تطرق عدد من مفكري الإسلام المعاصرين لبعض مباحث الحرية، وتأصيلها من الناحية الشرعية، فركز بعضهم على الحريات السياسية ومكافحة الاستبداد؛ وقد أثّر ذلك في تنمية وبناء الأوطان[1]، كما اعتنى بعضهم بدحض الشبهات المتعلقة بحرية الاعتقاد والتفكير[2]. وتناول آخرون بعض الشبهات المرتبطة بأحكام الجهاد في الإسلام.[3] وسعيا للإتيان بالجديد وملء الفراغ في الساحة العلمية، نحاول في هذا الكتاب تتبع الحريات الفردية من حيث مقاصدها ومجالات تطبيقاتها وأبعادها الشرعية والخُلقية، وضوابطها في العلاقة مع الدولة والمجتمع.
لقد أسيء فهم موقف الاسلام من الحريات الفردية، كما وُجهت له كثير من التهم من هذه الزاوية، فزعم بعضهم أن الإسلام حجّر على الحريات الفردية، وقيدها بشكل كبير ، ومثّلوا لذلك بالتضييق على الآراء وإخراج بعض المفكرين من الملة بسبب أفكارهم[4]، وكذلك بما قد يُفهم من الإكراه على أداء العبادات وإلزام الأبناء بها. وتناولوا أيضا تحريم العلاقة الجنسية المبنية على التراضي، ومنع الإجهاض وتغيير الجنس، وكذلك الضوابط الموضوعة على المظاهر الخارجية للمرأة وللرجل. وطالبوا من أجل ذلك بأن يضمن القانون في الدول ذات الأغلبية المسلمة حق الأقلية في اختيار ما تراه من الأفكار والقيم والأذواق، وفي أن تتصرف بالطريقة التي تروق لها، سواء في العلاقات العاطفية أو الزوجية[5]، أو في أشكال البروز والخروج للمجتمع، ولو تطلّب ذلك استفزاز مشاعر الأمة وانتهاك شعائرها التعبدية[6]. ورأوا تبعا لذلك، أنه لا سلطان للدولة ولا لأحد على حريات الناس الفردية، وأن لكل فرد أن يختار ما يشاء، ويتمتع بالطريقة التي يُحب، ولو أدى إلى إضعاف التماسك الاجتماعي للأمة، أو القضاء على قيم المجتمع وأعرافه السليمة.
ويقابل ذلك وجود بعض المفكرين والفقهاء المسلمين ممن يرفضون الحريات الفردية جملة وتفصيلا، ويظنونها سببا مباشرا في انتشار الموبقات والمحرمات، وفي تدمير القيم الأسرية النبيلة القائمة على الترابط والمودة. وحين تكلم المؤرخ المغربي الناصري عن الحرية الوافدة من الغرب قال: ” اعلم أن هذه الحرية التي أحدثها الإفرنج في هذه السنين هي من وضع الزنادقة قطعا لأنها تستلزم إسقاط حقوق الله وحقوق الوالدين وحقوق الإنسانية.” [7]. وحين اشتد الضغط على الأمة بدأ بعض علمائها يؤصلون للحرية ومقصديتها في الشريعة، لكنهم رأوها حرية مقيّدة، ومُلغاة إن تعارضت مع عقائد الإسلام وشرائعه[8]. وهكذا وقع الفرد المسلم في حيرة من أمره بين اتجاهين متعارضين أيهما يرتضيه ويطمئن له.
إن إشكالية هذا الكتاب هي بيان موقع الحريات الفردية في النسق الإسلامي العام، وعلاقة ذلك بقيم المجتمع الإسلامي وآدابه. وهو محاولة للتأصيل الشرعي لريادة الشريعة في تمكين الفرد من حقه في اختيار ما يشاء دون إكراه من أحد. وبالتوازي مع ذلك فإنه محاولة لتتبع جزئيات الحريات الفردية ومساحتها وأبعادها في التصور الإسلامي في تناغم مع حق الجماعة في الحفاظ على قيمها وآدابها. فإذا كان الفرد المسلم مُلزم بحكم إيمانه بمجموعة من التكاليف والواجبات فإن ذلك شأن بينه وبين ربه، وقد يعينه المجتمع على الامتثال الطوعي للواجبات من خلال فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن ذلك لا ينبغي أن يتحول إلى إلزام قسري للفرد أو إكراه له على الامتثال.
أما المنهج المتبع في ذلك فهو منهج تحليلي بالأساس، يتناول النصوص القرآنية والحديثية ويُمحص أقوال الفقهاء تحت ضوء مقاصد الشريعة الداعية إلى احترام كرامة الانسان وتمتيعه بحرية الاختيار والقرار. واختصارا للجهد سأقتصر فيه على جوانب الحريات الفردية التي تثير خلافا أو سوء فهم، أما تلك المتفق عليها بين الناس كحرية التنقل والسفر، وحرية التصرف فيما يملكه الانسان فسأكتفي بالإشارة إليها دون تفصيل.
وحري بالذكر أن الكتاب يتتبّع الحريات الفردية في مجتمع غالبية أفراده يدينون بدين الإسلام ويحتكمون إلى قيمه وشرائعه. وإذا وجدت أقلية غير مسلمة، أو أفراد دخلوا بلد الإسلام وهم غير مسلمين فلهم أحكامهم الخاصة، وهم غير مخاطبين بفروع الشريعة، كما أن العقوبات الدنيوية المترتبة عن الإخلال ببعض التكاليف لا تنسحب عليهم باستثناء ما تمّت المصادقة عليه في الهيئات التشريعية للوطن. لقد ” كفل الإسلام لأهل كل عقيدة حق إقامة المعابد وإقامة الشعائر بها في حدود رعاية الرأي العام، والذوق العام للأغلبية”[9]. وإن إطلالة عابرة على تاريخ المسلمين تُظهر أن غير المسلمين من النصارى واليهود تتمتعوا في ظل دولة الإسلام بحرية ممارسة شعائرهم التعبدية، وطقوسهم الخاصة بهم، في احترام تام لحقوق الأغلبية. ولعل خير مثال على ذلك الوثيقة التي عرفت باسم العهدة العمرية، والتي تضمنت حقوق الأقليات المسيحية واليهودية في بيت المقدس.
[1] من أوائل من كتب في ذلك من المعاصرين عبد الرحمان الكواكبي ، حيث ألف كتاب: ” طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” ، اعتبر فيه أن أصل الداء هو الاستبداد وقمع الحريات. كما كتب الغنوشي في نهاية القرن الماضي كتاب” الحريات العامة في الدولة الإسلامية“.
[2] في القرن الماضي كتب الأستاذ عبد العزيز جاويش تلميذ محمد عبده كتاب: ” الإسلام دين الفطرة و الحرية “. كما كتب طه العلواني كتاب: ” لا إكراه في الدين“.
[3] ألف بعض المفكرين المسلمين كتبا عن الحرية، من ذلك كتاب ” الحرية الدينية” لعبد المتعال الصعيدي. وكتاب: ” مقاصد الحرية الدينية” لوصفي عاشور.
[4] من القضايا التي رفعت حولها دعوى قضائية مسألة ردة نصر أبو زيد وطلب التفريق بينه وبين زوجته، وقد بادر على إثرها الدكتور محمد سليم العوا فأصدر كتابا بعنوان ” الحق في التعبير” .
[5] عهد الرئيس التونسي الباجي قيد السبتي إلى لجنة خاصة بإعداد مشروع حول الحقوق والحريات الفردية، وصدر التقرير في قرابة 253 صفحة، تتضمن مسائل متعددة فيها مخالفة صريحة لبعض قطعيات الدين.
[6] في كل عيد أضحى يخرج الإعلام الفرانكفوني بمقالات تسخر من شعيرة الأضحية تحت ذريعة حرية التعبير.
[7] الاستقصاء، الناصري، ج 9، ص 114.
[8] الحرية الدينية في الشريعة الإسلامية، أبعادها وضوابطها، سليمان بن عبد الله أبي الخيل، بحث مقدم للدورة التاسعة عشرة لمجمع الفقه الإسلامي الدولي، إمارة الشارقة، الإمارات العربية المتحدة.
[9] الحريات العامة في الدولة الإسلامية، راشد الغنوشي، ص 47 .
- تطلب كتب المركز من الدار المغربية للنشر والتوزيع: بالدار البيضاء
- الهاتف: 00212680804682
- البريد الإلكتروني: [email protected]