الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
مقدمة: الأسرة في الواقع الراهن من المواضيع التي تصدرت اهتمام الباحثين والمفكرين، لأن الحديث عن الأسرة هو حديث عن الإنسانية ككل، فهي الحصن والمحضن الرئيسي لتواجد إنسان الفطرة سواء كان ذكرا أو أنثى ، ورغم ما أسدته الحضارة المعاصرة من خدمات لمؤسسة الأسرة فإنهالم تستطع أن تركز على جوهرالإنسان القائم على تلك المؤسسة لاهتمامها بالوظائف المادية مجردة عن الإنسانية، وعلى الرغم من كثرة الدراسات الحداثية في قوانين الأحوال الشخصية أو الأسرية فإنها تظل عاجزة عن معالجة المشاكل الأسرية، الأمر الذي يستدعي تصورا لنموذج معرفي يعيد للأسرة مشروعها التراحمي الحضاري.
بالرجوع إلى الإطار المرجعي المؤسس للنموذج المعرفي المنهجي، تتضح الرحمة في بناء الأسرة على نظام يقر بالزوجية ويعدل بين الحقوق والواجبات ، ويرحم كلا من الذكر والأنثى في منظومة متكاملة والتي تتمايز عن مفهومها في المنظومة الغربية التي تقر بالفردية، قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(21)﴾[1]، فالرحمة من الأصول التشريعية لبناء الأسرة وضبط حقوقها وواجباتها، وهي من المقومات الأساسية الواجب تفعيلها لنموذج تنموي جديد، وهو ما عبر عنه الوحي بالجعل “وجعل بينكم مودة ورحمة”، للوصول لأساس حقيقي ومتكامل لنموذج أسري تسمو فيه قيم التعايش والكرامة والحرية والقيم الأخلاقية على ما سواها انسجاما مع روح الرؤية الكونية التراحمية القرآنية التي تربط الأسرة” بأخلاق مشتركة، فالتحام الأسرة-سواء كانت أسرة إنسانية كبيرة أو أسرة مجتمعية صغيرة- يشترط وجود الخُلقية المشتركة، وحيث لا توجد أخلاق مشتركة، لا يوجد التحام”[2]، والتركيز على الرحمة يحفظ الحقوق المشتركة بين الزوجين”حتى لا تنحصر العلاقة بين الزوجين في صورة جسدية بحثة، فقد نبهت الشريعة أن من مقاصد هذه العلاقة أن يسكن كل من الزوجين إلى الآخر، وأن يكون بينهما مودة ورحمة. وشرعت لتحقيق هذا المقصد أحكاما للمعاشرة بالمعروف بين الزوجين وآدابا للجماع، وغير ذلك من الأحكام التي توفر الجو العائلي المملوء دفئا وحنانا ومشاعر إنسانية راقية”[3]، فالرحمة في النسق التوحيدي القرآني كان لها الأثر البارز في ترسيخ حقوق الأسرة بكونها إطارا قيميا للمعاشرة بالمعروف، تبعث على الاستقرار وحفظ الأسرار، و تشكل مضمون العلاقة المعرفية في فن التعامل وتكريم إنسانية مكونات الأسرة التي تعد أهم مؤسسة إنسانية اجتماعية، لمكانتها السامية والعظيمة، وتبخيس حقوقها أو تفكيكها دمار للحضارة والعمران والقيم، لذلك شرّع لها الوحي حقوقا تفرّد بها عن غيره من القوانين الوضعية، إذ كان له السبق في تقرير هذه الحقوق بضمانات تحترم آدمية الإنسان برحمة كونية “وليس هذا فقط، بل إن القيم الأخرى مثل “العدل” و”المساواة” و”الحرية” تستمد كونيتها من كونية الرحمة، إذ كلما اقتربت رتبة القيمة من رتبة الرحمة أو زاد قدرها منها، زادت حظوظ هذه القيمة في تحصيل إجماع البشرية عليها، فيلزم أن كونية العقل النظري نفسه آتية من كونية الرحمة التي هي الكونية العليا”[4]، فالرحمة تحفظ النظام الإنساني في الأسرة في إطار سلام داخلي بين أفرادها وفق نظام مبني على الاحترام، يقول دوركايم في كتابه التربية الأخلاقية :”فلو حدث مثلا أن فقدت قواعد الأخلاق المتصلة بالزوجية سلطتها، أو ضعف احترام الزوجين للواجبات التي يلتزم بها كل منهما حيال الآخر، لأفلت زمام الاتصالات والشهوات التي يحد منها وينظمها ذلك القسم من الأخلاق، ولاضطرب تنظيمها وتمادت نتيجة لهذا الاضطراب، وهي حين تعجز عن أن تهدئ من عنفها، ما دامت قد تجاوزت كل حد، تولد في النفوس حالة من اليأس وخيبة الأمل تتبدى على صورة واضحة في إحصائيات الانتحار”[5]، بما في ذلك الانتحار القيمي والعلائقي، مما يؤكد على ضرورة قيمة الرحمة في بناء حقوق الأسرة لاعتمادها على المصلحة المشتركة في ضبطها لحقوق الزوجين والوالدين ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾[6]، وكذلك في ضبط حقوق الأبناء حيث «قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا. فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: من لا يَرحم لا يُرحم»[7]. ومن هنا فالرحمة قيمة تعبدية عمرانية لمركزيتها في بناء حقوق الأسرة،لذا ضبطت الرؤية الكونية القرآنية الأسرة بأصل الرحمة قصد استمرار النوع البشري في إقامة أصول الاستخلاف والعمران، إلا أن تفكيك الأسرة في الفكر الحداثي السائل الذي ينطلق في جوهره من هجوم على مفهوم الإنسانية المشتركة أصبح مهيمنا على الساحة الثقافية وأضحت “عملية تفكيك الأسرة هدفا مقصودا للذين يريدون إذابة خصوصيات المسلمين وتفكيك سائر بناهم التحتية، والقضاء على آخر مقومات شخصيتهم الإسلامية”[8]، لأن الأسرة في الرؤية الكونية التراحمية القرآنية وحدة إنسانية متكاملة قائمة على قوانين شرعية متراحمة بقصد العمران، يشد بعضها بعضا وهوما عبرعنه القرآن بالأسر والشد ﴿ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ ۖ﴾[9]، والشد من الترابط وهو حقيقة كونية من مظاهر الرحمة التي تثبت إنسانية مكوناتها ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[10]، فالرحمة المنهاجية تحقق للأسرة الصلاحية الممتدة في الزمان والمكان بنظام الزوجية تفعيلا لمقتضيات الرؤية الكونية التراحمية القرآنية التي استطاعت” أن تبلغ كمالا مزدوجا، لا يمكن لغيرها أن يحقق التوافق بين شقيه: لطف في حزم، وتقدم في ثبات، وتنوع في وحدة.”[11] والأسرة هي التي تنشأ برابطة الزوجية بين رجل وامرأة مقصدها حفظ النوع الإنساني، يقول الشاطبي: “والنكاح لا يخفى ما فيه مما هو مقصود للشارع، من تكثير النسل، وإبقاء النوع الإنساني”[12] إذ الأسرة “هي الجماعة المعتبرة نواة المجتمع، والتي تنشأ برابطة زوجية بين رجل وامرأة، ثم يتفرع عنها الأولاد، وتظل ذات صلة وثيقة بأصول الزوجين من أجداد وجدات، وبالحواشي من إخوة وأخوات، وبالقرابة القريبة من الأحفاد (أولاد الأولاد) والأسباط (أولاد البنات) والأعمام والعمات، والأخوال والخالات وأولادهم”[13]، وهي خصائص الأسرة في النسق التوحيدي الذي يعتبر الأسرة واحدة ومتعددة في الآن نفسه لأنها امتداد للأمة ولدائرة الإنسانية الكبرى، فهي دائرة داخل دوائر متعددة لتحقيق الدائرة الكبرى وهي العمران، بخلاف نموذج الأسرة الواحدية التي تنطلق من رؤية مادية غير محدودة أو ما يعبر عنه الفكر الحداثي بالسائلة نتيجة لغياب القيم التي تؤطرها فكان من نتائجها إفراز نماذج منها: المثلية والسحاقية والتي يعبر عنها بمصطلح “المتحدين والمتعايشين” لتبرير النموذج الشذوذي والقضاء على لحمة الأسرة وتجاوزا للسنن الكونية التي خُلقت على نظام الزوجية ﴿ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾[14]، وفي هذا إشارة إلى فضح الرؤية الغربية التي تقر النموذج الأحادي الذي يخالف الفطرة وضد الرحمة، لأنه تعافه الطباع السليمة ومخالف لمقصد مصلحة النكاح في المحافظة على النوع الإنساني.و لقد ركز الفكر الغربي المادي على الأحادية في تقرير حقوق الأسرة وانصب اهتمامه على حقوق المرأة مستقلة بذاتها عن الأسرة باعتبارها مكونا إنسانيا أساسيا لها لتفكيك الأسرة وضرب كيانها، “وهكذا تغلغلت المرجعية المادية (بتركيزها على الكمي والبراني) وتراجعت المرجعية الإنسانية الهيومانية (بتركيزها على الكيفي والجواني) وتراجع البعد الإنساني الاجتماعي الذي يفترض مركزية إنسانية وطبيعة إنسانية متفردة تتمتع بقدر عال من الثبات يميزها عن قوانين الطبيعة المادية المتغيرة، وتم إدراك الإنسان خارج أي سياق اجتماعي إنساني بحيث أصبح الإنسان كائنا طبيعيا ماديا كميا لا يشغل أية مركزية في الكون وليس له مكانة خاصة فيه، يسري على الأشياء الطبيعية/المادية الأخرى، أي أنه تم تفكيك الإنسان تماما وتحويله من الإنسان المنفصل عن الطبيعة إلى الإنسان الطبيعي/المادي، الذي يتحد بها ويذوب فيها ويستمد معيارته منها، فيفقد الدال « إنسان» مدلوله الحقيقي، ويحل الكم محل الكيف والثمن محل القيمة. ونحن نذهب إلى أن حركة الفيمنزم (التي نترجمها «بحركة التمركز حول الأنثى») هي التعبير عن هذا التحول ذاته وعن إزاحة الإنسان من مركز الكون وعن هيمنة الطبيعة/المادة على الإنسان.”[15] ويستمر المسيري في كتابه قضية المرأة في الكشف عن حركة التمركز حول الأنثى مشيرا إلى فضح الرغبة الغربية في تدمير نظام الأسرة بقوله: “وتترجم هذه الرؤية نفسها إلى مرحلتين: -مرحلة واحدية إمبريالية وثنائية، و واحدية صلبة ينقسم فيها العالم إلى ذكور متمركزين تماما حول ذكورتهم ويحاولون أن يصرعوا الإناث ويهيمنوا عليهن، وإلى إناث متمركزات تماما حول أنوثتهن يحاولن بدورهن أن يصرعن الرجال ويهيمن عليهم. سرعان ما تنحل هذه الواحدية الإمبريالية والثنائية والواحدية الصلبة لتصبح واحدية مادية سائلة لا تعرف فارقا بين ذكر أو أنثى. ولذا لا يتصارع الذكور مع الإناث وإنما يتفككون جميعهم ويذوبون في كيان سديمى واحد لا معالم له ولا قسمات،”[16]، وهكذا تغيب المرجعية الإنسانية المشتركة بين الذكر والأنثى، ويذوب معها كيان الأسرة والروابط التراحمية التي تجمعهما، بينما في الرؤية الكونية القرآنية تجد الأسرة مبنية على فكر توحيدي تراحمي لا يفرّق بين الذكر والأنثى، “هاتان القاعدتان، الأنثوية الأمية والذكرية الأبوية لا تناظران فحسب وجود جانب ذكري وآخر أنثوي في كل كائن بشري، وإنما تناظران خصوصا حاجة كل رجل وكل امرأة إلى الرحمة والعدالة معا. ولعل أعظم اشتياق يعتمل في أعماق الكائن البشري هو أن يكون مجموعة متآلفة من الصفات، يتحد فيها القطبان الأمومة والأبوة، الأنوثة والذكورة، الرحمة والعدالة، الوجدان والعقل، الفطرة والذكاء في توليفة واحدة حيث يفقد طرفا الاستقطاب تنافرهما المتبادل. وعوضا من ذلك يلون كل منهما الآخر”[17]، فالوعي بالعلاقة التراحمية بين الأسرة يجعلها نموذجا في الإنتاج الحضاري وفق خصوصيتها وهويتها الثابتة، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ﴾[18] فالتراحم حق رحماني للجميع،لا في مقاربة النوع كما يقرر (النوع الاجتماعي)، أو مايعبر عنه بالمساواة “فالمساواة الإنسانية بين جنسي الإنسان (الذكر والأنثى) لا تسلب الإنسان من خصوصية الذكرية أو الأنثوية. ولا تجعل منها” تسوية بين الجنسين” كما أنها لا تقبل هذه الخصوصية الجنسية في “مثلية” جنسية””[19]، ومن ثم فما تتعرض له الأسرة من انتهاكات نالت منها المرأة الحظ الأوفر بشعارات المساواة والاهتمام وغيرها من المصطلحات البرَاقة هو انتقاص لها لا انتصار وهو ضرب لكينونتها. والانتقاص من شأنها يؤثر على عزيمتها وإرادتها” فلا تستطيع جرّاء ذلك أن تثمر شيئا، فإذا ما حفظت كرامتها بالعزة انطلقت في الإنجاز”[20]، ويؤكد المنهج النبوي على رحمة النساء لأهمية المرأة في قيادة الأسرة كما في النص الحديثي “استوصوا بالنساء خيرا”[21] والوصية تعني منحها حقوقها كاملة في التسيير والتدبير ومراجعة التراث الثقافي بشأنها مثل عبارة “شاوروهن وخالفوهن” لأن المرأة تقود أكبر مؤسسة في الكون، تلك التي تنتج الإنسان.وبهذا فالانتقاص من دور الذكر أو الأنثى هو ضرب للأسرة ولمقومات النهوض الحضاري، يقول الفاروقي: “إن من المقطوع به أن قدَر الحضارة والأسرة هو أن تنهضا معا أو تسقطا معا”[22]، ولهذا فالتركيز على الرحمة في بناء الأسرةيحفظ هويتها ويحترم كينونتها، وعليه فإن ما تتعرض له الأسرة من اتنهاكات حقوقية ما هو إلا سياسة تمييزية بين الذكر والأنثى . والتمايز بين الجنسين في قوله تعالى: ﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ ﴾[23] لا يعني التقابل أو تقاسم الأدوار، وإنما المقصود التراحم والتكامل الوظيفي بينهما، لا الصراع المستبطن في الفكر المادي الاستهلاكي الذي يهدف إلى تشييء الإنسان، ووضعه في خانة السلع نحو تفتيت الطبيعة الإنسانية باسم التقدم والتحضر الذي يستبعد الرؤية التراحمية المؤطرة للبشرية مما يؤدي إلى اختفاء المرجعية الإنسانية، وهذا ما أشار إليه المسيري بقوله: “فصل النشاطات الإنسانية عن المعايير الأخلاقية والإنسانية يؤدي إلى ضمور المرجعية الإنسانية ثم اختفائها،”[24] فتأكيد الرحمة لآدمية الأسرة يوضح الاختلاف الكوني بين الجنسين وهو اختلاف تكاملي لا تقابلي كما في الفكر الواحدي الذي يدور “في إطار الثنائية الصلبة (حرب الإنسان ضد أخيه الإنسان وضد الطبيعة) والواحدية الصلبة (سيادة الطبيعة على الإنسان وإزاحة الإنسان وضد الطبيعة) والواحدية الصلبة (سيادة الطبيعة على الإنسان وإزاحة الإنسان من مركز الكون) والواحدية السائلة (رفض فكرة المرجعية والمركز وأي ثوابت وأية كليات، بما في ذلك مفهوم الإنسانية المشتركة القادرة على تجاوز الطبيعة/المادة). فهذه الحركات الجديدة تؤكد فكرة الصراع بشكل متطرف، فكل شيء إن هو إلا تعبير عن موازين القوى وثمرة الصراع المستمر. والإنسان هو مجرد كائن طبيعي يمكن رده إلى الطبيعة/ المادة ويمكن تسويته بالكائنات الطبيعية. وبالفعل يتم تسوية الإنسان بالحيوان والنباتات والأشياء، إلى أن يتم تسوية كل شيء بكل شيء آخر، فتتعدد المراكز ويتهاوى اليقين ويسقط كل شيء في قبضة الصيرورة، ومن ثم تظهر حالة من عدم التحدد والسيولة والتعددية المفرطة.”[25] وبهذا فما يثار من قضايا في الواقع المعاصر تهدف إلى تفكيك الأسرة أمثال المساواة وقضايا الإرث، فإن الرؤية الكونية القرآنية أسست بناء الحقوق على الرحمة المبنية على العدل و المؤسسة على المصلحة للإنسان بغض النظر عن الجنس هل ذكر ام أنثى؟ ،ومن ثم فحق الحياة الزوجية مقصد من مقاصد رحمة الشريعة الكلية في حفظ الكينونة الإنسانية. لذا قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾[26]، فكل أفراد الأسرة أمانة في الرؤية الكونية التراحمية القرآنية تستلزم العدل في أدائها على الوجه التراحمي المشروع الذي يمنع الظلم والعنف ﴿ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ﴾[27]. والعدل أشمل من المساواة لأن في المساواة ظلم للطرفين لاختلاف الجنسين، والعدل عام في الحقوق الأسرية .ومن هذا المنطلق تتم دراسة الأسرة برؤية تراحمية في وحدة متكاملة وليس بدراسة” الإنسان الذي يتحدثون عن حقوقه هو وحدة مستقلة بسيطة كمية، أحادية البعد، غير اجتماعية وغير حضارية، لا علاقة لها بأسرة أو مجتمع أو دولة أو مرجعية تاريخية أو أخلاقية، هو مجموعة من الحاجات(المادية) البسيطة المجردة التي تحددها الاحتكارات وشركات الإعلانات والأزياء وصناعات اللذة والإباحية”[28]، وهي فلسفة تحمل في طياتها فكر التمركز حول الجنس وافتعال الصراع بين الجنسين الذكوري والأنثوي، للقضاء على الإنسانية وضرب مقومات عناصر التراحم الأسري، لأن الرحمة قيمة مركبة لنموذج الأسرة المتكاملة المتلاحمة التي ترشد الفرد داخل كيانها بكونه يشكل وحدة في تعدد وليس بنزعة فردية مستقلة عنها، “ومن الطبيعي أن النزعة الفردية والقول بأصالة الفرد في العالم الغربي زعزعت المجتمع بصفته كيانا كاملا ومتلاحما، حتى أن روح المجتمع القديم التي كانت روحا واحدة في المجتمع الواحد، استحالت اليوم إلى روح متداعية وإلى نزعات فردية مفككة…وأدى هذا الاتجاه إلى زعزعة كيان الأسرة، لأن القول بالأصالة الفردية للمرأة أسقط عضويتها من كيان الأسرة وأبرزها إلى المجتمع كفرد مستقل بذاته. إن الفارق بين الإسلام الذي يقول بأصالة الأسرة، والغرب الذي يدعو إلى الأصالة الفردية للمرأة، هو أن الغرب ينظر إلى الزواج المتعارف بصيغته الحالية وكأنه علاقة مشاركة في تدبير شؤون البيت، وليس اقترانا وتقاربا بين الرجل والمرأة، وينظر إليهما وكأنهما موجودان مستقلان يعيشان سوية تحت سقف الأسرة. في حين ينظر الإسلام –في ضوء تقديسه لأصالة الأسرة- إلى الرجل والمرأة وكأنهما نصفان يكمل أحدهما الآخر. وهذان الاتجاهان يحددان على وجه الدقة طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة في الأسرة المسلمة، وطبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة في الأسرة الغربية، إذ يعتبرهما الأول نصفين لكيان واحد اسمه الأسرة، بينهما يعتبرهما الآخر شخصين مستقلين تماما يعيشان إلى جانب بعضهما.”[29]
خاتمة: إن الرحمة قيمة كونية قرآنية تعبدية عمرانية لمركزيتها في بناء حقوق الأسرة، لأن الأسرة في النسق التوحيدي القرآني وحدة متراحمة متكاملة أحاطت بها الرحمة من كل الجوانب باهتمام خاص وتفكير عميق، من خلالها يحقق الفرد جوهره الإنساني ويكسب هويته وخصوصيته.
د: الصالحة المرتجي
[1] الروم، 21.
[2] الحق الاسلامي في الاختلاف الفكري، طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، المغرب، الطبعة2،ص108..
[3] نحو تفعيل مقاصد الشريعة، جمال الدين عطية، دار الفكر، دمشق، المعهد العالمي للفكر الإسلامي،2003م، ص150.
[4] روح الحداثة المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية ، طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط 3، 2013م،ص254.
[5] التربية الأخلاقية، اميل دوركايم، ترجمة السيد محمد نبوي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2015، ص43.
[6] الإسراء، 24.
[7] صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، رقم ح 5997.
[8] المرأة والعمل السياسي رؤية إسلامية، هبة رؤوف عزت، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1416هـ/1995م، تقديم طه جابر العلواني، ص9.
[9] الإنسان، 28.
[10] التوبة، 71.
[11]دستور الأخلاق في القرآن الكريم دراسة مقارنة للأخلاق النظرية في القرآن ،محمد عبد الله الدراز، تحقيق عبد الصبور شاهين، مؤسسة الرسالة، ط10، 1998م، ص11.
[12] الموافقات، أبو اسحاق الشاطبي، ج1، دار بن عفان، ط1، 1997م،ص211-212.
[13] الأسرة المسلمة في العالم المعاصر، وهبة الزحيلي، بيروت، دار الفكر، دمشق، ط1، 2000م، ص20.
[14] الذاريات، 49.
[15] قضية المرأة بين التحرير.. والتمركز حول الأنثى، عبد الوهاب المسيري، نهضة مصر، ط2، 2010م،ص18-19.
[16] نفسه.، ص18.
[17] الإنسان بين الجوهر والمظهر، اريك فروم،ترجمة سعيد زهران، عالم المعرفة، الكويت، العدد 140، ص 137.
[18] الأنبياء، 84.
[19] تفعيل الحرية بين نسقين: من التطبيع التنظيمي إلى التنزيه التكريمي، سعيد خالد الحسن، سؤال الأخلاق والقيم في عالمنا المعاصر، الرابطة المحمدية للعلماء، 1432هـ/ 2011م، الدار البيضاء، المغرب، ص437.
[20] مقاصد الشريعة، بأبعاد جديدة، عبد المجيد النجار، دار الغرب الاسلامي،ط2، 2008م،ص99.
[21] صحيح مسلم، كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء، رقم ح 1468.
[22] التوحيد مضامينه على الفكر والحياة،، إسماعيل راجي الفاروقي، ترجمة السيذ عمر، مدارات للأبحاث والنشر، 2014م،ص216.
[23] آل عمران، 36.
[24] اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود، عبد الوهاب المسيري، دار الشروق، القاهرة، ط1، 2002م،ص7.
[25] العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، عبد الوهاب المسيري، دار الشروق، ط1، 2002م،ص 322.
[26] النساء، 58.
[27] النساء، 135.
[28] قضية المرأة ، عبد الوهاب المسيري، ص11-12، م س.
[29] مسؤولية المرأة، علي شريعتي، ترجمة خليل الهنداوي، دار الأمير، العراق، ط2، 1428هـ/2007م، ص 65-66.نداوي، دار الأمير، العراق، ط2، 1428هـ/2007م، ص 65-66.