نص المحاضرة الافتتاحية لفضيلة الدكتور أحمد الريسوني في دورة مقاصد العبادات بالجديدة، والتي نظمت براكة بين مركز المقاصد للدراسات والبحوث بالرباط، ومؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي ومختبر دراسات الفكر والمجتمع بجامعة شعيب الدكالي، وسننشر التسجيل الكامل لاحقا:

تقديم

       للشريعة نوعان من الحوافز الباعثة على امتثال أحكامها والسعي إلى تنفيذها:

  • النوع الأول: حوافز داخلية إرادية، تنبعث وتتحرك من ذات المكلف؛ من إيمانه وفطرته وتعقله.
  • النوع الثاني: حوافز خارجية إلزامية، معزّزة للحوافز الداخلية. ومصدرها الحكام والهيئات الحاكمة.

       ويعبر العلماء عن النوع الأول بعبارات متعددة منها: الوازع الإيماني، والوازع الديني، والوازع الداخلي..

ويعبرون عن النوع الثاني: بالوازع السلطاني، أو الرادع السلطاني، أو الوازع الخارجي..

وقد اخترتُ التعبير عنهما: بالوازع الدياني، والوازع السلطاني.

فلفظ “الوازع” هو الأكثر استعمالا لدى العلماء، وذلك بغض النظر عن دلالته اللغوية، التي تختص في أصلها بالمنع والكفّ عن القبائح والسيئات.

قال الإمام الطبري في تفسيره: “الوازع في كلام العرب هو الكافُّ. يقال منه: وزع فلان فلانا عن الظلم: إذا كفَّه عنه”[1].

وقال الراغب في المفردات: “يقال: وَزَعْتُهُ عن كذا: كففته عنه”.

وفي لسان العرب: “الوَزْعُ: كَفُّ النفْسِ عَنْ هَواها”[2].

       ولكن اللفظ يتسع ليشمل الحفز على فعل الواجبات والصالحات، بمعنى أنه يزع عن تركها والتفريط فيها. فلذلك صار لفظ “الوزْع والوازع” مستعملا في الحث على فعل المأمورات، مثلما هو في الكف عن المحظورات. مثال ذلك قول ابن عاشور: “الإيمان بالبعث والجزاء هو الوازع الحق الذي يغرس في النفس جذور الإقبال على الأعمال الصالحة، حتى يصير ذلك لها خلقا إذا شبت عليه، فزكت وانساقت إلى الخير بدون كلفة ولا احتياج إلى أمر ولا إلى مخافة ممن يقيم عليه العقوبات، حتى إذا اختلى بنفسه وأمن الرقباء جاء بالفحشاء والأعمال النَّكراء”[3].

واستعملتُ لفظ “الدياني” بدل “الديني”؛ لأن الديني يدخل فيه حتى الوازع السلطاني. فأحكام الولاة والقضاة هي أيضا دينية، وهي وازع ديني، إذا كانت تتم بمقتضى الشريعة، ولو ظاهريا. أما مصطلح “الدياني”، فهو خاص بما يُفعل تدينا وتعبدا، وبما يكون منظورا فيه إلى الحقيقة الشرعية وإلى المآل الأخروي. وهنا نستحضر تفريق الفقهاء – في الأحكام الشرعية والقضائية – بين ما هو منها دياني، وما هو قضائي. فالحكم الدياني يقصد به الحكم المعبر عن الحقيقة الشرعية، كما هي مقررة في الدين، والحكم القضائي يعبر به عما يحكم به القاضي، بناء على ما ثبت لديه، ودلت عليه الحجج المقدمة إليه. وهي حجج قد يعتريها الخلل والزلل والزور والخداع، ولكن القاضي ملزم بالحكم بحسب ظاهرها، وفقا لقاعدة “نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر“. فما خفي عنا نحكم فيه بالظاهر، وحقيقته يعلمها الله.  ولذلك قد يصح قضاءً ما لا يصح ديانةً، والعكس أيضا صحيح. والقاعدة هنا هي أن “حكم القاضي لا يحل حراما ولا يحرم حلالا“. فالقاضي إذا حكم بحق من الحقوق لأحد المتقاضيَـيْـن، وكان ذلك بما انطلى عليه من شهادة شهود زور، أو من وثائق مزورة، لم يتبين له زورها، فالحكم صحيح نافذ قضاءً ودنيويا، ولكنه باطل ولا أثر له ديانيا وباطنيا وأخرويا. فالحكم السلطاني – رغم نفاذه الدنيوي – لا يحيل الحرام حلالا، ولا يحيل الحلال حراما.

والمثال الأصح الأوضح هنا هو الحديث النبوي المتفق عليه: عن أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحنَ بحجته من بعض، وأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار»[4].

والوازع الدياني يشمل كل ما يكون له تحفيز وتأثير عبر اختيار المكلف وإرادته الذاتية، مثل: الإيمان بالله تعالى، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بحكمة الشريعة وصوابيتها، ويدخل فيه الوازع الفطري والخلقي، والحياء أو الخوف من الله تعالى. ويدخل فيه بيانات العلماء وفتاوى الفقهاء، ووعظ الواعظين، ونصح الناصحين.. فكل هذه الحوافز يرجع العمل بها إلى التزام المكلف وإرادته ومبادرته الذاتية..

وأما الوازع السلطاني – نسبة إلى السلطان، بمعنى الدولة ومؤسساتها الحاكمة – فيشمل الأحكام والقرارات والتصرفات الشرعية، المنوطة بالولاة والقضاة، وغيرهم من ذوي الولايات العامة، بأفرادهم أو هيئاتهم، بقصد إقامة أحكام الشريعة ومصالحها، ودفع الناس إلى إقامتها، وزجرهم عن تعدي حدودها، بما في ذلك استعمال الإلزام والإكراه والمنع والعقوبات الدنيوية المختلفة..

وهذا البحث يتعلق بالنظر في العلاقة بين الوازعين الدياني والسلطاني، وينظر بصفة خاصة في مدى مشروعية التدخل السلطاني في مجال العبادات.

المبحث الأول

الدياني والسلطاني: تَـجاوُرٌ وتَـآزُر

ما نعرفه من عامة الشرائع المنزلة هو أنها زاوجت بين استعمال الوازعين الدياني والسلطاني معا، وإنْ بدرجات وأشكال متفاوتة، حسب الظروف والأوضاع الاجتماعية والسياسية لكل زمان، ولكل مكان، ولكل مجتمع..

وفي الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون. قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فُـوا ببيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم).

والعلماء “الربانيون” الذين يذكرهم القرآن وينوه بمقامهم، هم العلماء الذين جمعوا بين إرشاد الناس وتدبير شؤونهم ومعالجة مشاكلهم.

قال الإمام الطبري: “وأما قوله: “كونوا ربانيين”، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله فقال بعضهم: معناه: كونوا حكماء علماء…وعن مجاهد قال: الربانيون: الفقهاء العلماء، وهم فوق الأحبار. وقال آخرون: بل هم ولاة الناس وقادتهم. قال أبو جعفر: وأَوْلى الأقوال عندي بالصواب في (الربانيين) أنهم جمعُ رباني، وأن الرباني المنسوب إلى الرَّبَّان، الذي يربُّ الناسَ، وهو الذي يُصْلح أمورهم ويربُّـها ويقوم بها… فالربانيون إذًا: هم عمادُ الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا. ولذلك قال مجاهد: وهم فوق الأحبار، لأن الأحبارَ هم العلماء، والربانيُّ: الجامعُ إلى العلم والفقه، البصرَ بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية، وما يصلحهم في دُنياهم ودينهم[5].

وفي الشريعة الإسلامية جاءت هذه المزاوجة بين الحوافز الديانية والحوافز السلطانية بأتم درجات الثبوت والوضوح والشمول.. فالإسلام: عقيدةٌ وشريعة، دين ودولة، حقوق الله وحقوق العباد، ظاهر وباطن، دعوة وجهاد، دنيا وآخرة، عبادات فردية وعبادات جماعية، عقوبات دنيوية وعقوبات أخروية..

والمجتمع الإسلامي – في الجملة – تسير حياته وحياة أفراده بالوازعين الدياني والسلطاني معا..

وفي بعض الأحوال يكون أحد الوازعَين هو الغالب، والآخرُ مساعد له. وقد يكون الوازع الدياني وحده هو المعتبر والمعَول عليه، وخاصة في الحياة الفردية والعائلية. وفي غالب الأحوال الطبيعية يتعاضد الوازعان، كل بقدْره.

والتوازن المطلوب بين الوازع الدياني والوازع السلطاني، ليس هو أن نسوي بينهما في جميع الحالات، وإنما هو وضع كل منهما في موضعه ومرتبته، حسب كل مجال وكل حالة. ولكن: يبقى أن الوازع الدياني هو الأصل في امتثال الأحكام الشرعية.

وللعلامة محمد بن صالح العثيمين موازنة عامة بين الوازعين الدياني والسلطاني، وأهمية كل منهما وأثره، في حال القوة والضعف، قال فيها:

“إن الناس مع حكامهم في هذه المسألة ينقسمون إلى أحوال أربع:

الحالة الأولى: أن يقوى الوازع الإيماني والرادع السلطاني. وهذه أكمل الأحوال وأعلاها.

الحالة الثانية: أن يضعف الوازع الإيماني والرادع السلطاني. وهذه أدنى الأحوال وأخطرها على المجتمع، على حكامه ومحكوميه؛ لأنه إذا ضعف الوازع الإيماني والرادع السلطاني حصلت الفوضى الفكرية والخلقية والعملية.

الحالة الثالثة: أن يضعف الوازع الإيماني ويقوى الرادع السلطاني. وهذه مرتبة وسطى؛ لأنه إذا قوي الرادع السلطاني صار أصلح للأمة في المظهر، فإذا اختفت قوة السلطان، فلا تسأل عن حال الأمة وسوء عملها.

الحالة الرابعة: أن يقوى الوازع الإيماني ويضعف الرادع السلطاني، فيكون المظهر أدنى منه في الحالة الثالثة، لكنه فيما بين الإنسان وربه أكمل وأعلى”[6].      

وبما أن الأساس في الشريعة الإسلامية هو أنها عقيدة وديانة، وتوجُّهٌ تعبديٌّ إلى الله تعالى بالقُربات والأعمال الصالحات، فإن الوازع الدياني يجب أن يظل هو الأعلى والأقوى، ويزداد ذلك تأكدا وقوة في المعتقدات والعبادات.

ولذلك فالإشكال الأكبر يكمن في الحالة الثالثة، وهي “أن يضعف الوازع الإيماني، ويقوى الرادع السلطاني”.

فبعض الناس، بمن فيهم فقهاء، يرون أن ضعف الوازع الدياني، يمكن أن يعالَـج ويعوض بتقوية الردع السلطاني. فضعف الوازع الدياني داء، والردع السلطاني دواء. وهذا يصح إذا كان مصحوبا بالعلاج الحقيقي؛ أي بالمبادرة إلى تقوية الوازع الدياني، واستعادة مكانته وفاعليته. أما إذا تُرك الوازع الدياني في تراجعه وتنحّيه، واستمر الوازع السلطاني في توسعه وتقوّيه، فهذا يشكّل خطرا متعدد الوجوه..

  • فهو يرسخ إضعاف الوازع الدياني ويزيده ضعفا إلى ضعف، مع أنه هو الأصل في كافة الشعائر والشرائع الدينية.
  • وهو يغذي التمدد والاستبداد السلطاني، ويُـفضي إلى ما يسمى اليوم بـ”تغول الدولة”.
  • وهو ينشئ فهما محرفا؛ يوهم بأن الدين يمكن أن يقوم وتتحقق وظائفه، وتستقيم أموره، بقوة السلطان، وبالعصا لمن عصى.. وهنا عادة ما يأتي الاستدلال بالقول المأثور: “إن الله يزَعُ بالسلطان ما لا يزع بالقرآن[7].  وروي في لفظ آخر: “ما يزع الناسَ السلطانُ، أكـثرُ مما يزعهم القرآن“.

قال ابن العربي: “روى أشهب قال: قال مالك بن أنس: قال عثمان[8]: ما يزع الناسَ السلطانُ أكثر مما يزعهم القرآن. قال مالك: يعني يكفُّهم. قال ابن وهب مثله، وزاد: ثم تلا مالك: {فهم يوزَعون} أي يُكَفون.

فال ابن العربي: وقد جهل قوم المراد بهذا الكلام، فظنوا أن المعنى فيه أن قدرة السلطان تردع الناس أكثر مما تردعهم حدود القرآن. وهذا جهل بالله وحكمه وحكمته ووضعه لخلقه، فإن الله ما وضع الحدود إلا مصلحة عامة كافة قائمة بقوام الحق، لا زيادة عليها ولا نقصان معها، ولا يصلح سواها، ولكن الظَّـلَمة خاسوا بها[9]، وقصُروا عنها، وأتوا ما أتوا بغير نية منها، ولم يقصدوا وجه الله في القضاء بها؛ فلذلك لم يرتدع الخلق بها.

ولو حكموا بالعدل؛ وأخلصوا النية، لاستقامت الأمور، وصلح الجمهور…”[10].

وفي كلام ابن العربي ثلاثة عناصر أُوَضحها بما يلي:

  1. أن بعض الناس فهموا وزعموا أن أصحاب الانحرافات والجنايات والمعاصي تردعهم التدابير السلطانية الزجرية، أكثر مما يرتدعون بالحدود الشرعية القرآنية. فكأنَّ السلطان أكثرُ زجرا لهم من القرآن!
  2. أن ضعف الارتداع بالحدود والأحكام القرآنية في بعض الحالات، إنما مرده إلى سوء تطبيقها وسوء القصد في ذلك، وإلى المظالم والتعسفات المصاحبة لها.
  3. أن الحكام “لو حكموا بالعدل؛ وأخلصوا النية، لاستقامت الأمور، وصلُح الجمهور”.

فابن العربي، وهو من أشهر قضاة الأندلس وأشدهم شكيمة، يُرجعنا إلى أن الوازع الدياني – العدل، وإخلاص النية – هو معتمد الشريعة الأهم، وهو سر النجاح أو الفشل في تطبيق أحكامها وجني ثمارها.

وحين نتحدث عن مجمل الشريعة، وعن عموم المجتمع، بكافة أفراده وفئاته، فلا بد أن نستحضر أن الحوافز الذاتية الداخلية هي أساس كل صلاح وإصلاح، وهي السر في مدى نجاح القوانين والتشريعات والقرارات، وفي مدى فاعليتها ومردوديتها.

أما التعويل على الأحكام والتدابير السلطانية، مع إهمال الحوافز والضوابط الديانية الداخلية، فإنما هو – في أحسن الأحوال – تعويل على الضبط القهري للظواهر، مع فساد البواطن والسرائر.

وإذا كان هذا هو ما يقال عن الشريعة، بمختلف أقسامها، فأحكام العبادات تكون ميتة، أو في حكم العدم، إذا غاب عنها الوازع الدياني القلبي. وهذا معلوم مسلَّم، لا يحتاج إلى إطالة.. فلننتقل إلى بيت القصيد، وهو التدخل السلطاني في العبادات.

المبحث الثالث

تدَخل الحكام في شؤون العبادات:

ما يصح وما لا يصح؟

تقرر في المبحث السابق أن الوازعين الدياني والسلطاني تجمعهما علاقة تجاور وتآزر، في مجمل أبواب الشريعة، فهل ذلك مُطَّرد حتى في مجال العبادات؟ مع التسليم المجمع عليه بأن مجال العبادات هو أساسا مجال دياني تعبدي توقيفي، وله خصوصياته.. ومنبع تلك الخصوصيات هو أن العبادات راجعة إلى حق الله، بينما أحكام العادات راجعة إلى حقوق العباد، كما قال الشاطبي[11].

فالعبادات عهد مباشر، ورابطة مباشرة، بين العبد وربه؛ {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 60، 61].

ورغم أن العبادات كلها عائدة بالنفع والصلاح على العباد، أفرادا ومجتمعات، في دنياهم قبل آخرتهم، فإن أداءها والحساب عليها، إنما هو لله، ومع الله، وهو ما يضفي عليها وعلى مقاصدها حرمة وتثبيتا، وحماية وتحصينا من الإلغاء أو التلاعب.

ومن الأمثلة المبكرة لذلك:

 ما في صحيح البخاري: عن أبي سعيد الخدري، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلَّى، فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف، فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم، ويوصيهم، ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه، أو يأمر بشيء أمر به، ثم ينصرف». قال أبو سعيد: «فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجتُ مع مروان[12] – وهو أمير المدينة – في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه[13] قبل أن يصلي، فجبذت بثوبه، فجبذني، فارتفع، فخطب قبل الصلاة. فقلت له: غيرتم والله، فقال: «أبا سعيد: قد ذهب ما تعلم»، فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم، فقال: «إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة».

ومعلوم أن فكرة الأمير مروان لم يُـقـرَّه عليها أحد، ولا تبعه فيها أحد، ولا ذُكر أنه كررها؛ لأنه تجاوز حدوده، وتصرفَ فيما لا يقبل التصرف، ولقي من الإنكار ما لقي.

إذن فما الذي يجوز، وما الذي لا يجوز، للسلطان[14] أن يتدخل فيه، من شؤون العبادات – الفردية والجماعية – وأن يفرض فيه أحكامه وقراراته الملزمة، مثلما يفعل في البيوع والمناكحات والخصومات والجنايات؟

لخص الشيخ محمد بخيت المطيعي هذه المسألة بقوله:

“اعلم أن العلماء اختلفوا في أن العبادة المحضة: تدخل تحت الحكم والقضاء، او لا تدخل.

فقال فريق: إنها تدخل تحته.

وقال فريق إنها لا تدخل.

وفريق فصَّل وقال: إنها لا تدخل تحت الحكم والقضاء قصدا، وتدخل تحته تبعا، لحقِّ العبد”[15].

ثم قال الشيخ بخيت: “وأما أنّ شيئا من العبادات والديانات المحضة يدخل تحت الحكم، بمعنى القضاء والإلزام المحض مجردا عن حق العبد، فلا قائل به أصلا”[16].

ومن أهم القواعد الفقهية التي برزت في هذا الباب: قاعدة: حكم الحاكم لا يدخل العبادات[17].

ولعل أكثر العلماء وضوحا وحسما في تقرير هذه القاعدة هو الإمام شهاب الدين القرافي، الذي تطرق إلى مضمونها في العديد من كتبه، كما في قوله: “اعلم أن العبادات كلها على الإطلاق لا يدخلها الحكم[18] ألبتة، بل الفتيا فقط. فكل ما وجد فيها من الإخبارات[19] فهي فتيا فقط. فليس لحاكم أن يحكم بأن هذه الصلاة صحيحة أو باطلة، ولا أن هذا الماء دون القلتين، فيكون نجسا، فيحرم على المالكي بعد ذلك استعماله، بل ما يقال في ذلك إنما هو فتيا، إن كانت مذهبَ السامع عَمل بها، وإلا فله تركُها والعملُ بمذهبه. ويلحق بالعبادات أسبابها”[20].

وأما “أسبابها”: فمثل الأوقات الموجبة للصلوات، وهلال رمضان، بدايةً ونهاية، وتحقق الاستطاعة الموجبة للحج، والأسباب الموجبة للكفارات..

فالحاكم متى تدخل وصرح باجتهاده وحكمه في عبادة من العبادات وأسبابها الشرعية، فذلك يبقى مجرد حكم فقهي، أي فتوى، ولا يعدُّ حكما سلطانيا ملزما.

فما الذي يمكن للحاكم – بصفته حاكما – أن يتدخل فيه من شؤون العبادات؟

بناء على ما تقدم في كلام بعض العلماء – من إشارات وتقييدات وأمثلة – حول ما يمكن وما لا يمكن، من تدخلات الحكام في شؤون العبادات، نستطيع تحديد أهم مجالات التدخل السلطاني فيما يلي:

  1. حقوق العباد التابعة للعبادات

وذلك كحقوق الأئمة والقيمين على المساجد، وحقوق العاملين على الزكاة والأوقاف، وحقوق المطوفين في الحج والعمرة.

  •  التدابير التنفيذية والتنظيمية لتيسير العبادات

كتنظيم صلاة التراويح المحققة لقيام رمضان، وأمور الحج، بجميع مراحله، وتنظيم أمور الزكاة تحصيلا وتوزيعا ونقلا وحفظا، والإشراف التوجيهي على مراكز تحفيظ القرآن تربويا وصحيا..

  • المنازعات الناشئة عن ممارسة العبادات

وذلك كتنازع أهل المسجد مع بعضهم، أو مع الأئمة: في شؤون الإمام وإمامته، وتحديد القبلة في أي مسجد، وإدارة المسجد، ومواقيت الصلوات أذانا وإقامة، وصفوف المصلين، والاختلاف في إدارة أوقاف المساجد..

ومن هنا يظهر أن الحكام لا تدَخُّل لهم في صلب العبادات وجوهرها، فالعبادة علاقة مباشرة للعبد مع ربه سبحانه، لا تدخُّل فيها لأحد إلا بالبيان والإرشاد، أو بالفتوى الفقهية من أهلها[21].

 والخلاصة هي: أن التدخل الملزم للولاة والقضاة محصور فيما يحقق هذه الأغراض:

  1. الخدمة الخارجية للعبادات ووسائلها، الميسرة لها.
  2. فضُّ المنازعات الناشئة عن ممارسة العبادات، إذا كانت تفضي إلى الخصومة أو الفُـرقة أو الفتنة.
  3. إحقاق حقوق العباد الدنيوية، المرتبطة بالعبادات، وإنصافُ المتضررين بسببها.

المبحث الرابع:

تطبيقات وتحقيقات

الفروع والجزئيات التطبيقية في هذا الباب لا تكاد تحصى، ولا تتوقف عن الطروء والتزايد، في مختلف أبواب الشريعة، ومنها أبواب العبادات. ولذلك سأقتصر على نماذج محدودة من مسائلها..

المسألة الأولى: تارك الصلاة تهاونا

التعامل مع تارك الصلاة، من أهم المسائل الفقهية التي تندرج في موضوعنا، أي: مدى تدخل الوازع السلطاني (أو الدولة) في صميم العبادات كالصلاة والصوم والزكاة. وكثير مما يقال عن التعامل مع تارك الصلاة، ينطبق على المثال اللاحق وهو ترك الصوم. كما قال ابن بُـزيزة التونسي في شأن الممتنع عن الصوم: “والذي قدمناه في تارك الصلاة جارٍ فيه… ونصَّ أشياخ المذهب على أن حكم ترك الصيام حكم ترك الصلاة”[22].

وأبدأ أولا بمسألة تارك الصلاة، ثم ألحق بها – باختصار – مسألة المفطر علنا في رمضان بدون عذر.، لما بين المسألتين من تداخل وتطابق في الأحكام والأدلة والتداعيات.

ومعلوم أن الصلاة هي الركن العملي الأعظم في الإسلام وفي حياة المسلمين، بل هي العبادة الأهم والأجلُّ في كافة الديانات المنزلة.

 فما العمل مع من يتركها ويصر على تركها؟

وماذا يقول السادة الفقهاء في المسألة؟

أولا: قول الجمهور..

        ما عليه جمهور الفقهاء هو: أن تارك الصلاة، إذا أصر على امتناعه، يقتل. وهو القول المعتمد في المذاهب الثلاثة: المالكي والشافعي والحنبلي، وهذا القول ثابت – وبشكل صريح – عن الأئمة: مالك والشافعي وأحمد.

وقول فقهاء المذاهب الثلاثة هو أيضا – ومن باب أولى – ما عليه كثير من المحدثين القائلين بكفر تارك الصلاة؛ فهو عندهم كافر، ويقتل ردة. وهو قول الإمام أحمد وغيره من الحنابلة. وإلى هذا ذهب ابن حبيب، من مالكية الأندلس، قال: “وأما تارك الصلاة إذا أمره الإمام بها فقال: لا أصلي فليقتل، ولا يؤخر إلى ما بينه وبين آخر وقتها”[23].

 وأما عند المالكية والشافعية: فهو مسلم، ويقتل حدا، لا ردةً..

وبما أن اتفاق المذاهب الثلاثة على قتل المصِرِّ على ترك الصلاة، أمر معلوم ومحسوم، ولا غبار عليه، فلا أطيل بسرد الأقوال والأدلة الفقهية بذلك، ولكني أذكر على الخصوص بعض ما جاء عن أئمة المذاهب الثلاثة في المسألة، لأن أقوالهم في الحقيقة هي أقوى سند ومستمسَك لمن تبعهم وبنى على أقوالهم.

  • فعن قول الإمام مالك: جاء في المدونة (جامع ابن يونس): “قال ابن القاسم عن مالك: ومن ترك الصلاة قيل له: صل، فإن صلى وإلا قتل”[24]. وفي (البيان والتحصيل) لابن رشد: “وسألته عمن ترك الصلاة، قال: يقال له: صل، وإلا ضربت عنقه”[25].
  • وأما الإمام الشافعي:

 فلعله أول من بسط رأيه محررا ومطولا، في كتابه (الأم). ومن ذلك قوله: “وقد قيل: يستتاب تارك الصلاة ثلاثا[26]، وذلك إن شاء الله تعالى حسن. فإن صلى في الثلاث، وإلا قتل”[27].

  • وعن الإمام أحمد، روايات متعددة، في قتل الممتنع عن الصلاة، منها:

لما سئل “عمَّن ترك الصلاة والزكاة والصوم والجمعة والحج عمدًا -وهو يقدر على ذلك- ولم يمنعه من ذلك مرض ولا خوف، قال: أما في الصلاة: إذا تركها إلى أن يدخل وقت صلاة أخرى، يستتاب ثلاثًا، فإن تاب وإلا.. يعني: قُـتل”[28].

وعن أبي بكر المروذي قال: “سألت أبا عبد اللَّه عن تارك الصلاة؟ فقال: إذا قال: لا أصلي؛ قُـتل”[29].

ثانيا: قول الإمام أبي حنيفة ومن معه

       هذه الفئة من الفقهاء – وعلى رأسهم الإمام أبو حنيفة – يشتركون في القول بأن تارك الصلاة من غير جحود لها: لا يقتل. ثم تتعدد عندهم الأقوال بعد ذلك فيما يجب فعله معه: من القول بتعزيره، أو بحبسه حتى يصلي أو يموت، إلى القول بتركه وشأنَـه. وأمرُه إلى الله.

 قال الإمام الشافعي: “وقد خالفَنا بعضُ الناس فيمن ترك الصلاة إذا أُمر بها، وقال: لا أصليها، فقال: لا يقتل. وقال بعضهم: أَضربُه وأحبسه. وقال بعضهم: أحبسه ولا أضربه. وقال بعضهم: لا أضربه ولا أحبسه، وهو أمين على صلاته”[30].

ولعل صاحب هذا القول الأخير هو الإمام أبو حنيفة تحديدا، كما ورد في قول إمام الحرمين: “وقال أبو حنيفة: لا يكفر ولا يقتل أيضاً، ثم قال في رواية: لا يُــتعرض له، بل يخلّى سبيله؛ فإن الصلاة أمانةُ الله تعالى، فأمره في تركها وإقامتها موكول إلى الله تعالى”.

وبالإضافة إلى الفقهاء الأحناف، فقد حُكيَ القولُ بعدم القتل، عن علماء آخرين، من غير المذهب الحنفي.

ذكر القاضي عبد الوهاب البغدادي ما يلي: “وقال أبو حنيفة والثوري والمزني: لا يقتل بوجه. وحُكي عن أبي حنيفة: أنه يخلَّى بينه وبين الله”[31].

والمزني، إسماعيل بن يحيى، من أكابر أصحاب الشافعي، وهو إمام الشافعية بعد الشافعي. وموقفه هذا ثابت، أكده كثير من أئمة الشافعية، كما في قول إمام الحرمين: “وقال أبو حنيفة: لا يكفر ولا يقتل أيضاً، ثم قال في رواية: لا يتعرض له، بل يخلّى سبيله؛ فإن الصلاة أمانةُ الله تعالى، فأمره في تركها وإقامتها موكول إلى الله تعالى، وقال في رواية: يحبس ويؤدب، فإن استمر على ترك الصلاة، أدّبناه في وقت كل صلاة، ولا ينتهي الأمر إلى ما يكون سبباً للهلاك. وهذا مذهب المزني”[32]،

وقال البغوي: “وقال أبو حنيفة- رحمه الله-: تارك الصلاة لا يقتل، بل يحبس، ويضرب؛ كتارك الصوم؛ وهو قول الزهري، وبه قال المزني”[33].

ونُسب هذا القول كذلك إلى ابن دقيق العيد[34]. قال أحمد زروق: “وثالثها الحنفي: يبالَغ في أدبه ولا يقتل، ومال إليه ابن دقيق العيد…”[35].

وأما نسبة هذا القول إلى الإمام مالك، فلعله مجرد وهْم وقع فيه الماوردي، حين قال: “مذهب أبي حنيفة ومالك: أنه لا يكفر بتركها، ولا يقتل، ويحبس حتى يصلي”[36]، أو لعله غلط دخيل على كتاب الماوردي؟

فهذا ملخص الأقوال في المسألة. والآن:

  • مناقشة وتحقيق

ذكرتُ في صفحات سابقة من هذا البحث لمحات عن طبيعة العبادات ومقاصدها وخصوصياتها. ومن ذلك أنها عهد بين الله تعالى وعباده، وأن الرقيب والحسيب فيها هو الله عز وجل. ولذلك فهي كلها فرائض عينية، لا يغني فيها أحد عن أحد.

وعرضتُ نبذة عما قرره كبار الفقهاء من أن العبادات المحضة وأسبابها الشرعية، لا مدخل فيها للحكام وأحكامهم..

وذكرت بعض الأمور التابعة للعبادات، التي يجوز – أو يجب – فيها تدخل الحكام، بما يخدم العبادات بالتسهيل وحسن التنظيم، وبما يحفظ حقوق العباد المرتبطةََ بالعبادات..

ولا شيء مما سبق، يتضمن المحاسبة السلطانية لمن تقاعسوا – ولو جزئيا – عن أداء صلواتهم، أو يستدعي قتل تارك الصلاة.

ولذلك فإن القول بقتل الممتنع عن الصلاة، أو حبسِه حتى الموت، هو تشدد مجافٍ لقواعد الشريعة ومقاصدها ونهجها الاستصلاحي. والصواب في المسألة هو القول بترك المؤمنين إلى إيمانهم وأمانتهم، ولكن مع إعمال الوازع الدياني، بكل شعَبه ومداخله.

معالجة المشكلة عبر الوازع الدياني

وقبل التطرق إلى بعض أدلة القائلين بقتل تارك الصلاة، أُوَضحُ أولا المسلك الطبيعي والناجع لمعالجة المشكلة، وهو – للأسف – مسلك مُـغْـفل ومهمل تماما في كلام عامة الفقهاء، عند تناولهم للمسألة!

والوازع الدياني له شُعب ومسالك متعددة في التأثير والتحفيز والزجر والعلاج، سواء عند ترك الصلاة أو الصيام، أو غيرهما من الفرائض الشرعية..

الشعبة الأولى: هي ما سبقت الإشارة إليه عند ذكر رأي الإمام أبي حنيقه ومن معه من المعارضين للقتل؛ وهي التعويل على إيمان المؤمن وأمانته. فما دام في قلبه إيمان وخير، وما دام يعيش في أحضان مجتمع مسلم، وفي ظل دولة إسلامية، فمن المتوقع والمرجو أن يتحرك إيمانه وأمانته وتوبته، ذات يوم أو ذات ليلة..

الشعبة الثانية: وظيفة العلماء؛ وهي البيان والتعليم لمنزلة الصلاة، وأحكامها، ومقاصدها، وفوائدها، وبيان ما يلحق تاركَها من خسائر وأضرار، في دنياه وآخرته.. وهنا تدخل فتاوى المفتين. فإذا أراد الحاكم الخير والرشاد للناس، فليُمَكنهم – بدون استثناء وبدون صعوبات – من الاستماع الدائم إلى العلماء والمفتين والمدرسين لعلوم الشرع.

الشعبة الثالثة: وظيفة الدعاة والوعاظ، الذين يعتمدون الترغيب والتحبيب، والتحذير والترهيب، ويحملون راية الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر. فيوقظون العقول والقلوب، سواء بمحاورة أفراد معينين، أو مخاطبة عموم الناس: في مساجدهم وأسواقهم وحقولهم ومراعيهم ومنتدياتهم.. والمجال هنا أيضا واسع للولاة والقضاة، لفتح الأبواب وفسح الطرق لهذه الشعبة، وتعميم الاستفادة منها للنساء والرجال، والكبار والصغار.

الشعبة الرابعة: تأثير المجتمع.. فالمجتمع متى كان متشبعا بالتفقه وبالثقافة الدينية، فسيكون – بشكل تلقائي – حافزا وضاغطا وحاجزا، لكل من يميل نحو الشرود والشذوذ، وذلك عبر علاقات الجوار والقرابة والصداقة والزمالة.. وهنا أيضا تحضر فريضة الأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر، فهي في أعناق جميع المكلفين، لا سيما في دوائر حياتهم وعلاقاتهم الخاصة..

وإذا تم تشغيل هذه الشعب الديانية، فلن تحتاج إقامة العبادات إلى والٍ ولا قاضٍ. ولن نحتاج إلى البحث عن تاركي العبادات. ولو بحثنا عنهم فقد لا نجدهم. وإذا وجدنا بعضهم ذات يوم، فلن نجدهم بعده.

مفاسد التدخل السلطاني في أداء الصلاة

تدَخُّلُ الدولة وولاتها وقضاتها في أداء الصلاة، ومحاكمةُ المتهاونين فيها، ومعاقبتهم حتى بالقتل.. هذا التدخل له أضرار سيئة وآثار وخيمة؛

  1. فهو أولا يجعل الناس يتجسس بعضهم على بعض ويراقب بعضهم بعضا، من أصدقاء وزملاء وأقارب وجيران، ثم الذهاب نحو الحاكم لتبليغه أن فلانا لا يصلي، أو لم يصلِّ اليوم أو أمس، أو لا يصوم..

وقد يكون التبليغ غير صحيح؛ فيه تسرع أو سوء ظن، وقد يكون كيديا انتقاميا؛ كأنْ يبلغَ أحد الزوجين المتخاصمين عن الآخر بأنه تارك للصلاة والصيام، ونحو ذلك..

  • وهو يؤدي إلى فسح المجال أمام التدخل السلطاني المتزايد في القضايا العلمية والفكرية، العقدية والتعبدية، إلى أن يحل الولاة والقضاة محل العلماء والمفتين والدعاة. وحين نتأمل بعض الأقوال الفقهية المغالية، يبدو وكأننا بحاجة إلى إحداث “شرطة العبادات” أو “شرطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، وهذا ما أخذت به بعض الدول الإسلامية في هذا العصر، ولكنها تجربة فاشلة..

       وهذا نموذج للمغالاة الفقهية في الموضوع: قال ابن قيم الجوزية رحمه الله: “وحكم ترك الوضوء، والغسل من الجنابة، واستقبال القبلة، وستر العورة، حكم تارك الصلاة. وكذلك حكم ترك القيام للقادر عليه، هو كترك الصلاة. وكذلك ترك الركوع والسجود. وإنْ ترَكَ ركنا أو شرطا مختلفا فيه، وهو يعتقد وجوبه، فقال ابن عقيل: حكمه حكم تارك الصلاة، ولا بأس أن نقول بوجوب قتله”[37].

  • وهو يؤدي إلى تعطيل الوازع الدياني بكل شعبه وطاقاته المذكورة آنفا، ويُشيع ظنا خاطئا، بأن مسؤولية حفظ أمور الدين وشعائره موكولة إلى الدولة ومؤسساتها ومسؤوليها.

ولكن من الواضح أن التدخل السلطاني في أداء العبادات، والمعاقبةَ على الإخلال بها، لم يكن له – عبر التاريخ – كبير شأن أو أثر، ولم ينتهض بديلا حقيقيا عن الوازع الدياني، مع أن السادة الفقهاء إنما لجأوا إلى استدعاء الوازع السلطاني والتعويل عليه، غيرةً منهم على حُرمة الدين، وسعيا إلى حفظه وإنفاذ شرائعه في المجتمع.

نظرة في أدلة الجمهور

وهذه نظرة في أهم استدلالاتهم على القول بقتل تارك الصلاة:

  1. هل في المسألة نص؟

بما أن قتل تارك الصلاة ليس فيه نص خاص يحسمه، فقد تكاثرت استدلالات الفقهاء وتنوعت، عسى تكثيرُها وتعاضُدُها يسدّان مسدا.. فمن الاستدلال بالقرآن، إلى التنقيب في السنة، إلى دعوى الإجماع، إلى الاستنجاد بالقياس، إلى التعلق بالاستحسان..

وحتى الإمام الشافعي، وهو أشدُّ المنكرين للاستحسان، وجدناه “يستحسن” في هذه المسألة! قال رحمه الله: “وقد قيل: يستتاب تارك الصلاة ثلاثا، وذلك إن شاء الله تعالى حسن. فإن صلى في الثلاث، وإلا قتل”[38].

       وقد نبه إمام الحرمين، وهو من أساطين المذهب الشافعي، على أن المسألة ليس فيها نص خاص، يشفع للإمام الشافعي، مع أن إزهاق روح مسلم شيء جسيم خطير. قال رحمه الله: “وأما الشافعي؛ فإنه رأى قتلَ تارك الصلاة، ومأخذ مذهبه الخبرُ، مع أنه لم يرد في هذا الخبر قتلٌ على التخصيص. والهجوم على قتل مسلمٍ عظيمٌ مشكل”[39].

واعتبر أن هذا القول مشكل جدا، وأنه غير لائق بمذهب الإمام الشافعي[40].

وقد رام شمس الدين الأبياري [المالكي] الردَّ على إمام الحرمين، في كلام طويل جاء في مطلعه: “وأما ما استشكله الإمام[41] من قتل تارك الصلاة، وقولُه: إنه لم يرد فيه نص، فليس الأمر على ما قال، بل فيه نص من الكتاب والسنة، وإجماعٌ ضمني عن الصحابة رضي الله عنهم.

أما الكتاب: فإن الله تعالى يقول في كتابه: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}. فأمر بقتلهم … ثم شرط في رفع ذلك ثلاثة شروط…”[42].

وقد أغفل الأبياري رحمه الله أن الآية تتحدث عن المشركين، الذين هم في حالة حرب مع المسلمين، وفي زمن حددته الآية: [فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ…]. فالشروط الثلاثة المذكورة (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ): هذا محلها لا غير. والأبياري لفت الانتباه إلى هذه الشروط الثلاثة.. ولكنه لم يلتفت إلى شروط ثلاثة أخرى سابقة، وهي: حالة الحرب، ومع المشركين، وفي الزمن المذكور..

فهذا نموذج من الاستدلال ببعض النصوص، على القول بقتل تارك الصلاة، وهو قائم على منهج التكلف والتعسف والتأويل البعيد..

  • تكفير تارك الصلاة؟

ومما يَستدل به القائلون بتكفير تارك الصلاة، الموجبِ قتلَه ردةً، تمسكهم بالظواهر الحرفية لبعض الأحاديث المصرحة بكفر تارك الصلاة.. مع أن أحاديث أخرى وَصفَت بالكفر عدة أفعال، ولم يقل أحد بتكفير أصحابها.

فلفظ “الكفر” ليس معناه الوحيد هو الكفر الاعتقادي المخرج من الملة، بل من معانيه أيضا: الجحود، والذنب القريب من الكفر، أو الذي يقود إليه. ومن معانيه: الكفر الذي هو ضدُّ الشكر. 

قال الله تعالى على لسان نبيه سليمان عليه الصلاة والسلام: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40].

وفي موطأ الإمام مالك – من حديث ابن عباس رضي الله عنهما – (…ورأيت النار فلم أر كاليوم منظرا قط أفظع. ورأيت أكثر أهلها النساء، قالوا: لِـمَ يا رسول الله؟ قال: لكفرهن، قيل: أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان. لو أحسنتَ إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منك شيئا، قالت: ما رأيت منك خيرا قط)[43].

وفي رواية الإمام مسلم (…قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بكفرهن، قيل: أيكفرن بالله؟ قال: بكفر العشير، وبكفر الإحسان).

وفي الصحيحين وغيرهما، (عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر).

وفي الحديث الصحيح المتفق عليه: (لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض).

  • قتال مانعي الزكاة، هل يدل على قتل تارك الصلاة؟

ومن أهم تعلُّقات القائلين بقتل تارك الصلاة: واقعة قتال الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لمن منعوا الزكاة. يقولون: “ووافقه الصحابة على ذلك، فصار إجماعا”!.

 ويقولون: الصلاة أعظم شأنا من الزكاة، فقتلُ من ترك الصلاة، أولى من قتل من منع الزكاة..

وفاتهم أن أبا بكر رضي الله عنه، لم يقتل قط مانعا للزكاة، ولا تاركا للصلاة.. وإنما قاتل[44] تمردا جماعيا مسلحا، وكان من تجليات ذاك التمرد: المنع الجماعي للزكاة، والخروج الجماعي على الخليفة، خروجا يوصف عادة بأنه كان ردة. فالقول المجرد: بأن أبا بكر قتل مانعي الزكاة، فنحن – من باب أولى – نقتل تاركي الصلاة، غلط لا شك فيه. 

والتكييف الصحيح لهذه الواقعة التي واجهها الخليفة أبو بكر، هو أنها: عصيان مدني، وتمرد مسلح، وردة جماعية منظمة. وما كان أبو بكر رضي الله عنه لينقب ويقتل فردا أعزل، يؤتى به من بيته، أو من ماشيته، أو من بستانه، أو من متجره، لأنه تقاعس عن صلاته، أو تهرب من أداء زكاته. وحكم الامتناع الفردي من أداء الزكاة، ليس القتل ولا القتال، وإنما هو أخذها منه كرها، فقط.

ثم لا ننس أن الصلاة من حقوق الله المحضة، بينما الزكاة فيها حقوق العباد، والمؤمنون {فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم}، فلا بد من أداء هذا الحق لأصحابه. والإمام يتدخل لحفظ حقوق العباد حتى لو كانت ضمن عبادة، كما تقدم بيانه. وأما العبادة المحضة فلا مدخل له فيها. فالاعتبار التعبدي للزكاة لا وجود له في حالة الإكراه على أدائها، ولذلك ليس لصاحبها أجر فيها. فالتدخل السلطاني هنا إنما هو لحق العباد، لا لحق العبادة. وأما الصلاة فهي حق خالص لله تعالى.

المسألة الثانية: الإفطار في رمضان بدون عذر

قال الحطاب الرعيني [المالكي]: “أجمعت الأمة على وجوب صيام رمضان. فمن جحد وجوبه فهو مرتد، ومن امتنع من صومه مع الإقرار بوجوبه قتل حدا، على المشهور من مذهب مالك. قال ابن عرفة: صوم رمضان واجب، جحْدُه وتركه كالصلاة، انتهى. وقال في (فرض العين): والممتنع من صومه يقتل. وكذلك الممتنع من الصلاة والوضوء وغسل الجنابة. ولا يقتله إلا السلطان”[45].

والقول الآخر عند الفقهاء هو أن “من قال: الصوم واجب عليّ ولكن لا أصوم، حُبس ومُنع الطعام والشراب نهارا، ليحصل له صورة الصوم بذلك”[46].

ومعاقبة المفطر علنا في رمضان بغير عذر، ما زال يُـنص عليه ويفتَى به لدى بعض الفقهاء المعاصرين، وأخذت به القوانين الجنائية لبعض الدول الإسلامية، كما في الفص 222 من القانون الجنائي المغربي، الذي ينص على أن “كل من عُرف باعتناقه الدين الإسلامي، وجاهر بالإفطار في نهار رمضان في مكان عمومي، دون عذر شرعي، يعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر وغرامة مائتي درهم”.

وفي هذه المسألة ينبغي أن نفرق بين صنفين من المفطرين عمدا في رمضان:

الصنف الأول: من يأكل أو يشرب بشكل عادي، ليس فيه تعمد إثارة ولا تظاهر، ولكنّ تصرفه قد يقع تحت سمع الناس وبصرهم، بمعنى أنه لا يُـخفي إفطاره، ولكن لا يقصد إظهاره.

والصنف الثاني: من يفطر في نهار رمضان علنا، ويتعمد إظهار ذلك وجذب الانتباه إليه..

وهذا الصنف جدير بأن يُزجر ويُكَفَّ أذاه وتحديه للمجتمع، ولكن ليس لأجل الإفطار، وإنما لأجل تعمد التظاهر والدعاية. وهذا سلوك حديث، لا نجد له ذكرا في العصور القديمة، ولذلك فهو داخل تحت قاعدة (تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور).

أما الصنف الأول، وهو المفطر تلبية لشهوته وعاداته، دون تعمد للتظاهر والبروز.. فهذا الذي أقول: لا شأن للدولة به، وأمره إلى الله. ولكن بين هذا وذاك: يبقى تشغيل الحوافز الديانية، التي سبق بيانها آنفا؛ فهي كفيلة بالعلاج الأمثل.

وبالإضافة إلى الاعتبارات التي ذكرتها فيما يخص تارك الصلاة، وأكثرها جارٍ هنا، فللصوم وتاركه اعتباراتٌ إضافية، تجعل الوازع السلطاني غير مناسب ولا مُـجدٍ. ومنها:

  1. أن للإفطار في رمضان أعذارا شرعية عديدة معلومة وهي: السفر، والمرض، والجنون، والضعف البدني الـمَخُوف، والحيض، والنفاس، والحمل، والإرضاع..

 فإذا رأينا مسلما – رجلا أو امرأة – يأكل أو يشرب في نهار رمضان، أو سمعنا عنه ذلك، فالواجب أن نظن بأنه صاحب عذر شرعي، ونكفَّ. وليس مطلوبا من أحد أن يستفسر ويتحقق من أمره وعذره، وليس مطلوبا منه هو أن يخبر بعذره.. و(من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)[47].

  •  الإفطار العمدي في رمضان، حتى لو كان بدون عذر، قد جعل الشرع له عقوبة من جنسه، أي عبادةً أخرى؛ وهي الكفارة. فعقوبة هذا المفطر إذاً منصوصة ومحسومة. فكيف نحدث عقوبة أخرى مع وجود عقوبة شرعية نصية؟!

فلم يبق إلا النظر في مدى إمكانية العقوبة على خرم النظام الاجتماعي وتحديه، وهذه مسألة خارجة عن جوهر موضوعنا، وهو التدخل السلطاني في العبادة نفسها.

المسألة الثالثة: إثبات هلال رمضان

       أوردتُ سابقا قول القرافي وغيره بأن حكم الحاكم لا مدخل له في العبادات وفي أسبابها. ومن أمثلة ذلك: إثبات هلال رمضان، الذي ينبني عليه وجوب البدء في الصيام.

       فإذا أعلن الحاكم – مثلا – ثبوت هلال رمضان عنده، يوم التاسع والعشرين من شعبان، بناء على شاهد واحد شهد عنده أو عند القاضي المكلف: أنه رأى الهلال، أو بناء على الحساب الفلكي المعتمد عنده.. ثم دعا الأمة أو أحد أقطارها، للصيام غدا..

  • فهل له أن يفعل ذلك؟
  • وهل دعوته إلى الصيام تكون ملزمة لمن لا يعتدُّون بالشاهد الواحد في إثبات الهلال، ويشترطون ثبوت المشاهدة من شاهدين اثنين فأكثر، ولم يحصل عندهم ذلك؟ أو لمن لا يأخذون بالحساب الفلكي، الذي أخذ به السلطان؟

أمَّا: هل له أن يفعل ذلك؟ فنعم؛ وهذا لا خلاف فيه، والعمل جار به عند عامة المسلمين، قديما وحديثا.. لأن هذا من باب المساعدة والإفادة والإرشاد لعموم الناس، ولأن القاضي له من الخبرة والقدرة على التثبت والتدقيق مع الشهود، ومع الجهة العلمية الفلكية التي قررت ثبوت الهلال بناء على الحساب الفلكي، ما ليس لعامة الناس. وقد يظهر للقاضي اضطراب أو خلل خفيٌّ فيما قُدم له عن ثبوت الهلال..

وعلى سبيل المثال: نقل تقي الدين السبكي ما حُكي عن الصحابي الجليل أنس بن مالك، حين شهد عند القاضي الشهير إياس بن معاوية أنه رأى الهلال، بينما جماعة من الناس شهدوا أنهم راقبوا الهلال ولم يره منهم أحد. “فتفطن إياس بذكائه ونظر إلى عين أنس، فوجد عليها شعرة بيضاء قد نزلت من حاجبه، فرفعها إياس بيده، وقال له: أرني الهلال، قال: لا أنظره.”[48].

وأما: هل للحاكم أن يُـلزم الناس بهذا الإثبات، وهل يجب عليهم الصيام بناء عليه، وهم على مذاهب مخالفة، لا تأخذ بالشاهد الواحد، أو لا تأخذ بالحساب الفلكي؟ مع أن معظم البلدان الإسلامية فيها مذاهب متعددة.

فهذا هو بيت القصيد في المسألة.

 وقد ذكرتُ سابقا قول القرافي بأن حكم الحاكم في العبادات “إنما هو فتيا، إن كانت مذهبَ السامع عَمل بها، وإلا فله تركُها والعملُ بمذهبه. ويلحق بالعبادات أسبابها”[49].

       وهذا هو الذي يشهد به التاريخ الإسلامي.. فما يعتمده الحاكم ويعمل به من ثبوت هلال رمضان لديه، ليس ملزما لأصحاب المذاهب والاجتهادات المخالفة في طرق إثبات حلول الشهر الكريم.

ومن ذلك: إذا كان الحاكم يأخذ بالرؤية المحلية للهلال دون سواها، عملا بمقولة “لكل بلد رؤيته”، وغيـرُه من أتباع المذهبين الحنفي والمالكي يعملون بعموم الرؤية، فليس له أن يلزمهم بمذهبه ورؤيته المضيقة.

ومن الأمثلة المبكرة في هذا الباب: ما في صحيح مسلم: (عن كريب، أن أمَّ الفضل بنتَ الحارث، بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمت الشام، فقضيت حاجتها، واستهل عليّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت: نعم، ورآه الناس، وصاموا وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين، أو نراه، فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم)“.

فابن عباس رضي الله عنهما لم يلتزم بما عليه الخليفة معاوية، ولم يره ملزما له، رغم قرب المسافة بين الحجاز والشام، بل أخذ باجتهاده ورؤيته.

ومن ذلك: إذا أعلن الحاكم عدم ثبوت الهلال، وأنَّ يوم غد هو اليوم الثلاثون من شعبان، لكن واحدا من الناس – وأمثاله من الأفراد هنا وهناك – قد يرى الهلال ويتأكد منه، فهذا وأمثاله يلزمهم الصيام، ولا يلزمهم ما أعلنه الحاكم. وعلى هذا الأئمة الأربعة وغيرهم.

قال الحافظ ابن عبد البر القرطبي: “واتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم، فيمن رأى هلال رمضان وحده: أنه يصوم. وهو قول الثوري، والحسن بن حي، وأحمد بن حنبل. لا يسعه عندهم غير ذلك. وهو قول أبي ثور”[50].

وبعض المفتين المعاصرين يرون أن بدء الصيام أو إنهاءه، على خلاف ما قرره السلطان، هو خروج على الحاكم، وهو مدعاة للفرقة والفتنة..

وهذا محض تهويل وترهيب.. والتاريخ والواقع يكذبان هذه الدعوى. والمسلمون على مدار العام منهم الصائم ومنهم المفطر، في رمضان وفي غير رمضان.. فهل أحدث ذلك – في يوم من الأيام – فتنة أو فرقة أو استفزازا، أو شجارا بين المسلمين؟ وهل تسبب المفطرون في تخاصم أو شجار بين المسلمين؟

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، عام الفتح، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم، ونصوم، حتى بلغ منزلا من المنازل، فقال: إنكم قد دنوتم من عدوكم، والفطر أقوى لكم، فأصبحنا منا الصائم ومنا المفطر…)[51].

فهل طُلب من المفطرين أن يُـخفوا إفطارهم، أو أن يتظاهروا بالصيام، تجنبا لإحراج إخوانهم الصائمين؟

وعلى كل حال، فالمقصود هو أن مسألة إثبات الهلال، وبداية رمضان ونهايته، مسألة علمية تعبدية، وليست مسألة سياسية أو سيادية. فالبت فيها للعلم والعلماء.

وأما توحيد المسلمين في صومهم فممكن ميسور، لكن على أساس فقهي، لا على أساس سياسي وطني. مع أن الاختلاف في الصوم هو اختلاف ضئيل جدا، ولا يُـنتج فُـرقة ولا صراعات.

الخاتمة

** مما تتفوق به الشرائع الدينية عامة، والشريعة الختامية خاصة، امتلاكها للوازع الدياني إلى جانب الوازع السلطاني، مع إعطاء الأسبقية والرجحان لكفّة الوازع الدياني الذاتي. ولذلك تبقى الشرائع الدينية حية فاعلة معمولا بها، حتى مع نقص الوازع السلطاني أو انعدامه بالمرة، وحتى مع محاربته والتضييق عليه.

والأذكياء من أرباب السياسات والقوانين الوصعية العلمانية، يدركون أهمية الوازع الذاتي وتأثيره. ولذلك يسعون إلى تدارك فقدانهم له، فيعتنون بتبني مبادئ فلسفية وقيم أخلاقية ورؤية ثقافية وشعارات حماسية، ويعملون على تعظيمها وبثها في مجتمعاتهم، لتكون سندا ودعامة لشعبيتهم، ولما يعتمدونه من سياسات وتشريعات. وكثيرا ما يستنجدون بالأديان ويقتبسون منها، سواء اعترفوا بذلك أم لا.

** والوازع الدياني، كما أشرت من قبل، ليس قاصرا على العبادات، بل هو مبثوث في نصوص القرآن والسنة، وفي كل أبواب الشريعة، ومطلوب في كل جوانب الحياة. والحديث النبوي عدّ الحياء شعبة من شعب الإيمان؛ والحياء وازع دياني فطري لا غنى عنه. فعن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «الإيمان بضع وستون شعبة، أو بضع وسبعون شعبة، فأرفعها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»[52].

قال الإمام ابن حبان: “والحياء في نفسه: هو الشيء الحائل بين المرء وبين ما يباعده من ربه من المحظورات، فكأنه صلى الله عليه وسلم جعل ترك المحظورات شعبة من الإيمان”[53].

** وموضوع هذا البحث لا يزال مفتوحا على قضايا كثيرة، فقهية وأصولية وسياسية، وخاصة منها دراسة الفروع والآثار المنبثقة عن الأصول والقواعد المقررة، إعمالا أو إهمالا لها.

** والموضوع بحاجة أيضا إلى البحث في شقه التاريخي؛ لمعرفة مدى أخْذ القضاة والولاة بالمعاقبة السلطانية على ترك العبادات، وخاصة قتل تارك الصلاة، وهل ذلك مما جرى به العمل؟ وقد ذكر المؤرخ ابن الأثير عن الخليفة الموحدي عبد المومن بن علي: أنه “كان يعظم أمر الدين ويقويه، ويلزم الناس في سائر بلاده بالصلاة، ومن رئي وقت الصلاة غيـرَ مصل قتل”[54]. لكن تبقى الحاجة ماسة إلى معرفة مدى شيوع العمل به في أمكنة أخرى وأزمنة أخرى، من تاريخ الإسلام؟ وهل كان لذلك من جدوى؟

** والموضوع يدعونا كذلك إلى الدراسة والتحقيق، لما يقع أحيانا من تقعيد العلماء لبعض القواعد، مع عدم التقيد بها في التطبيق، كما وقع لعدد من المحدثين والمؤرخين والمفسرين والفقهاء والأصوليين.. حيث وضعوا لأنفسهم ولمصنفاتهم شروطا وضوابط، ثم أخلوا بها، كما هو واقع في موضوعنا؟! فما حقيقة ذلك؟ وما أسبابه؟

مراجع البحث

  1. الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، لشهاب الدين القرافي – بعناية عبد الفتاح أبو غدة – نشر دار البشائر الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت – الطبعة الثانية، 1416 هـ – 1995 م
  2. أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي المعافري – بعناية محمد عبد القادر عطا – نشر دار الكتب العلمية ببيروت – الطبعة الثالثة، 1424 هـ – 2003 م
  3. إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة – مطبعة كردستان العلمية بمصر / 1329ه
  4. الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار وشرحُ ذلك كله بالإيجاز والاختصار، لابن عبد البر النمري القرطبي- تحقيق عبدالمعطي أمين قلعجي – نشر دار قتيبة بدمشق ودار الوعي حلب – الطبعة الأولى 1414هـ / 1993م
  5. الإشراف على نكت مسائل الخلاف، للقاضي عبد الوهاب البغدادي -تحقيق الحبيب بن طاهر – نشر دار ابن حزم – الطبعة: الأولى، 1420هـ / 1999م
  6. البرهان، لإمام الحرمين – نشر دار الوفاء المنصورة، مصر – الطبعة الرابعة، 1418 – تحقيق عبد العظيم الديب
  7. الجامع لمسائل المدونة لأبي بكر بن يونس الصقلي- تحقيق مجموعة باحثين – نشر معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى – الطبعة الأولى، 1434 هـ / 2013م
  8. التحرير والتنوير: تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد، لمحمد الطاهر ابن عاشور – الدار التونسية للنشر / 1984ه
  9. ـ تعظيم قدر الصلاة –لمحمد بن نصر المَرْوَزِي – تحقيق عبد الرحمن الفريوائي – مكتبة الدار بالمدينة المنورة – الطبعة الأولى/ 1406ه
  10. التنبيه على مبادئ التوجيه، لابن بشير التنوخي المهدوي – تحقيق: الدكتور محمد بلحسان – نشر دار ابن حزم، بيروت – الطبعة الأولى/ 1428 هـ / 2007 م
  11. التوضيح في شرح المختصر الفرعي لابن الحاجب، للشيخ خليل بن إسحاق الجندي – – تحقيق أحمد بن عبد الكريم نجيب – نشر مركز نجيبويه للمخطوطات وخدمة التراث – الطبعة الأولى، 1429هـ / 2008م
  12. جامع البيان، للطبري – تحقيق أحمد شاكر ـ مؤسسة الرسالة ـ 1420/2000
  13. الجامع لعلوم الإمام أحمد – نشر دار الفلاح للبحث العلمي وتحقيق التراث، الفيوم – جمهورية مصر العربية – الطبعة الأولى، 1430 هـ / 2009 م
  14. الحاوي الكبير لأبي الحسن الماوردي – نشر دار الفكر ـ بيروت = د ت
  15. روضة المستبين في شرح كتاب التلقين لابن بُزيزة التونسي – تحقيق: عبد اللطيف زكاغ – نشر: دار ابن حزم الطبعة الأولى، 1431 هـ / 2010 م
  16. شرح ابن ناجي على متن الرسالة لابن أبي زيد القيرواني، لابن ناجي التنوخي القيرواني- أعتنى به: أحمد فريد المزيدي – دار الكتب العلمية، بيروت – الطبعة الأولى، 1428 هـ / 2007م
  17. الصلاة وأحكام تاركها لابن قيم الجوزية – نشر مكتبة الثقافة بالمدينة المنورة – د ت
  18. العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير لأبي القاسم الرافعي القزويني – تحقيق علي محمد عوض وعادل أحمد عبد الموجود – نشر دار الكتب العلمية، بيروت – الطبعة الأولى، 1417 هـ / 1997
  19. – العلم المنشور في إثبات الشهور، لتقي الدين السبكي – مطبعة كردستان العلمية بمصر/ 1339هـ
  20. عيون المسائل للقاضي عبد الوهاب المالكي – تحقيق علي بورويبة – نشر دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت – الطبعة الأولى، 1430 هـ / 2009م
  21. الفروق، أو أنوار البروق في أنواء الفروق لشهاب الدين القرافي – تحقيق خليل المنصور نشر دار الكتب العلمية ببيروت – 1418 هـ / 1998 م

الكامل في التاريخ، لابن الأثر الجزري – تحقيق عمر عبد السلام تدمري – نشر دار الكتاب العربي، ببيروت – الطبعة الأولى، 1417هـ / 1997م

  • مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن صالح العثيمين – نشر دار الوطن ودار الثريا – طبعة 1413هـ
  • مجموع الفتاوى، لابن تيمية – تحقيق عبد الرحمن بن محمد بن قاسم – نشر مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية 1416هـ/1995م.
  • المختصر الفقهي لابن عرفة الورغمي – تحقيق حافظ عبد الرحمن محمد خير – نشر مؤسسة خلف أحمد الخبتور للأعمال الخيرية – الطبعة: الأولى، 1435 هـ / 2014م
  • المعجب في تلخيص أخبار المغرب، لعبد الواحد المراكشي – تحقيق الدكتور صلاح الدين الهواري – نشر المكتبة العصرية، صيدا / بيروت – الطبعة الأولى، 1426هـ / 2006م
  • المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني – المحقق: صفوان عدنان الداودي – الناشر: دار القلم، الدار الشامية – دمشق بيروت – الطبعة: الأولى / 1412 هـ
  • الموافقات، للشاطبي – بتحقيق الشيخ عبد الله دراز – نشر دار المعرفة ببيروت – د ت.
  • مواهب الجليل في شرح مختصر خليل للحطاب الرُّعيني المالكي (المتوفى: 54هـ) – الناشر: دار الفكر الطبعة: الثالثة، 1412هـ / 1992م
  • النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأُمهات، لابن أبي زيد القيرواني – المجلد الأول بتحقيق عبد الفتاح الحلو – نشر دار الغرب الإسلامي ببيروت – الطبعة الأولى/ 1999م
  • الوسيط في المذهب الغزالي – تحقيق أحمد تامر – نشر دار السلام بالقاهرة – الطبعة: الأولى/ 1417ه

[1] جامع البيان 19/ 439

[2] لسان العرب 8/390

[3] التحرير والتنوير 30/ 565

[4] والحديث في موطأ الإمام مالك، باب الترغيب في القضاء بالحق

[5] تفسير الطبري: جامع البيان 6/544

[6] مجموع فتاوى ورسائل العثيمين 2/ 199) 200  

[7] منسوب إلى الحليفتين عثمان بن عفان وعمر بن الخطاب، رضي الله عنهما

[8] الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه

[9] أي: أخلفوها وحادوا عنها

[10] أحكام القرآن 3/ 474- 475

[11] الموافقات 2/ 539

[12] مروان بن الحكم، الخليفة الأموي، ت65ه….

[13] أي: يصعد المنبر ليخطب

[14] والسلطان هنا يعني كافة الولاة والقضاة وذوي الولايات العامة، أفرادا وهيئات.   

[15] إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة ص23

[16] المرجع السابق ص 95

[17] انظر هذه القاعدة بصيغها وأدلتها ومصادرها المختلفة في: (معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية) 17/483

[18] أي حكم الحاكم، وهو القاضي، وكل صاحب سلطة وولاية شرعية عامة

[19] أي: القرارات الصادرة عن الفقهاء والقضاة

[20] الفروق: أنوار البروق في أنواء الفروق، للقرافي 4/ 112 

[21] انظر فروق القرافي: “الفرق الرابع والعشرون والمائتان بين قاعدة الفتوى وقاعدة الحكم”، وفيه: أن صاحب الحكم له سلطة الإلزام، فحكمه ملزم للموافق والمخالف. وصاحب الفتوى ليس له إلا سلطة الإقناع العلمي؛ ففتواه غير ملزمة للمخالف.

[22] روضة المستبين في شرح كتاب التلقين 1/ 501

[23] النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات، لابن أبي زيد القيرواني 14/ 537

[24] الجامع لمسائل المدونة 2/ 403    

[25] البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة، لابن رشد الجد / 475

[26] أي على مدى ثلاثة أيام

[27] الأم للشافعي1/ 292

[28] الجامع لعلوم الإمام أحمد 5/ 525  

[29] الجامع لعلوم الإمام أحمد 5/ 527

شرح زروق على متن الرسالة 2/ 874

[30] الأم للشافعي 1/ 292  

[31] عيون المسائل للقاضي عبد الوهاب البغدادي ص 161    

[32] نهاية المطلب في دراية المذهب 2/ 651  

[33] التهذيب في فقه الإمام الشافعي 2/ 34

[34] ابن دقيق العيد، ت702هـ، وعدَّ مجددَ المائة السابعة، ومشهود له ببلوغ مرتبة الاجتهاد

[35]  شرح زروق على متن الرسالة لابن أبي زيد 2/874

[36] الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي، للماوردي 13/ 353

[37] الصلاة وأحكام تاركها لابن القيم ص: 38 

[38] الأم للشافعي1/ 292

[39] نهاية المطلب في دراية المذهب 2/ 651 

[40] البرهان 2/ 795     

[41] يقصد إمام الحرمين الجويني

[42] التحقيق والبيان في شرح البرهان 4/ 366 – 370

[43] والحديث أخرجه الشيخان وغيرهما

[44] أقصد التفريق بين قـتَلَ وقاتل..

[45] مواهب الجليل في شرح مختصر خليل 2/ 378 

[46] مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للشربيني [الشافعي] 2/ 140

[47] الحديث رواه مالك في موطئه، وابن ماجة في سننه

[48] العلم المنشور في إثبات الشهور ص23

[49] الفروق: أنوار البروق في أنواء الفروق، للقرافي 4/ 112 

[50] الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار وعلماء الأقطار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار وشرحُ ذلك كله بالإيجاز والاختصار 3/ 280 

[51] سنن أبي داود، باب الصوم في السفر

[52] [52] صحيح البخاري، باب أمور الإيمان. وسنن أبي داود، باب في رد الإرجاء

[53] صحيح ابن حبان 1/ 384

[54] الكامل في التاريخ 9/ 300

شاركها.

تعليق واحد

  1. البشير القنديلي on

    محاضرة قيمة تضمنت إفادات، وترجيحات مهمة تنم عن رسوخ الدكتور الريسوني، وتشربه لفكرة المقاصد نظرا وتأملا، وتنزيلا. ولن أكون مبالغا اذا قلت بأن الناظر في محتوى المداخلة بتأمل، سيلحظ حاجة الواقع المعاصر الى خلاصاتها، انها وسطية معتدلة جامعة بين العض بالنواجذ على الوحي ونصوصه، وبين نظر متبصر الى واقع الحياة وتعقيداته وتدافعاته. اخلص الى القول بأنها تشع ترشيدا وتسديدا…أجزل الله الثواب للشيخ النفّاع بعلمه، ونظره

Exit mobile version