب مع أبنائه، والأبناء مع أبيهم أو أمهم حين تلزمهم نفقتهم. قال مالك : ” أَحْسَنَ مَا سَمِعْتُ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ زَكَاةِ الْفِطْرِ أَنَّ الرَّجُلَ يُؤَدِّي ذَلِكَ عَنْ كُلِّ مَنْ يَضْمَنُ نَفَقَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ”[2]. وقد يدخل في ذلك نفقة الخادم في البيت.
الجواب عن السؤال الثاني مقدار الواجب فيها :
رأى المالكية أن القدر الواجب من زكاة الفطر هو صاع من طعام عن كل فرد، والصاع يساوي تقريبا 2 كيلو و 500 جرام. واستدلوا على ذلك بحديث ابن عمر سالف الذكر، وكذلك بما رواه مَالِك عَن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قال:” كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ وَذَلِكَ بِصَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”.[3] . أما الطعام الذي تخرج منه الزكاة فهو غالب قوت أهل البلد ، فإن كان قوت الفرد أفضل كمن يغلب على قوته التمر وهو أجود وأغلى من الشعير فإنه يستحب له أن يخرج منه. روى مَالِك عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يُخْرِجُ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ إِلَّا التَّمْرَ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ أَخْرَجَ شَعِيرًا”[4]. وقال الباجي في شرح الموطأ: ” إِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْأَقْوَاتُ بَعْضُهَا أَرْفَعُ مِنْ بَعْضٍ فَعَلَى أَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ أَنْ يُخْرِجُوا مِنْ غَالِبِ قُوتِهِمْ وَأَكْثَرِ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي جِهَتِهِمْ ، فَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يَقْتَاتُ بِغَيْرِ مَا يَقْتَاتُ بِهِ أَهْلُ بَلَدِهِ فَيُنْظَرُ فَإِنْ اقْتَاتَ أَفْضَلَ مِنْ قُوتِهِمْ فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ قُوتِهِ فَإِنْ أَخْرَجَ مِنْ قُوتِ بَلَدِهِ أَجْزَأَهُ…”[5]. ومن جهة أخرى فإن واقع الأسر اليوم يشهد أن الخبز وإن كان غالب طعام الناس، إلا أنهم لا يقتصرون في موائدهم عليه، بل إنها تتضمن أنواعا كثيرة من الطعام فيها التمر واللحم والفواكه ، ولذلك ينبغي لمن وسع الله عليه أن يتطلع إلى الاقتداء ببعض سلف الأمة كعبد الله بن عمر ممن كانوا يخرجون الأفضل من قوتهم لا قوت بلدهم.
الجواب عن السؤال الثالث حول وقت وجوبها وحكم إخراجها قبله أو تأخيرها عنه
اتفق الفقهاء على أن وقت وجوب زكاة الفطر هو نهاية رمضان، مع اختلاف طفيف هل يكون بغروب آخر يوم من رمضان أم طلوع الفجر . قال الباجي: ” اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ فِي وَقْتِ وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ فَرَوَى عَنْهُ أَشْهَبُ أَنَّهَا تَجِبُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ رَمَضَانَ وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَمُطَّرِفٌ تَجِبُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ شَوَّال”[6]. وتظهر فائدة الخلاف في ترتبها في الذمة لمن ولد له قبل الفجر أو مات قبله فعلى رواية الوجوب بعد الفجر فلا تجب على المولود قبل الفجر ولا على من مات قبله، بينما تجب لمن قال بأن الوقت بعد غروب الشمس من آخر يوم من رمضان . وحجة من قال بوجوبها بغروب شمس آخر يوم من رمضان حديث ” فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ” فَأَضَافَهَا إِلَى الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ وَحَقِيقَتُهُ أَوَّلُ فِطْرٍ يَقَعُ فِي زَمَانِ شَوَّالٍ وَهُوَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ رَمَضَان.
واختلف الفقهاء في إخراج زكاة الفطر قبل وقت الوجوب على أقوال كثيرة ، فمنهم من منع التقديم ومنهم من جوز إخراجها من أول يوم من أيام رمضان، ومنهم من رأى الجواز ابتداء من النصف ومنهم من جوز ذلك قبل العيد بيومين أو ثلاث فقط [7]. ورأى المالكية مشروعية إخراجها قبل وقت الوجوب تيسيرا على من يتولى جمعها وتفريقها، ولتصل إلى أصحابها في الوقت المناسب. بوّب مالك في الموطأ: ” بَاب وَقْتِ إِرْسَالِ زَكَاةِ الْفِطْرِ”[8]، ويُفهم من الترجمة أن الإنسان حين يفضل إرسالها لمن يتولى توزيعها سواء الإمام أو غيره ممن له معرفة بالمحتاجين والمساكين، فإنه يمكن إرسالها قبل وقت الوجوب. روى مالك عن نَافِعٍ : ” أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَبْعَثُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ إِلَى الَّذِي تُجْمَعُ عِنْدَهُ قَبْلَ الْفِطْرِ بِيَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ”[9]. واستنبط فقهاء المالكية من هذه الآثار جواز تقديم الزكاة عن يوم العيد باليومين أو الثلاث لما فيه من المصلحة المعتبرة. وإذا كانت تلك المدة كافية لزمان عبد الله بن عمر حيث قلة كثافة سكان المدينة وسهولة التواصل، فإن مصلحة إيصالها للمحتاجين قبل يوم العيد ليستفيدوا منها في زماننا يرجح القول بجواز التقديم، بحسب ما يُمكّن القائمين من جمعها وتوزيعها وقد يصل إلى أسبوع أو أكثر، لكن يُفضل تأخير تسلميها لمستحقيها إلى اقتراب العيد لتحصل الحكمة منها وهي إغناء الفقراء عن السؤال يوم العيد. وعلق الباجي على فعل ابن عمر فقال: ” قَوْلُهُ كَانَ يَبْعَثُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ إِلَى الَّذِي تُجْمَعُ عِنْدَهُ يُرِيدُ أَنَّهُ كَانَ يَبْعَثُ بِهَا إِلَيْهِ لِتَكُونَ عِنْدَهُ إِلَى أَنْ يَجِبَ خُرُوجُهَا فَيُخْرِجُهَا عَنْهُ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ نَصَّبَ لَهَا الْإِمَامُ أَوْ مَنْ كَانَ إِلَيْهِ الْأَمْرُ رَجُلًا يُرْسِلُ إِلَيْهِ بِهَا فَتَجْتَمِعُ عِنْدَهُ حَتَّى يَضَعَهَا فِي وَقْتِهَا“[10]. ونقل ابن أبي زيد القيرواني في النوادر عن مالك أنه قال: ” وإذا كان الإمام عَدلاً، ولا يدخل زكاةَ الفطرِ عنده تضييعُ، فإرسالها إليه واجبٌ، وكذلك إنْ كان لها قومٌ تجمعُ إليهم ويفرّقونها”[11].
ومما يعزز القول بمشروعية إخراج زكاة الفطر قبل موعدها، ووضعها عند الجهات التي تتولى جمعها وتوزيعها ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ” وَكَّلَنِي رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فأتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فأخَذْتُهُ، وقُلتُ: واللَّهِ لَأَرْفَعَنَّكَ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قَالَ: إنِّي مُحْتَاجٌ، وعَلَيَّ عِيَالٌ ولِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، قَالَ: فَخَلَّيْتُ عنْه، …..”[12] وقد تكرر فعل السائل ثلاثة أيام، وهو ظاهر في جمع الزكاة قبل موعدها ووضعها عند من يقومون على توزيعها. ونقل ابن رشد نصا لمالك فيه قيام أحد عمال عمر بن عبد العزيز بجمع زكاة الفطر وتوزيعها على مستحقيها، قال فيه: “بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز كتب إليه يخبره أنه اجتمع عنده من زكاة الفطر شيء كثير ، وأن ذلك لما رجوا من عدل أمير المؤمنين”[13]. والشاهد من القصة – وإن وقع الخلاف كما ذكر ابن رشد هل هي زكاة مال أم زكاة فطر- مشروعية جمع زكاة الفطر عند القائمين على توزيعها، وهو ما تقوم به المراكز الإسلامية في ديار الغرب، ويرجى تشجيع الجمعيات الاجتماعية على فعله بالتنسيق مع المؤسسات الرسمية في كافة بلاد الإسلام.
إن الأمثلة السابقة تفيد مشروعية قيام الدولة المسلمة بنصب من يتولون جمع زكاة الفطر خاصة وزكاة المال عامة، واختيار الثقات ممن يُشرفون على جمعها وتوزيعها على المستحقين لها. وإنه لو قدرنا عدد سكان المغرب من المسلمين ثلاثين مليون نسمة، يخرج منهم خمسة وعشرون مليون نسمة زكاة الفطر ممن يجدون فضلا عن قوت يومهم، فإن مقدار ما يجمع من الزكاة، لو كان الواجب هو خمسة عشرة درها سيصل إلى 375 مليون درهم، وهو مبلغ محترم يُسهم في تحقيق التكافل بين الناس.
إن المشهور عند المالكية أفضلية تأخير إخراجها إلى يوم العيد لمن وليها بنفسه ولم يرسلها للجهات التي تقوم على جمعها. قال ابن أبي زيد القيرواني: ” ومَن وَلِيَ إخراجها بنفسه، ولا يعدلُ مَن يليها، فأحسنَ له أَنْ يخرجها قبل أَنْ يخرج على المُصلَّى يوم الفطر، ومَن أخرجها قبله بيسيرٍ، أجزأه عند المصريين من اصحاب مالكٍ ولم يُجْزِئُهُ عند عبدِ الملكِ، إلا أنْ يبعث بها إلى مَن تُجتمع عنده”[14]. لكن إعمال قواعد المصلحة والتيسير على الناس يرجح كما سبقت الاشارة جواز أن يخرجها المكلف عن نفسه وعمن تلزمه نفقتهم قبل وقت وجوبها، خاصة إن رأى صعوبة انتظار الوقت المفضل لإخراجها، ولو أرسلها للجهات المكلفة لكان أفضل في اتباع المذهب.
ومن جهة أخرى وفي ظروف مشابهة لواقع الحجر الصحي في أيامنا هذه[15]، فإنه يمكن للمسافر العالق في بلد آخر أن يوكل من يخرجها عنه وعن أسرته إن رأى مصلحة أن تخرج هناك لوجود الفقراء، أو أن يخرجها هو عن نفسه وعمن تلزمه نفقتهم ويخبر أسرته بذلك. قال ابن رشد: ” وسئل عن الرجل يغيب عن أهله ، أيؤدي زكاة الفطر بموضعه الذي هو به ؟ فقال أما عن نفسه ، فأرى أن يؤدي عنها زكاة الفطر – ههنا ، لأنه لا يدري أيؤدي عنه أم لا ؟ قيل له فيؤدي عن عياله ؟ قال تشتد عليه النفقة ، فأما أهله فأرى له أن يؤخرهم ، فلعلهم أن يكونوا قد أدوا عن أنفسهم ؛ فأما هو فأرى أن يؤدي عن نفسه ، لأنه لا يدري لعل أهله لا يؤدون عنه”[16]. ومرد هذا التدقيق من ابن رشد انعدام إمكانية التواصل عن قرب في زمانهم، أما بالنسبة لنا اليوم فإن الإنسان يخرج الزكاة من منزله بوسائل الاتصال الحديثة ويخبر بها أهله وأقاربه.
أما من أخر زكاة الفطر لما بعد صلاة العيد فإنها تجزؤه لكنه حرم نفسه من فضيلتها الثابتة لمن أخرجها قبل العيد . والدليل على ذلك حديث أبي داود سالف الذكر وفيه أنه عليه السلام قال : ” مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ ، فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ “
الجواب عن السؤال الرابع حول مشروعية إخراج القيمة ؟
من القضايا التي تثار باستمرار مع اقتراب عيد الفطر مسألة إخراج القيمة في زكاة الفطر عوضا عن القوت الوارد في الحديث. ولن نستطيع حسم الخلاف القديم حولها، لكن سنسعى إلى بسط أدلة القائلين بمشروعية إعطاء القيمة، وبيان أنه رأي معتبر قال به ثلة من أهل الفضل والعلم من المالكية ومن غيرهم يُطمئنُّ لعلمهم. أما من اختار التمسك بالنص وعدم الخروج عليه فله ذلك، وهو مأجور على نيته.
تندرج هذه المسألة ضمن مسألة أكبر تتعلق بأي الأمرين أولى: الوقوف مع النصوص دون الالتفات إلى مقاصدها وغاياتها، أم الحرص على تحقيق المقصد الذي شرع لأجله الحكم؟ وهو خلاف قديم بين الفقهاء من جُل المدارس. وقد أشار له الإمام المازري عند مناقشة مسألة الطهارة بالمائعات غير الماء كالخل أو ماء الورد، حيث أورد تعليل المالكية والشافعية في القصر على الماء لأنهم رأوا:” أنها وإن كانت عبادة معقول معناها معلوم أن الغرض بها زوال عين فيجب قصرها على مورد الشرع. يتعلق فيها بتخصيص النصوص ويكون ذلك أولى من الاسترسال على حكم الغرض”[17]. بينما رأى الحنفية أن : ” اتباع قصد الشرع والجري على حكم القياس فيه أولى”[18]. ثم أدرج المازري الاختلاف في قضية إخراج القيمة في الزكاة وخاصة زكاة الماشية التي ورد فيها تحديد العين وقال: “ونظير اختلافهم في هذه المسألة الاختلاف أيضًا في مسألة إخراج القيم عن الزكاة. لأن الشرع جاء بإخراج الزكاة وعلم أن القصد بها سد خلة المساكين. ولكن الشرع نص على أعيان تخرج كبنت المخاض والحقة. فمن أَتبع مواقع التخصيص ولم يلتفت إلى المقصود، منع من إخراج القيم. ومن اعتبر المقصود وجرى معه أجاز إخراج القيم لأنها تسد خلة المساكين كما تسده بنت المخاض والحقة“[19].
إن الخلاف في هذه المسألة سيبقى إلى ما شاء الله، لكن من نظر للتحولات الاقتصادية والاجتماعية، سيجد أن موقف الحنفية الذي يميل إلى مراعاة المقصد واعتباره في الحكم هو الأقرب لواقع العصر ولما سيأتي مستقبلا. إن بعض الجمعيات الاسلامية في أوروبا كانت تنتصر لرأي الجمهور، وتجمع زكاة الفطر العينية ( الدقيق، الأرز …) في مقراتها لتوزعه على المساكين، فيجتمع لها قدر لا بأس به من ذلك، ولا يأتي له الفقراء ويضيع عندها ، لأنه لا يجوز لها بيعه ولا التصرف فيه بحسب قوانين البلد، فعدلوا عن ذلك إلى القيمة. وإن مصلحة المسكين لا تتحقق بأصوع ( جمع صاع) من القمح قد لا يجد الفقير محلُّ طحنها في الغالب، أما أكياس الدقيق فهي ليست قوت الناس ، وقليل منهم من يعجن في بيته، ويضاف لذلك أن الخبز لا يمثل في وجبات الناس اليوم سوى أقل من الثلث، بينما باقي المكونات فيها الخضر واللحم والفواكه وغيرها. لقد كانت الفتوى في وطننا سابقا هي التأكيد على الالتزام بالنص، لكن ابتداء من 2010 جوّز المجلس العلمي الأعلى إعطاء القيمة ، وأبرز في فتواه بعض إيجابيات الأخذ بها على المعطي والمستفيد.
ومن جهة أخرى فإن المالكية والشافعية لم يقفوا مع النص بكامل حرفيته، بل قالوا بإخراج الزكاة من غالب قوت أهل البلد بينما نص الحديث كما رواه مالك عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ:” أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ“[20]. فالحديث عين أطعمة محددة، لكنهم قاسوا عليها وقالوا بإخراج الزكاة من غالب قوت أهل البلد. وتوسع المالكية في الأقوات حينا، وضيّقوا حينا آخر. روى عيسى عن ابن القاسمِ، قال: “إن كان العَدَسُ أو الحمصُ عيشَ بلدٍ، فأخرج منه، قال: هذا لا يكون، فإن كان رجوت أَنْ يُجْزِئه. وقال مالكٌ في “المختصر”: يؤديها من كل ما تجب فيه الزكاة، إذا كان ذلك قوتَه.”[21] ونقل ابن أبي زيد من سماع ابنِ القاسمِ، عن قومٍ ليس طعامُهم إلا التين، قال: لا أرى أَنْ يؤدَّى منه[22]. مع أن التين هو قوتهم.
أما قول بعض أهل العلم أن النقود كان معمولا بها في العهد النبوي، ولم يرشد لها النبي عليه السلام ، فنقول بأن النقود وإن وجدت لم يكن لها الرواج الموجود اليوم، فلو أخذ المسكين النقود فإنه لا يجد المتاجر والأسواق لشراء ما يحتاجه من طعام وغيره في ذلك الزمان، وتتعطل حكمة إغناء الفقراء عن التطواف والسؤال يوم العيد، وهي وإن لم يصح بها الحديث[23] إلا أنها مقصودة باعتبار التأكيد على إخراج الزكاة قبل صلاة العيد.
أما قول من قال بتحريم إخراج القيمة ، وأنها لا تجزئ فهو مجانب للصواب وقد قال جماهير الأحناف بجواز إخراج القيمة، وهم يمثلون نسبة كبيرة من علماء الإسلام، وقد اختلف النقل عن مالك في إجزاء إعطاء القيمة واستدل القرطبي للإجزاء بآية مصاريف الزكاة وقال: ” قد قال تعالى: ” خذ من أموالهم صدقة ” [ التوبة: 103 ] ولم يخص شيئا من شئ”[24]. ونقل ابن أبي زيد القول بالإجزاء . قال ابن أبي زيد قال مالكٌ: ” ولا يُجْزِئُهُ أَنْ يدفع في الفطرةِ ثمناً. وقاله ابن القاسمِ في رواية أبي زيدٍ. قال عنه عيسى: فإن فعل لم أرَ به بأساً”[25].
إن الخلاف في المسألة قديم، وقد كتب العلامة أحمد بن الصديق الغماري الحسني منذ سنوات رسالة[26] بسط فيها وجوه مشروعية وأفضلية القيمة لزمانه وأوصل الأدلة لقرابة واحد وعشرين وجها. ومع ذلك فالعقول تتفاوت في قبول الأدلة، ولا أقل من أن يعذر المخالف أخاه إن ارتضى غير رأيه، وقد أنشد بعض المغاربة:
أخرج زكاة الفطر في الطعام مقتديا بسيد الأنـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــام
وغالب القوت طعام معتبـر والعرف مقبول لدى من قد غبر
والقصد إغناء الفقير عن سؤال في يوم عيد حاصلا على النوال
إخراجها نقدا حكاه البـــــــــــــــــــــــــــــــــــررة فاعجب لمن يصفهم بالفجـــــــــــــرة
ونجل تيمية ترى رأيه ظهــــــــــــــر أجازها نقدا لشدة الضـــــــــــــــــــــــــــــــرر
والنص أمران فلفظ قد ظهر وروحه مقصده الذي ظهـــــــــــــــــــــــــــر
والشرع يجلب المصالح كما يدفع عكسها كما قد علــــــــــــــــــــــــــــم
فليتسع صدر الفقيه للخلاف متى أتى معتبرا للإئتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلاف
[1] الموطأ، مالك، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر.
[2] الموطأ، مالك ابن أنس، كتاب الزكاة ، باب من تجب عليه الزكاة.
[3] الموطأ، مالك بن أنس، كتاب الزكاة ، باب مكيلة زكاة الفطر.
[4] الموطأ، مالك، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر.
[5] المنتقى، الباجي (2/ 145)
[6] المنتقى شرح الموطأ، الباجي.
[7] نيل الأوطار، الشوكاني، (4/ 249)
[8] الموطأ، مالك، كتاب الوكاة.
[9] الموطأ، مالك، كتاب الزكاة، باب وقت إرسال زكاة الفطر
[10] المنتقى، الباجي، كتاب الزكاة، باب وقت إرسال زكاة الفطر.
[11] النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات (2/ 313)
[12] صحيح البخاري، كتاب الوكالة، باب إذا أوكل رجل رجلا.
[13] البيان والتحصيل، ابن رشد الجد (17/ 154)
[14] النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات (2/ 314)
[15] بسبب جائحة كورونا التي عرفها العالم أواخر 2019 أقامت أغلب الدول حجرا صحيا، منعت من خلاله التنقل بين المدن ومع الدول، فصعب توزيع الزكوات بشكل سلس.
[16] البيان والتحصيل، ابن رشد الجد (2/ 497)
[17] التلقين، البغدادي، المجلد الأول، ص 463
[18] التلقين، البغدادي، المجلد الأول، ص 463
[19] التلقين، البغدادي، المجلد الأول، ص 463
[20] الموطأ، مالك بن أنس، كتاب الزكاة، باب زكاة الفطر.
[21] النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات (2/ 303)
[22] النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات (2/ 303)
[23] روى الدارقطني عَنِ ابْنِ عُمَرَ , قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ , وَقَالَ: «أَغْنُوهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ». عن سنن الدارقطني (3/ 89) لكن ضعفه بعض علماء الحديث.
[24] تفسير القرطبي (8/ 175)
[25] النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات (2/ 303)
[26] سماها: تحقيق الآمال في إخراج زكاة الفطر بالمال. وهي مطبوعة.