نص الحديث
عن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا “[1]
توطئة
لقد أوتي النبي عليه الصلاة والسلام جوامع الكلم، فكان يُنوّع الخطاب بحسب الفئة المستهدفة، وبحسب ما يتغيى تبليغه من قيم ومبادئ وأحكام، ومن الأساليب الحوارية التي استخدمها عليه الصلاة والسلام في محاوراته؛ الأسلوب الوصفي التصويري، ومن غاياته ترسيخ المفاهيم في أذهان المستمعين وتقريب الأحكام والحكم إلى العقول بالقصة وضرب الأمثال.
وحديث السفينة نموذج من الأحاديث التي يظهر فيها الأسلوب البليغ للنبي الكريم، وسنتوقف بإذن الله مع بعض معانيه مما له صلة بالمسؤولية المشتركة بين بني البشر في إنقاذ سفينة المجتمع، والنجاة بها إلى بر الأمان، بما يوحي إليه ذلك من معاني الصلاح والاستقامة والعيش في كنف العبودية لله الواحد القهار.
من المعاني الإجمالية للحديث الشريف
حديث السفينة من جوامع كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ضرب فيه المثل لحال المجتمع بفئاته المختلفة، ومشاربه المتعددة، من حيث تناصحُه وأخذ أفراده بأيدي بعضهم؛ بركاب سفينة استهموا على مواقع الركوب فيها، فكان بعضهم في أعلاها وبعضهم في أسفلها، ليخلص النبي الكريم في النهاية إلى أن نجاة السفينة لن تكون إلا بالتناصح، والتناهي عن المنكر، وعدم الاستئثار بالنصيب كأنه حق خالص. وفي هذا توجيه نبوي كريم إلى أن نجاة سفينة المجتمع مسؤولية مشتركة بين الجميع.
أسلوب وصفي تصويري نبوي بليغ
هذا الأسلوب الوصفي من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصد منه تقريب الصورة، وإيصال الأحكام والقيم بأسلوب جذاب مشوق تقترب به الصورة، وتُبلّغ من خلاله القيم والأحكام. وهذا الحديث الشريف يختزن من المعاني والدلالات ما يحتاج منا إلى وقفات تأملية لاستخراج ما يستبطنه من حكم وأحكام وعبر وعظات تتعلق بالاجتماع البشري، وما ينبغي أن يحكم علاقاته من سنن وقواعد للعيش المشترك.
وقفات مع مقاطع الحديث
مثل القائم على حدود الله والواقع فيها: شبه الرسول الكريم المراعي لحرمات الله، الحافظ لأمانة التكليف، الساعي إلى مدافعة الفساد والحيلولة دون استفحاله؛ بذلك الشخص أو تلك الفئة التي تنظر إلى السفينة على أنها ملك مشترك، ومصلحة عامة ينبغي صيانتها والمحافظة عليها، ومنع من يسعى إلى العبث بها حتى وإن ادعى أنه يمارس حرية شخصية، ويتصرف في حق يملكه. صحيح أن القوم استهموا وتعيّن لكل طائفة نصيبها، غير أن هذا النصيب لابد أن يحكم التصرفَ فيه المصلحةُ العامة القائمة على التعاون وبذل النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لا على الاستئثار والأنانية والتفرد باتخاذ القرارات المصيرية التي تطول نتائجها الجميع.
فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا:
وههنا يظهر لنا جليا أن من أسباب خيرية الأمة تناصح أفرادها، وأخذ بعضهم على أيدي بعض بالحكمة والقواعد المشروعة الخادمة لمصلحة الجميع دون شطط ولا تهور، قال الله تعالى:( واتقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً).[2]
وقال تعالى:( لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبيس ما كانوا يفعلون)[3]، وقال عز وجل:( ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض)[4]، وفي جواب النبي صلى الله عليه وسلم عن سؤال: أنهلك وفينا الصالحون؟ أجاب: نعم إذا ظهر الخبث[5].
مسؤولية وقاية المجتمع من المفاسد والشرور مسؤولية مشتركة.
ما أكثر الفئات والأفراد الذين لا يضطلعون بمسؤولياتهم ومساهماتهم الشخصية في إصلاح الواقع، وانتشال أفراد المجتمع من الفساد المستشري فيه طولا وعرضا، وينحون باللائمة على الآخر، وكأن الذات منزهة ولا تفعل إلا المعروف. ولو أن كل فرد أو فئة رابط على ثغر من الثغور، ونظر إلى ما يُؤتى من جهته لربح الجميع، ولكسبنا فرصا كبيرة للنجاح( إن الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)[6]( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة انعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)[7]( أولما أصابتكم مصيبة قد اصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم)[8].
وحديث السفينة الذي بين أيدينا يشير إشارات دالة ومعبرة على أن الاستقامة والصلاح لا ينبغي أن يقتصر على الذات ويتمحور حولها؛ وإنما ينبغي تعدية الخير إلى الآخر لإشراكه في النفع وتحميله مسؤولية الإصلاح، وتغيير الأوضاع نحو الأحسن وثني المفسدين عن فسادهم وطغيانهم( والذين يمسّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين)[9]. والمصلح هو غير الصالح إذ هو صالح وزيادة؛ لأنه ينظر إلى الواقع بتفاعل، ولا يرضى لسفينة المجتمع أن يخرقها السفهاء بعبثهم وطيشهم وتهورهم.
إشراقات دعوية مستفادة من الحديث الشريف
1- ضرب الأمثلة أسلوب دعوي استعمله القرآن الكريم والسنة المطهرة، ومن مزاياه: دفع السآمة والملل، وتقريب المعنى للمخاطبين، وإقناع المُحاوَر وإقامة الحجة عليه.
2- الحوار والإقناع بالتي هي أحسن لا بالتي هي أخشن؛ هو الأصل الأصيل في مخاطبة المخالف، وإذا تعذر الإقناع وتبين الفساد المحض، والمنكر البيّن في تصرف الآخر وجب على الجميع حمله على الرجوع إلى الصواب، ففي حديث مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان)[10] وفي السنن: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ ، قَالَ : أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ يَعْنِي ابْنَ أَبِي خَالِدٍ ، عَنْ قَيْسٍ ، قَالَ : قَامَ أَبُو بَكْرٍ ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ : (يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) ، وَإِنَّا سَمِعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : ” إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغِّيِروه، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِهِ “[11] .
3- مسؤولية حماية المجتمع مسؤولية مشتركة، والاضطلاع بها قربة وطاعة، وأثر خالد يؤجر عليه المُصلح.
حِكم وأحكام مستفادة من الحديث
1- وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهله إذا لم يؤد إلى منكر أكبر منه، عملا بقاعدة ” الضرر يُزال” وقاعدة:” الضرر لا يُزال بمثله” فضلا عن أن يزال بضرر أفدح منه.
2- لحوق العذاب بالجميع إذا ارتكب الخاصة المنكر ورضيه الجميع واستمرؤوه ولم يسعوا إلى تغييره، بالطرق الحضارية ووفق القواعد والضوابط الشرعية المرعية الجالبة للمصالح الدافعة للمفاسد، قال الكرماني رحمه الله في شرحه على البخاري:” وفيه -أي الحديث- تعذيب العامة بذنوب الخاصة واستحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”[12]
3- دفع المفاسد التي يقترفها البعض هو جلب لمصالح العموم وحماية للمجتمع وصيانة له.
خلاصة
وخلاصة الأمر أن من تصرف بغير مسؤولية مع إناطتها به، فهو محاسب عن تخليه عنها، وسوء تصرفه فيها، فتركه للمسؤولية وتفريطه فيها لا يعفيه منها، بل يتحمل تبعات التفريط، قال تعالى: ( وقفوهم إنهم مسئولون مالكم لاتناصرون)[13]. لأن الفتنة إذا ظهرت بوادرها، ولم يتصد لها العقلاء الحكماء لحق لظاها الجميع، ومعظم النار من مستصغر الشرر كما يقال، قال الله تعالى:( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)[14] وقال جل شأنه:( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مُصلحون)[15].
والله من وراء القصد
1- رواه البخاري في صحيحه ، كتاب:الشركة ، باب:هل يقرع في القسمة…، رقم الحديث(2493)[1]
2- سورة الأنفال، الآية: 25[2]
3- سورة المائدة، الآية:78 [3]
4- سورة البقرة، الآية: 151[4]
5- الحديث بتمامه رواه الترمذي رقم(2185)، وقال غريب من حديث عائشة، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي.[5]
6- سورة الرعد، الآية:11.[6]
7- سورة الأنفال، الآية:53. [7]
8- سورة آل عمران، الآية:153 [8]
9- سورة الأعراف، الآية:170[9]
10- أخرجه مسلم،كتاب الإيمان،باب كون النهي عن المنكر من الإيمان،وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان[10]
11- رواه أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة.[11]
12- شرح الكرماني على البخاري: 11/59[12]
13- سورة الصافات، الآيتان: 24-25[13]
14- سورة الأنفال، الآية:25[14]
15- سورة هود، الآية: 117[15]