هذا الموضوع من موضوعات الخلاف المشهورة بين أهل العلم منذ القديم. وتمحور خلافهم بين قائل: إن الشهادة على النكاح حكم شرعي، وهو شرط لصحة عقد النكاح، فلا يصح من غير شهادة الشهود عليه.
سبب الخلاف في الشهادة في عقد النكاح:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قد صح عندنا في كتب أهل العلم أن الشهادة في النكاح تعرف مذهبين كبيرين:
الأول: هي شرط في صحة عقد النكاح.
الثاني: ليست شرطا في صحة عقد النكاح.
ويعود الخلاف بين هؤلاء وهؤلاء على سببين، هما:
السبب الأول: هل الشهادة حكم شرعي لا يجوز تجاوزه، أم أنه توثيق لا حرج فيمن لم يقم به؟
السبب الثاني: هل الأحاديث الواردة في الشهادة صحيحة أم أنها غير ثابتة؟
السبب الأول: هل الشهادة حكم شرعي لا يجوز تجاوزه، أم أنه توثيق لا حرج فيمن لم يقم به؟
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
فمن قال من أهل العلم: إن الشهادة للتوثيق فقط، لم يشترطها للقول بصحة عقد النكاح، فهو عنده مثل البيع والرهن والمساقاة…وغيرهما من العقود التي لا يشترط لصحتها الإشهاد عليها.
فهذا ما يتعلق بالسبب الأول في الخلاف. يقول الحفيد نجل رشد:” وسبب اختلافهم: هل الشهادة في ذلك حكم شرعي؟ أم إنما المقصود منها سد ذريعة الاختلاف أو الإنكار؟ فمن قال: حكم شرعي، قال: هي شرط من شروط الصحة. ومن قال: توثق، قال: من شروط التمام”( بداية المجتهد).
وحيث إنها للتوثيق عند قوم كما سيأتي معنا ذكرهم، اكتفوا بغيرها من وسائل التوثيق كالإعلان…وغيره.
وعليه، إذ وقع الخلاف، فكلمة الراسخين أن ذلك واسع. قال ابن القاسم: كل نكاح اختلف فيه ليس بحرام”( البيان والتحصيل: ابن رشد).
وهذا الخلاف هو الذي دفع ابن رشد للرد على من قال بأن الشهادة على صحة النكاح مجمع عليها، فقال في رده عليهم:” وكثير من الناس رأى هذا(أي الشهادة داخلا في باب الاجماع) وهو ضعيف”( بداية المجتهد).
السبب الثاني: هل الأحاديث الواردة في الشهادة صحيحة أم أنها غير ثابتة؟
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
فإذا استبان لنا أن الخلاف قائم في نوع وحقيقة الشهادة في النكاح كما قد سبق. فلنعد إلى ما يروج من أحاديث الشهادة في النكاح، وما هي درجتها، حتى نثبت عرشها أولا قبل الدخول في نقشها ثانية. وأشهر هذه الأحاديث، قوله صلى الله عليه وسلم: لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل”( ) برواياته المختلفة.
لقد تناول العلماء الحديث في باب شهادة الشهود في النكاح. وطريقتهم المعلومة أنهم لا ينتقلون للفقه من النصوص الشرعية إلا بعد أن تصح عندهم، فإن لم يكن لها في الصحة مجال، كان قولهم فيها واسعا اعتمادا منهم على القواعد والمقاصد والكليات الشرعية.
ونحن إذا ألقينا نظرة على هذا الحديث الذي كان يمكن أن يحسم النزاع لو صحت نسبته. أن طائفة قد رفضته من جهة الثبوت، منهم:
* الإمام أحمد(ت241هـ): قال أحمد ـ في رواية الميموني ـ: لم يثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الشاهدين شيء”( شرح الزركشي على مختصر الخرقي).
* وقال ابن المنذر(ت319هـ):” وليس يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات الشاهدين في النكاح خبر”( الأوسط لابن المنذر).
* وقال ابن عبد البر(ت463هـ):” وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا نكاح إلا بولي وشاهدين عدلين”، من حديث ابن عباس، وحديث أبي هريرة، وحديث ابن عمر، إلا أن في نقلة ذلك ضعفا، فلذلك لم أذكره”(التمهيد: ابن عبد البر).
* وقال ابن تيمية(ت728):” وليس في اشتراط الشهادة في النكاح حديث ثابت؛ لا في الصحاح ولا في السنن ولا في المساند”( مجموع الفتاوى).
* ولما تعرض الزيلعي(ت762هـ): لأحاديث الشهادة في النكاح، أوردها، ثم تعقبها بالقول:” والأحاديث كلها مدخولة”(نصب الراية).
فها أنت ترى أن المعول في الشهادة في النكاح من جهة الأخبار لم تصح عند كثير من أهل العلم.
إن صح الحديث:
ـــــــــــــــــــــــــ
لقد علمت الرأي في الحديث: لا نكاح إلا بولي وصداق وشاهدي عدل”، وأن في ثبوته نزاع. وقد حمله المانعون إن صح الحديث ـ جدلا ـ على جملة من التأويلات، منها:
التأويل الأول: إن الحديث من تصرفات القضاء
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
فهو ليس فتوى يجب النزوع إليها أبدا. فإذا اختار الإمام جعل الشاهدين فله ذلك، وإن لا فلا. قاله القرافي:” إن النفي(لا نكاح…) دائر بين القضاء والفتوى، ولم ينص على أحدهما، فهو مطلق فيهما. ونحن نحمله على القضاء، فلا يحكم حاكم بصحة نكاح إلا ببينة، أما الحل فثابت بدون البينة”(الذخيرة للقرافي).
التأويل الثاني: الحمل على الدخول لا على العقد
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
ويمكن حمله على الدخول لا على العقد، قال القرافي:” وثانيها: أنه دائر بين العقد والدخول. ونحن نحمله على الدخول، لأن اللفظ فيه حقيقة وفيما ذكروه مجاز، والحقيقة مقدمة على المجاز”(الذخيرة للقرافي).
التأويل الثالث: الصداق الوارد في الحديث
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
وحيث في بعض رواياته: لا نكاح إلا بولي وصداق وشاهدي عدل”( )، فإن النفي قد انصب على جميعها. ومعلوم أن النكاح يصح وإن من غير صداق، ويتلافى بمهر المثل عند النزاع فيه. قال القرافي:” وثالثها: إن الصداق مذكور مع عدم شرطيته في العقد بدليل التفويض، فكذلك الشهادة قياسا عليه بطريق الأولى، لأن الصداق ركن داخل في الحقيقة، والبينة خارجة عن حقيقة العقد”(الذخيرة للقرافي).
التأويل الرابع: إن الإشهاد على النكاح كمال لا صحة
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
أن الإشهاد على النكاح من المكملات والتحسينيات، لا من باب الضروريات والشروط والأساسيات. قال القرافي:” ورابعها: يحمل النفي على الكمال وهو متفق عليه، ويؤيده ذكر الصداق، وهو معتبر في الكمال”(الذخيرة للقرافي).
وكونه من المكملات لا من الأساسيات، نظم ذلك صاحب التحفة، فقال:
وَفِي الدُّخُولِ الحَتْمُ فِي الإشْهَادِ **** وَهُوَ مُكَمِّلٌ فِي الانْعِقَادِ
التشدد في الإشهاد ضلال وإضلال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومما خالف فيه ابن عرضون شيخه أحمد البعل، قضية الإشهاد في النكاح. فأحمد البعل رحمه الله تعالى قال لمن لم يشهدوا على الدخول وتغافلوا عنه: إنه صحيح. ورفض ذلك ابن عرضون، وقال: النكاح يفسخ إن لم يتم الإشهاد عليه بعد الدخول.
وقبل ابن عرضون رأي شيخه البعل على مضض، وقال:” وكأنكم اعتمدتم على الشهرة في ذلك، فلم أستطع أن أنازعكم في ذلك، مع تمكن الرد لما ذكر”(ناصر الحكام: ابن عرضون).
وكتب الشيخ البعل رأيه، فقال:” والحاصل أنه يصح النكاح بالشهرة بلا إشهاد، ويقع موضع القبول: التهنئة، والحناء في يد الزوج، أو الزوجة طائعة…وجرى العمل بذلك في بلدنا، والعرف يتبع، والنص في محل العرف ضلال وإضلال”( ناصر الحكام: ابن عرضون).
وفي وثائق ابن سلمون:” فإن كان النكاح والدخول شائعا مشتهرا، سقط الحد باتفاق، وثبت النكاح”(ناصر الحكام: ابن عرضون).
(يتبع إن شاء الله تعالى)