ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مذهب الإمام مالك:
أما مذهب الإمام مالك والمالكية، فمشهور قولهم: إن الشهادة على النكاح ليست شرطا في عقد النكاح، وإنما يكتفى بالإعلان حتى لا يدخل في زواج السر. فإذا لم يكن الزواج سرا، فالحاجة إلى الشهادة على النكاح لا تتعين على المتزوجين.
القائلون بأن الشهادة على النكاح للتوثق وليست شرطا:
وهم كثير كما هو مبسوط في كتب الفقه.
فممن قال بالنكاح من غير شهود من الصحابة:
* عمر بن الخطاب: (الحاوي: للماوردي).
* علي بن أبي طالب: (الحاوي: للماوردي).
* عبد الله بن عباس:(الحاوي: للماوردي).
* عبد الله بن عمر: قال ابن المنذر:” وقد روي عن ابن عمر أنه زوج ولم يحضر النكاح شاهدين”(الأوسط لابن المنذر. وانظر: المغني لابن قدامة، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي).
* وعبد الله بن الزبير: (الحاوي: للماوردي، المغني لابن قدامة، شرح الزركشي على مختصر الخرقي).
* والحسن بن علي: (بداية المجتهد، المغني لابن قدامة، شرح الزركشي على مختصر الخرقي).
وبابن عمر احتج أحمد، فقال الزركشي:” واحتج أحمد بأن ابن عمر زوج بلا شهود، ويروى ذلك أيضا عن ابن الزبير، والحسن بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ”( شرح الزركشي على مختصر الخرقي).
ووجه احتجاج الإمام أحمد بابن عمر بن الخطاب كونه زوج بلا شهود، أنه رضي الله عنه من أشد الصحابة تمسكا بالهدي النبوي كما هو معروف عنه.
وقال بعدم وجوب الشهادة في عقد النكاح من التابعين وغيرهم:
* سعيد بن المسيب(الحاوي: للماوردي).
* الحسن البصري(الحاوي: للماوردي).
* النخعي(الحاوي: للماوردي).
* الإمام مالك: قال القرطبي:” وأما الشهادة على النكاح فليست بركن عند مالك وأصحابه، ويكفي من ذلك شهرته والإعلان به، وخرج عن أن يكون نكاح سر”( تفسير القرطبي، وانظر: شرح الزرقاني على الموطأ).
** دواد الظاهري: (الحاوي: للماوردي).
** الليث: قال الطحاوي:” وقال الليث: يجوز النكاح بغير شهود”(مختصر اختلاف العلماء).
* رواية عن الإمام أحمد: (أنظر: المغني لابن قدامة، شرح الزركشي على مختصر الخرقي).
** سالم وحمزة ابنا عبد الله بن عمر(أنظر: المغني لابن قدامة).
** عبد الله بن إدريس(أنظر: الأوسط لابن المنذر).
** عبد الرحمان بن مهدي(أنظر: الأوسط لابن المنذر، المغني لابن قدامة).
** يزيد بن هارون: (أنظر: الأوسط لابن المنذر، المغني لابن قدامة).
** العنبري: (أنظر: المغني لابن قدامة).
** أبو ثور:(أنظر: الأوسط لابن المنذر، المغني لابن قدامة). قال ابن رشد:” وقال أبو ثور وجماعة: ليس الشهود من شرط النكاح”(بداية المجتهد).
** عبيد الله بن الحسن(أنظر: الأوسط لابن المنذر).
** ابن المنذر(أنظر: المغني لابن قدامة).
** وهو قول الزهري: (أنظر: المغني لابن قدامة).
بعض أقوالهم الصريحة:
* قال القاضي عبد الوهاب البغدادي رحمه الله تعالى:” يصح عقد النكاح من غير إشهاد، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي؛ لأنه عقد من العقود فأشبه سائرها، ولأنه معنى يقصد به التوثق، فلم يكن شرطًا في انعقاد النكاح كالرهن والكفالة، ولأن كل من لم يحتج إلى حضوره في إيجاب أو قبول لم يكن حضوره شرطًا في عقد النكاح أصله الزوجة. إذا ثبت أنه ليس بشرط في الصحة، فإنه شرط في الكمال والفضيلة”(المعونة).
* وقال ابن شاس:” وليس الإشهاد بركن في العقد ولا شرط فيه، نعم هو شرط في كمال العقد وجواز الدخول، والمقصود إعلان النكاح وإشهاره ليتميز من السر الذي هو الزنا. وإنما شرع الإشهاد لرفع الخلاف المتوقع بين الزوجين، وإثبات حقوقهما، فكانت كسائر الحقوق، لا تشترط الشهادة فيها شرعاً، وعلى هذا جرت أنكحة الصحابة رضي الله عنهم، ما كانت قط بشهادة، وإنما كانوا يعلنون لأمنهم التدارؤ بينهم”( عقد الجواهر الثمينة).
* وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، إذ قال رحمه الله تعالى:” ولو لم يكن بحضرة شهود، بل زوجها وليها، وشاع ذلك بين الناس، صح النكاح في مذهب مالك وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه. وهذا أظهر قولي العلماء، فإن المسلمين مازالوا يزوجون النساء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم بالإشهاد”( مجموع الفتاوى).
الشهادة توثيق:
ولأن الشهادة توثيق جازت عندهم شهادة الأعمى والأخرس والكافر…إذ المقصود هو التوثيق، وليست حكما شرعيا تستوجبها الديانة بعينها.
أدلتهم على عدم اعتبار الشهادة في عقد النكاح:
كثيرة هي أدلة الذين لم يجعلوا الشهادة على النكاح لازمة في كل عقد نكاح. أذكر منها:
الأدلة من المعقول:
1ـ التيسير في النكاح:
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
إن الأصل في النكاح تيسير أسبابه، وتشجيع الناس عليه من جميع أبوابه. ولذلك يصح عندهم بخطبة الرجل المرأة، وبخطبة المرأة الرجل، وبخطبة الأب لابنته، وبخطبة الآخرين للرجل أو المرأة، وبتقدم المسلم للتوفيق بينهما…وكل هذا وغيره مرعي فيه تيسير سبله. وباب التيسير لا يستقيم إلا مع التخفف من الشروط. وباب التعسير تستقيم معه كثرة الشروط والضوابط والاعتبارات…
2ـ عقد النكاح من العادات:
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
إن عقد النكاح من العادات لا من العبادات. ولذلك تجد الناس جميعا يلجأون إليه، الكافر كما المسلم…قال شيخ الإسلام:” والعقود في المعاملات هي من العادات يفعلها المسلم والكافر وإن كان فيها قربة من وجه آخر فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع كالعتق والصدقة..”( القواعد النورانية الفقهية).
وما كان هذا أصله ووضعه، فلا يجوز التشدد فيه وإدخاله في باب التعبد. يقول رحمه الله تعالى:” إن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: عبادات يصلح بها دينهم وعادات يحتاجون إليها في دنياهم. فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع.
وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه والأصل فيه عدم الحظر فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى…و العادات الأصل فيها العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه”( القواعد النورانية الفقهية).
وأكد رحمه الله تعالى أن العادات من مثل النكاح ينظر فيه إلى المصالح، ولا يحظر على الناس أي تصرف من التصرفات التي تحقق مصالحهم.
وأكد مرة أخرى هذا فقال:” وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه … وما لم يثبت من العادات أنه منهي عنه كيف يحكم عليه أنه محظور؟”(الفتاوى الكبرى).
فعقد النكاح ليس عبادة، وإنما هو من العادات.
كما أكد أن العبادات الأصل فيها الأمر، وهو الذي يسميه الشاطبي: التعبد. ويسميه الحنابلة: التوقيف.
3ـ الإشهاد في البيع لا في النكاح:
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
قال المجيزون عقد النكاح من غير شهود: إن الوارد في كتاب الله تعالى هو الإشهاد في البيع لا في النكاح. وليس من المعقول أن يعكس البعض الأمر بدعوى الاحتياط في الفروج، ثم يكون من معاكسة النص الشرعي: القول بالشهود في النكاح دون البيع. وهذا غير مقبول لمعاكسته الدليل الشرعي. قال يزيد بن هارون: أمر الله تعالى بالإشهاد في البيع دون النكاح، فاشترط أصحاب الرأي الشهادة للنكاح، ولم يشترطوها للبيع”( المغني لابن قدامة).
والأدلة من المنقول:
كثيرة هي بسبب كثرة الزواج في الأمة. أذكر منها:
1ـ زواج النبي صلى الله عليه وسلم بصفية من غير إشهاد على زواجه بها:
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
لقد جاء في الصحيحين: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى جارية بسبعة أرؤس…وقال الناس: لا ندري أتزوجها، أم اتخذها أم ولد؟ قالوا: إن حجبها فهي امرأته، وإن لم يحجبها فهي أم ولد، فلما أراد أن يركب حجبها، فقعدت على عجز البعير، فعرفوا أنه قد تزوجها”(متفق عليه).
قالوا: وهذا دليل في كون الصحابة لم يعلموا الزواج إلا بالحجاب، فدلَّ ذلك على أن الإشهاد ليس بشرط في عقد النكاح، ولو كان شرطا ما تركه صلى الله عليه وسلم. قال ابن المنذر: وقد أعتق النبي صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي فتزوجها بغير شهود(المغني لابن قدامة).
2ـ تزويج النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من غير شهود:
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وهي قصة مشهورة في الموهوبة، حيث قال له: زوجتكها بما معك من القرآن”(البخاري ومسلم).
قال الزركشي: ولم ينقل أنه أشهد”(شرح الزركشي على مختصر الخرقي).
2ـ زواج آمنة بنت ربيعة بن الحارث من غير شهود:
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
روى الإمام مالك بسنده: عن عباد بن سنان عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا أنكحك أميمة بنت ربيعة بن الحارث؟ قال: بلى قد أنكحتها ولم يشهد”(المدونة).
وهذا الخبر جلي في عدم الاعتداد بالإشهاد في عقد النكاح.
3ـ تزويج ابن عمر ابنته لعروة من غير شهود:
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
روى عبد الرزاق في مصنفه: عن حبيب مولى عروة بن الزبير قال: بعثني عروة إلى عبد الله بن عمر لأخطب له ابنة عبد الله، فقال عبد الله: نعم، إن عروة لأهل أن يزوج، ثم قال: ادعه. فدعوته، فلم يبرح حتى زوجه، فقال حبيب: وما شهد ذلك غيري، وعروة، وعبد الله، ولكنهم أظهروه بعد ذلك وأعلموا به الناس”( مصنف عبد الرزاق الصنعاني).
وقال ابن المنذر:” وقد روي عن ابن عمر أنه زوج ولم يحضر النكاح شاهدين”(الأوسط لابن المنذر).
4ـ تزويج الحسن بن علي عبد الله بن الزبير من غير شهود:
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
قال ابن المنذر وهو يذكر القائلين بجواز ذلك:” وروي أن الحسن بن علي زوج عبد الله بن الزبير، وما معهما أحد من الناس، ثم أعلنوه بعد ذلك”(الأوسط لابن المنذر).
الإشهاد على الدخول لا على العقد:
وهو مما اشتهر عن المالكية. حيث فرقوا بين العقد والدخول، فلم يشترطوا الشهادة في العقد، وإنما اشترطوها في البناء. قال الإمام مالك: إن عقد ولم يشهد لم يضره، ولكن لا يبني حتى يُشهد”( ).
وهذه التفرقة عند المالكية ومن قال بقولهم لم يعد لها معنى اليوم، لأن العقد ساعتها كان هو التعبير عن الرضا من جهة يسمى الإيجاب، ومن الجهة الثانية يسمى القبول، والغرض من ذلك هو التوثيق.
وأما اليوم فإن العقد وثيقة محررة معتمدة بذاتها دون الحاجة إلى غيرها. وهي كافية في اعتماد القضاء عليها، ضامنة لحقوق حامليها.
(يتبع إن شاء الله تعالى)