تقديم الكتاب
أنعم الله تعالى على الإنسان بنعمة الزواج التي بها يسكن كل طرف إلى شريكه، ومن خلاله تبنى الأسرة وروابط البنوة والنسب ،قال تعالى: ﴿واللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنَ اَنفُسِكُمُۥٓ أَزْوَٰجاٗ وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ اَزْوَٰجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةٗ وَرَزَقَكُم مِّنَ اَ۬لطَّيِّبَٰتِۖ أَفَبِالْبَٰطِلِ يُومِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اِ۬للَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَۖ ﴾ [النحل: 72] . وتأكد من خلال النصوص الشرعية المتواترة أن من مقاصد الشريعة الإسلامية الحفاظ على الأسرة واستقرارها. وفي هذا السياق، بين سبحانه وتعالى الأساس العاطفي الذي تقوم عليه العلاقة الزوجية، فقال عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]، كما بين الأساس التشريعي الحقوقي الذي يوثق تلك العلاقة ويحفظها من الإفراط أو التفريط فقال: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ اُ۬لذِے عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِۖ﴾ [البقرة: 226]، وحث سبحانه وتعالى على تعزيز تلك الصلة بالإحسان في المعاشرة الأسرية، فقال سبحانه: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِۖ﴾ [النساء: 19]. وهكذا نص فقهاء الإسلام على أن الزواج يقوم على فضيلتي المسامحة والمكارمة، على خلاف البيع الذي يقوم على استقصاء الحقوق والمشاحة فيها.
ولما كانت الأسرة بهذه المكانة الاجتماعية والتشريعية، حُقَّ لقضاياها وإشكالياتها أن تحظى بمواكبة البحث العلمي المؤطر بمقاصد الشريعة في العائلة؛ سبرا لأغوار تلك القضايا، وتحريرا لوجه الإشكال فيها، واستشرافا للحلول الشرعية المناسبة لها؛ بما يحفظ استقرار الأسرة ودوام المودة والرحمة بين أفرادها .
وقد دأب مركز المقاصد للدراسات والبحوث على تخصيص جزء من لقاءات هيأته العلمية لمدارسة القضايا المجتمعية المطروحة، والبحث عن حلول لها تستند للاجتهاد الشرعي القائم على مراعاة تحقيق مقاصد الشريعة. وقد حظي موضوع الأسرة بنصيب من ذلك[1]، لكنه غير كاف ومازال بحاجة لبحوث محكمة ترصد التغيرات الطارئة على وضع الأسرة المسلمة عموما والمغربية على وجه الخصوص.
والكتاب الذي بين أيدينا، يضم بين دفتيه بحثين علميين؛ مُحكمين تم عرضهما في لقاءات الهيئة العلمية، استهدفا تسليط الضوء على قضيتين من قضايا الأسرة؛ أولاهما النظر في حكم خدمة الزوجة في البيت، هل هي واجبة عليها وجوبا شرعيا بمقتضى عقد الزواج أم أنها مجرد تطوع؟ و القضية الثانية هي النظر في هذه الخدمة من جهة مدى اعتبارها مساهمةً في الثروة الأسرية، وهل يحق للزوجة نصيب منها أم لا، عند انقضاء العلاقة الزوجية بالموت أو الطلاق.
لا يخفى وجه الاتصال والترابط بين القضيتين، وحساسيتهما وأثرهما على استقرار الأسرة. كما لا تخفى أهمية البحث العلمي فيهما، من زاوية شرعية مقاصدية تتكامل مع الزوايا الأخرى؛ الاجتماعية والقانونية. إذ أن غياب القول العلمي المستند إلى الأدلة الشرعية ومقاصدها لا يعني إلا ترك الباب مشرعا أمام الأهواء والفوضى الفكرية التي تعصف بكيان الأسرة بدعوى الحقوق والحريات.
وهكذا جاء البحث الأول لفضيلة الدكتور عبد الرحمن العمراني[2] : ” الاجتهاد الفقهي في خدمة الزوجة في البيت: دراسة مقارنة فقها وقانونا“، ليقدم الوجه الشرعي في تناول مسألة خدمة الزوجة في البيت. حيث عرض مذاهب الفقهاء في المسألة، وبين أنها انقسمت إلى ثلاثة مذاهب رئيسة؛ أولها يقضي بوجوب خدمة الزوجة في البيت بموجب عقد الزوجية، والثاني يقضي بعدم وجوبها إطلاقا، بينما قضى المذهب الثالث بالاحتكام للعرف القائم في المجتمع حال الزواج، والتفصيل تبعا لذلك بين أحوال النساء قبل الزواج.
وقد عرض الباحث لتلك المذاهب بقدر محترم من النزاهة الفكرية، وبقدر يضاهيه كذلك من الأمانة العلمية في بسط الأدلة التي استند إليها كل رأي فقهي، ثم ناقشها مناقشة فقهية أصولية رصينة، وربطها بما قضت به قوانين الأسرة في بعض دول العالم العربي. وانتهى إلى ترجيح القول بأن الخدمة في البيت هي تطوع من قبل الزوجة، لم يوجبه الشرع، وإنما حثت عليه المعاشرة بالمعروف ومكارم الأخلاق، ورأى أن العرف في بلاد المغرب جار على قيام المرأة بأعمال البيت وإشرافها على تدبيره، وإن لم يشترط ذلك لفظا عند كتابة العقد.
أما البحث الثاني، فهو لفضيلة الدكتور عبدالوهاب محسن[3]، وقد ترجم له بعنوان: ” العمل المنزلي وعلاقته بالثروة الأسرية“. انطلق فيه؛ بعد الإقرار والاعتراف بالتضحيات التي تقوم بها المرأة المغربية لفائدة الأسرة والزوج والأبناء، من التساؤل عن إمكانية وضع مقابل مادي لهذا العمل تستحقه الزوجة، و إمكانية اعتبار عملها جزءا من مواردها الاقتصادية التي تسهم بها في تكوين أو تنمية ثروة الأسرة، بحيث يؤخذ بعين الاعتبار عند تقسيم تلك الثروة.
وفي سبيل مناقشة هذه القضية، قسم الباحث موضوعه إلى ثلاثة مباحث؛ الأولين منهما عرض فيهما الاتجاهين المتقابلين حول العمل المنزلي؛ من جهة اعتباره جزءا من موارد الثروة الأسرية أو عدم اعتباره. وبسط في هذين المبحثين المسوغات؛ الشرعية، والقانونية، والعرفية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأخلاقية، والحقوقية، التي استند إليها كل فريق لتعزيز رأيه ودعم وجهة نظره. وناقش تلك المسوغات مناقشة علمية رصينة. أما المبحث الثالث من البحث فقد خصصه لبيان موقف العمل القضائي من العمل المنزلي، وبسط فيه جملة من الأحكام القضائية الصادرة عبر مختلف درجات التقاضي ببعض المحاكم المغربية، والتي انتهت إلى رفض اعتبار العمل المنزلي جزءا من المساهمة في الثروة الأسرية.
ثم أنهى الباحث موضوعه بخاتمة عرض فيها رأيه الذي رآه راجحا، ومقتضاه رفض اعتبار العمل المنزلي جزءا من موارد الثروة الأسرية، معللا رأيه بجملة من المسوغات الشرعية والقانونية والعرفية، وناظرا إلى المآل الذي يتوقع لمستقل الأسرة والعلاقات الزوجية في حال الإقرار القانوني لذلك الاعتبار. ولم يطو الباحث موضوعه إلا ببسط جملة من التوصيات والاقترحات، استهلها بالدعوة إلى الاعتراف بالقيمة الإنتاجية للعمل المنزلي المرأة في الثروة الوطنية، وتقديم تعويض له من قبل الدولة، تفعيلا لالتزاماتها الدولية المتعلقة بتعزيز مكانة المرأة في المجتمع.
كما أوصى الباحث باعتماد المنهج التربوي في معالجة الصورة النمطية السائدة حول الأدوار الاجتماعية للمرأة، ومكافحة الاختلالات التربوية التي تستند إلى تلك الصورة. وفي سبيل ذلك دعا إلى استثمار الهدي النبوي في الحياة الأسرية، وإدراجه في البرامج التعليمية والإعلامية لتحقيق ذلك.
خلاصة القول، ليس من شأن تقديم الكتاب أن يلخص كل ما جاء فيه، ولكن حسبه أن يثير رغبة القراء في الاطلاع عليه، من خلال الإشادة الموضوعية بما اتسم به من جدوى تعود على الأسرة وعلى الباحثين والمهتمين بشأنها، ومن جدة وجودة في التناول العلمي والمنهجي للقضيتين المثارتين فيه. ولعله يفتح الباب لمزيد من الأبحاث الرصينة التي تسهم في وضع ضوابط شرعية وقيمية حول النظام المالي للأسرة، تحقق مقصدي العدل والفضل، وتُسهم في تماسك الأسرة وحفظها من الهزات التي تتخطف الأسرة بعيدا عن الهدي الرباني.
نسأل الله تعالى أن يتقبل من المؤلفين عملهما هذا، وأن يجد مكانه بين المراجع التي تعتمدها منظومتا التشريع و العدالة في اقتراح القوانين وإقرار الأحكام القضائية، بما يعود على الأسرة بالأمن و الاستقرار، والحمد لله رب العالمين.
الهيئة العلمية
[1] من المسائل التي نوقشت في لقاءات الهيئة العلمية ونشر بعضها: توثيق الزواج فقها وقانونا لفضيلة الدكتور أحمد كافي، نظام الإرث في الإسلام لمجموعة من المؤلفين، الطلاق الشفهي وموقف الشرع منه ….
[2] ـ أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الانسانية بمراكش.
[3] ـ أستاذ التعليم العالي مساعد بكلية الشريعة – أيت ملول جامعة ابن زهر.
- طلب كتب المركز من الدار المغربية للنشر والتوزيع: بالدار البيضاء
- الهاتف: 00212680804682
- البريد الإلكتروني: [email protected]