( إشكالية النسخ وتداعياتها عند الطاعنين في السنة النبوية من خلال كتاب
“إشكالية التعامل مع السنة “للدكتور طه جابر فياض العلواني) .
د.محمد خروبات
أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش
………………………………..
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
1- الشكر والمناسبة
أشكر مركز المقاصد للدراسات والبحوث في شخص رئيسه فضيلة الأستاذ الحسين الموس ، كما أتوجه بالشكر إلى جمعية الرميصاء للتنمية النسوية وإلى اللجنة المنظمة التي سهرت على إنجاز هذا الملتقى العلمي لأمرين خَيِّرين :
الأول في تنظيم نشاط علمي له وجاهته وضرورته وهو ( دعاوى الطاعنين في السنة النبوية في ميزان النقد العلمي) ، والثاني إهداء هذا العمل لأحد أساتذة علم الحديث وهو الدكتور محمد السايح رحمه الله ، وقد آثرت أن تكون مداخلتي بعنوان( إشكالية النسخ وتداعياتها عند الطاعنين في السنة النبوية من خلال كتاب”إشكالية التعامل مع السنة “للدكتور طه جابر فياض العلواني) .
2- الإشكال والمقصد :
الطعن في السنة يتم من قبل فئتين : فئة جاهلة، متطفلة ، لا تفرق بين معنى الحديث والأثر، ولا بين الرواية والخبر، همها هو النيل من السنة النبوية ، ولا نشك في كون هؤلاء لا زاد لهم من العلم والفهم ، فهؤلاء لا نقصدهم .
أما الفئة الثانية ، فهي فئةٌ من الباحثين ، تسلحون بالعلوم الإنسانية ،ولهم مُسحة من العلوم الشرعية ، كلّما وجدوا ثغرة قديمة وسعوها ونفذوا منها ، وغالبية هؤلاء من القرآنيين ، وبعض الباحثين العلمانيين ، وآخرين لهم تخصصات في بعض العلوم الشرعية مثل : الحديث ، والتفسير وعلوم القرآن والفقه ، أصول الفقه، والمقاصد ، والفكر الإسلامي ، والحضارة الإسلامية ، والفلسفة الإسلامية ، وعلم الكلام، والعقيدة ، وتاريخ الأديان وحتى اللغة العربية، والسنة النبوية إنما تعاني من هؤلاء ، ووطأتهم عليها أشد .
وموضع الكلام هو نسخ القرآن بالسنة ، وسأناقش فيه بعض الأفكار التي بثها الدكتور طه جابر فياض العلواني في كتابه ( إشكالية التعامل مع السنة النبوية) ، وسأبدأ من عنوان المؤلف .
يوحي الدكتور طه بأن هناك إشكالية في التعامل مع السنة النبوية بالتعميم ، وأظن أن المشكلة تخصه لوحده ولا يمكنه تعميمها على المسلمين من أهل السنة ،فلم تكن السنة مشكلة لا عند القدماء ولا عند المحدثين، والمشكلة إذا وُجدت فهي تُعالج بالعلوم ، ومجمل علوم السنة هي لحل المشكلات ، وعندنا من المصنفات في تراثنا الحديثي ما يثبت ذلك ، “تأويل مشكل الآثار” للطحاوي ، و ” تأويل مختلف الحديث ” لابن قتيبة ، و “مختلف الحديث للشافعي وغير ذلك ، أما الاستشكالات التي طرحا الدكتور جابر العلواني فبعيدةٌ عن كل هذا ، قد يكون مشكل التعامل مع السنة عند الشيعة الذين بتّوا من هذا الكثير منذ القدم ، واليوم نتقرّب إليهم بإثارة ما أثاروه ، والاجتهاد في توسيع ما قررّوه ،وقد اعتمد الدكتور طه جابر العلواني في كتابه هذا على مصادر كثيرة من كتب الشيعة ، منها عدة الأصول للطوسي ، ومعالم الدين للعاملي، ودروس في فقه أصول الإمامية لعبد الهادي الفضلي، ودراسات في علم الدراية للمامقاني وغير ذلك ، وقد يكون المشكل عند المستشرقين الذين كانت لهم رغبة قوية في إبعاد القرآن عن السنة، وهي التوصية التي أطلقها هاملتون جب في التمثيل ب ” صبيرة طومسون” ، وهو ما اعتمده فوزي إبراهيم في كتابه ” تدوين السنة” الذي اعتمد عليه الدكتور طه العلواني، فاقتران القرآن بالسنة يعطي للإسلام قوة ، فلا بد من التفريق أولا ، ثم الإجهاز على السنة ثانيا ، ثم تنحية القرآن من الوجود بعد ذلك، ولستُ في حاجة إلى توسيع الكلام في شعارات الشرّ الثلاثة التي تختفي حينا وتظهر في أحيان أخرى لمعرفتكم بها ، والمعروف لا يعرف، وقد تطور ذلك إلى إبعاد الشيعة وإخفاء المستشرقين وإظهار من ينوب عنهم باسم جديد وهم ( القرآنيون) ، الذين لم يأتوا بشيء جديد في الموضوع ، وقد اعتمد الدكتور طه العلواني على بعض إصداراتهم ومنها ” السنة النبوية حقيقة قرآنية” للمشتهري ، وملخص شبهتهم أن السنة هي ما أكده القرآن ، وكل ما جاء في السنة ولا يوجد في القرآن فلا عبرة به ولو كان صحيحا، وهي شُبهة ما سُبقوا إليها . على هذا الحال يتنزل كتاب الدكتور طه جابر فياض العلواني ، والرجل عرفته وخبرته وتعاملت معه عن قرب حتى أنه فاتحني مرة في مراجعة هذا الكتاب بعد أن كان فكرة تراوده ، أما المواقع الإلكترونية للشيعة والقرآنيين والحداثيين والمستشرقين فكانت من بين مصادره ومراجعه ،فأي إشكال يتحدث عنه الدكتور طه جابر العلواني إذا كان يُعاين السنة النبوية بعيون خصومها التقليديين ؟ !
محاولتي مع هذا الكتاب لا تتجاوز قضية النسخ ، ولو أن ما أثاره من قضايا وشبهات تستحق التوقف ، ويمكن أن نصل فيه إلى ضعف حجم الكتاب لو أردنا المتابعة النقدية ،ولا أنكر أن من الباحثين المتخصصين من تصدّى له بالنقد ،وأقصد المحاولة التي قام بها الدكتور أحمد جمال أبوسيف في عمل بعنوان( دراسة حديثية تحليلية نقدية لكتاب إشكالية التعامل مع السنة النبوية) ، والكتاب مطبوع وموجود .
3- شبهات الدكتور فياض العلواني حول النسخ .
أولا : قام الدكتور طه العلواني بجرد عدد من الشواهد والآثار ، عرضها عرضا وسردها سردا ولم يعلق عليها تعليقا دقيقا مقنعا ، انظر الصفحات من 126 على 128 ،ومن 199 الى 204.
ويعلق قائلا: ( وهذا القول كله ما كان من الممكن بحال من الأحوال أن يقبل في جيل التلقي ، وما من شك عندي أن هذا القول لو ظهر في عهد أبي بكر أو عمر أو علي ، أو بلغ أسماع أم المؤمنين عائشة لما سلم قائلوه من العقوبة والتعزير والرفض والتنديد، فضل أن يقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد يأمر بشيء الناس ثم يخالف ما أوحي إليه بزيادة أو نقص أو سواهما ) .
أقول: هذا هذيان من الدكتور جابر العلواني، وتسطيح للمعرفة ، وهؤلاء الذين ذكرهم من الصحابة وأمهات المؤمنين هم رواة النسخ بكل أشكاله ، بما فيه نسخ بعض ما جاء في القرآن من أحكام بالسنة ،كما ستقف عليه فيما يأتي من بيان ، ولا أدري فلو وُجِدَ طه جابر فياض العلواني في عهد الصحابة والخلفاء الراشدين، وأقرّ في عهدهم بأن السنة لا تستقل بالأحكام ، وأن رتبتها لا يجب أن تكون هي الثانية بعد القرآن كما قعقع في الصفحة 208 ، وأنها تبعا لذلك غير ناسخة لجلدوه الحد ، فكيف يقحم الصحابة وأبابكر معهم وهو يعلم بأنه رد فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم والعباس بحديث من السنة ، جاءا يلتمسان ميراثهما بأحكام القرآن فرد طلبهما بحديث مرفوع لا يعلمانه ( لا نورث ، ما تركنا صدقة) .
ثانيا: زعمه أن القول بنسخ القرآن للسنة ونسخ السنة للقرآن هو وسيلة للهروب من التناقض الموجود بين القرآن الكريم والسنة المبينة ، وأن هذا التناقض لا يمكن حله إلا بالنسخ والإبطال والإزالة والنقل والرفع، وهي معاني النسخ التي قال بها من قال بالنسخ ، يقول: ( كأنهم بذلك يقرون أن يبطل الله ما جاء به رسوله الذي أذن له وأمر بطاعته ، ويبطل رسول الله ما جاء الناس به وتلاه عليهم وعلمهم إياه من كتاب الله، وهذا أمر في غاية الغرابة ) .
أقول : وهذا كلام لا يصدر من عالم متخصص في العلوم الشرعية ، كأني به شخص غريب ، لا ينتمي إلى حقل العلوم الشرعية ، فالنسخ في الإسلام رباني ، نسخ الإسلام الشرائع السابقة ، وليس إبطالا وفق الهوى ، ونسخ آيات من القرآن بأمره وليس تناقضا ، وقد أمر بها في وقتها ثم جاء بخير منها أو بمثلها ، وليس هذا إبطالا وفق الهوى ، ونسخ النبي صلى الله عليه وسلم أحكاما في أحاديث بأخرى ، وهو نسخ الحديث بالحديث ، ولم يكن هذا وفق الهوى ، ونسخ بعض الأحكام مما جاء به القرآن ، وهي قليلة جدا لكن البعض وسّع دائرتها أكثر من اللزوم ، فمن سمع نسخ السنة للقرآن يظن أن السنة تزيل القرآن وتقضي عليه وتمحيه ، وهو معنى منحرف لمفهوم نسخ السنة للقرآن ، إنما هي حالات محدودة جدا سنأتي عليها ، والذي فعل هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المشرع في أحكام الدين ، وسنته الصحيحة وحي بإقرار القرآن الكريم ( وما ينطق عن الهوى عن هو إلا وحي يوحى) ، فهناك السنة “التقريرية” من النبي صلى الله عليه وسلم وهناك السنة “المقرَّرة ” من الله تعالى .
ثالثا : ثم إنه يبني موقفه هذا على قول الإمام الشافعي ، وقد حاول تطويع كلام الشافعي ليشهد لمزاعمه ، يقول: ( وتوقف الإمام الشافعي في هذا إدراكا منه لهذا المآل ، إذ أدرك بثاقب نظره هذا المعنى ، فرفض القول بإمكان نسخ القرآن للسنة أو السنة للقرآن جملة وتفصيلا، وأتى بفكرة حاول أن يجعل منها وسطا ألا وهي فكرة ” العاضد” ، أي : إن القرآن ينسخ القرآن وما يأتي من السنن التي يشتبه أن تكون ناسخة وتكون معضدة للناسخ القرآني ،وكذلك الحال بالنسبة للسنة لا ينسخها القرآن ، بل يقع عنده النسخ بين سنة وسنة ، ثم يأتي القرآن ليُعضد السنة الناسخة ) .
لقد أوتي الدكتور طه قوة تحليلية جعلته يحور الكلام عن مواقعه ، وينسب للعلماء معنى هم غير قاصدين له ، لقد تعلق بقول الإمام الشافعي في أن السنة لا ناسخة للكتاب ، والنسخ الذي يتكلم عليه الشافعي غير النسخ الذي يتكلم عليه هؤلاء ، بل كلامه مقيد بالإزالة ، وتوهم التعارض ، كقول الإمام أحمد الذي رفض صيغة ( السنة قاضية على الكتاب) التي أطلقها يحيى بن أبي كثير : ( السنة قاضية على الكتاب وليس الكتاب قاض على السنة ) . حتى لا يفهم أحد منها أن القضاء بمعنى الصرع المأخوذ من قوله ( فوكزه موسى فقضى عليه) ، فقضى في عبارة يحيى بن أبي كثير تعني : البيان والتفسير والتوضيح والنسخ ،وكان يحيى يقول : ( والسنة أيضا تتنزل عليه بالوحي كما ينزل القرآن إلا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن) ، أما الشافعي وإن كان كلامه في الرسالة يوحي بما ذهب إليه العلواني فهو على غير إطلاقه ، فقد أخذ بمجمل الأحكام التي نسخت فيها السنة أحكاما من القرآن ،
إن استدلاله بأن الشافعي قال في الرسالة بأن السنة لا ناسخة للكتاب جملة وتفصيلا هو استدلال فاسد ، لم يفهم كلام الشافعي، وقد رام الإجمال ، ونحن ندعوه إلى التفصيل ، فالنسخ الذي يعنيه الشافعي هو الإزالة ، فالسنة مثلما تفصل مجمل القرآن وتقيد مطلقه وتخصص عامه وتبين أحكامه فهس تنسخ بعض الأحكام التي جاءت فيه ، وهي غير كثيرة على كل حال ، وهذا النسخ مرده إلى الوحي ، فالذي يوحي هو الله عز وجل ، والموحى إليه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهؤلاء ظنوا أن نسخ القرآن موكول للبشر باسم السنة ، وما ذهبوا إليه لا يتناسب مع الغيرة على القرآن ، ولا يتماشى مع الحقائق العلمية ، فالشافعي الذي نسبوا إليه هذا بالتأويل ثبت أنه أخذ بوحي السنة في رجم الزاني المحصن كما نقل عنه بالأسانيد الصحيحة ، وهو ثابت في كتابه الأم، وفي الرسالة ، وقد أخرج الشافعي حديث عبادة بن الصامت في الرجم ، وحكمه في السنة وليس في القرآن ، أقره الشافعي ولم يعترض عليه ، يقول: ( فدلت سنة رسول الله على أن جلد المائة ثابتٌ على البِكريْن الحرَّين ، ومنسوخ عن الثيبين ، وأن الرجم ثابت على الثيبين الحريَّن) . وقال كلاما آخر ليس هذا موطن الإطالة فيه .
يقول أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي : ( فقد أثبت الشافعي في هذه المسألة نسخ الكتاب بالسنة، لأنه أثبت الجلد مع النفي على البكرين عند نزول الآية في جلد الزانيين : الجلد بالكتاب والسنة ، والنفي بالسنة ، وكذلك أثبت الجلد مع الرجم على الثيبين عند نزول الآية بحديث عبادة ، الجلد بالكتاب والسنة، والرجم بالسنة ، وزعم أن ذلك كان أول حد الزانيين الثيبين ، ثم زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك رفع الجلد عن الثيبين وأثبت عليهما الرجم ، فأقر بأن الجلد الذي كان واجبا على الثيبين بكتاب الله عند نزول الآية قد رفعه النبي صلى الله عليه وسلم عنهما بعد ذلك ، فصار الجلد عنهما منسوخا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا بحمد الله واضح غير مشكل) .
وقد عمل بالرجم بالسنة علي بن أبي طالب ، وأفتى به أبي بن كعب ، وأخرج المروزي بسند صحيح إلى عامر قوله : ( جلد علي بن أبي طالب امرأة ثم رجمها ، فقال : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بالسنة) ، وكذلك فعل أبوبكر في رد طلب فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم حين جاءت تطلب الميراث .
فعن أي صحابة يتكلم هذا الرجل؟
رابعا: تقدم معنا أن العلواني يتمسك بقول الشافعي في نفي النسخ ، وقد وصفه بالإمام، وبصاحب النظر الثاقب ، لكنه لم يأخذ برأيه في القول بأن السنة وحي مثل القرآن ، ولم يأخذ برأيه في أن السنة تستقل بالأحكام ، ولم يأخذ برأيه في رتبة السنة بعد الكتاب ، بل لما تكلم عن رتبة السنة تجاه الكتاب أغار على الشافعي ورد كلامه وانتقده . لقد نقد الشافعي في الصفحة 17 من كتابه بكلام ملغوم وغير واضح ، من أن الشافعي ارتكن لبعض الوسائط المعرفية غير القرآنية، وعلل ذلك بأسباب خارجية ، وانتقده في الصفحة 110 ، وحرف كلامه في الصفحة 155 ، وانتقده نقدا مقززا في الصفحة 160و161 ، وفي الصفحة 294.
خامسا: حمّل العلواني المحدثين مسؤولية تهميش القرآن بصريح العبارة ، يقول: ( أما المحدثون وغيرهم مما ذهب على أن الكتاب والسنة في مرتبة سواء، أو أن السنة قاضية على الكتاب فإنهم لم يأخذوا بمبدأ عرض الحديث على القرآن بل هاجموه بشدة ، ومنعوا أن يكون هناك حديث صحيح مخالف للقرآن ، ويعبر ابن حزم عن رأيهم فيقول: لا سبيل على وجود خبر صحيح مخالف للقرآن أصلا، وكل خبر شريعة فهو مضاف على ما في القرآن ومعطوف عليه، ومفسر لجملته، وإما مستثنى منه مبين لجملته ، ولا سبيل إلى وجه ثالث) .
أقول : هذا كلام من لا ينتمي إلى هذه الملة ، كأنني أقرأ لمستشرق غريب عن الحقل، يعاين حقلنا المعرفي من موقع حقله .
هذا الرجل في هذا النص يحدد موقفه ، وموقعه ، وخصومه ، ومقاصده ،وما قاله بخصوص المحدثين لا يسلم ، المحدثون أصحاب صنعة علمية دقيقة ارتجل الرجل الكلام فيها ارتجالا ، ومن فضائحه ان تطاول حتى على ابن حزم ، ولم يقف عند أطروحته في نسخ السنة للقرآن ، التي فصل فيها تفصيلا، ولو كان ابن حزم حيا في هذا الوقت وقرأ هذا الكلام لرد عليه بما هو أشد .
إن غمز المحدثين لا يأتي من الجهة التي ينتقد منها العلواني بل الغرض هو تخليص القرآن من كل المرويات المتعلقة بالتفسير بالمأثور ، وهذا هو المقصد الذي يريد العلواني الوصول إليه، وله صلة بالتفسير على كل حال ، وهو موضوع آخر، وقد نص عليه في فقرة ( لا فضل للرواية على القرآن الكريم) .
4- هل السنة تنسخ القرآن؟
نعم، السنة تنسخ القرآن ، بالأدلة الشرعية التي وقعت، عمل بها النبي ﷺ وعمل بها صحابته، ونقول لنفاة النسخ: كيف تجوزون باسم المقاصد وفقه المآلات توقيف الحكم الشرعي أو العمل بخلافه إذا اقتضت المصلحة ذلك، وكان في تطبيق الحكم حرج لاعتبارات معينة، كيف نجوز ذلك للمجتهد الفقيه ولا تكون للنبي الرسول؟
هبْ أن محمدا ﷺ خالف حُكما في القرآن لمصلحة المسلمين ألا يدخل ذلك في السنة؟ وإذا دخل في السنة ألا يكون بمثابة نسخ لحكم من القرآن بحكم من السنة، ف (اِ۬لْوَصِيَّةُ لِلْوَٰلِدَيْنِ وَالَاقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِۖ حَقّاً عَلَي اَ۬لْمُتَّقِينَۖ) الواردة في قوله تعالى نسخها حكم السنة (لا وصية لوارث) ، وانتقال الإرث إلى ذوي القربى ثابت بالقرآن الكريم لكنه في حق آل البيت منسوخ بقوله ﷺ: (لا نورث، ما تركنا فهو صدقة) .
من ذلك:
في حديث ابن عباس رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب خطب فوق منبر رسول الله ﷺ فقال (إن الله بعث محمداً ﷺ بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل الله آية الرجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، رجم رسول الله ﷺ ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف) .
النسخ المتكلم عليه هنا قليل جدا ، إذا جمعنا ما نسخته السنة من أحكام القرآن نجدها أحكاما قليلة، وهذا النسخ مرده إلى الوحي، (مَا نَنسَخْ مِنَ اٰيَةٍ اَوْ نُنسِهَا نَاتِ بِخَيْرٖ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآۖ أَلَمْ تَعْلَمَ اَنَّ اَ۬للَّهَ عَلَيٰ كُلِّ شَےْءٖ قَدِيرٌ) ، فالذي يوحي هو الله عز وجل، والموحى إليه هو رسول الله ﷺ، وهؤلاء ظنوا أن نسخ القرآن موكول للبشر باسم السنة، وما ذهبوا إليه لا يتناسب مع الغيرة على القرآن، ولا يتماشى مع الحقائق العلمية .
ونزيد عليه أنه رضي الله عنه أخذ بحديث (لا وصية لوارث) في نسخ حكم الوصية للوالدين والأقربين، وقوى الحديث وأثبته، وقد تقدم، فالنسخ الذي يعنيه الشافعي ليس بالمعنى الاصطلاحي أن حكما شرعيا أزاله آخر.
وقد عمل بالرجم بالسنة علي بن أبي طالب، وأفتى به أبي بن كعب، وأخرج المروزي بسند صحيح إلى عامر قوله: (جلد علي بن أبي طالب امرأة ثم رجمها، فقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بالسنة) .
ومن شواهد نسخ السنة للقرآن قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم)، الواردة في قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اُ۬لْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ اُ۬لْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اِ۬للَّهِ بِهِۦ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ اَ۬لسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَي اَ۬لنُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالَازْلَٰمِۖ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌۖ) ، نُسخت بقوله ﷺ: (أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال) .
يقول ابن حزم في الإحكام: (وبهذا نقول وهو الصحيح، وسواء عندنا السنة المنقولة بالتواتر، والسنة المنقولة بأخبار الآحاد، كل ذلك ينسخ بعضه بعضا، وينسخ الآيات من القرآن، وينسخه الآيات من القرآن، وبرهان ذلك ما بيناه في باب الأخبار من هذا الكتاب، من وجوب الطاعة لما جاء عن النبي ﷺ، كوجوب الطاعة لما جاء في القرآن ولا فرق، وإن كل ذلك من عند الله بقوله تعالى “وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى”، فإذا كان كلامه وحيا من عند الله عز وجل، والقرآن وحي، فنسخ الوحي بالوحي جائز، لأن كل ذلك سواء في أنه وحي) ، وفند دعاوى القائلين بعدم الجواز بالحجج والبراهين القوية، ثم قال: (ومما يبين نسخ القرآن بالسنة بيانا لا خفاء به قوله تعالى: “فَأَمْسِكُوهُنَّ فِے اِ۬لْبُيُوتِ حَتَّيٰ يَتَوَفّ۪يٰهُنَّ اَ۬لْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اَ۬للَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاٗۖ” ، ثم قال عليه السلام: “خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم” ، فكان كلامه عليه السلام الذي ليس قرآنا ناسخا للحبس الذي ورد به القرآن، فإن قال قائل: ما نسخ الحبس إلا قوله تعالى “اَ۬لزَّانِيَةُ وَالزَّانِے فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٖۖ” ، قيل له: أخطأت، لأن هذا الحديث يوجب بنصه أنه قبل نزول آية الجلد، لأنه بيان السبيل الذي ذكره الله تعالى، وأمر لهم باتباع تلك السبيل، وأيضا فإن في الحديث التغريب والرجم، وليس ذلك في الآية التي ذكرت، فالحديث هو الناسخ على الحقيقة) .
5- الاستنتاجات العلمية :
ما يمكن الجزم به أن المنسوخ من القرآن بالسنة قليل جدا ، وقد ضُخم أكثر من اللازم ، وهو يكاد يوازي المنسوخ من القرآن بالقرآن ، ثم إن موضوع نسخ القرآن بالسنة وقع الاختلاف فيه ، وهو اختلاف محدود لا يمكن حمل كلام الدكتور طه العلواني عليه ، لأن القول بإبطال نسخ السنة للقرآن من قبل العلواني مبني على مجموعة من الآفات التي تحاول زعزعة السنة من مكانها تجاه القرآن ، فالعلواني لم يتوقف عند مسألة النسخ وحدها بل تعداها إلى الدعوة إلى إلغاء رتبة السنة تجاه الكتاب، واستقلالها بالتشريع، وتأويل تاريخها، وتحريف معاني نصوصها وشواهدها ، والنيل من قواعدها وعلومها بتأويلات لا تصمد أمام النقد الحديثي الصارم ، وغمز اعلامها الكبار الذين خدموها وشيدوا صرحها ، وهو ما كان يخاف منه الدكتور طه قيد حياته، فإنه كان يتجنب المصادمة مع المحدثين، وإذا ربطنا كلامه مع كلام المستشرقين والشيعة والحداثيين والقرآنيين أدركنا أنه كان يعاين الموضوع بعيون غيره كما بيناه في مطلع هذا المقال.
والأحكام التي نسخت فيها السنة القرآن قليلة لا تتجاوز أصابع اليد ، ومنها :
– قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا وصية لوارث) نسخت قوله تعالى : ( الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين) .
– قوله عليه السلام: “خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم” ، نسخت قوله تعالى : ( واللاتي ياتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعةً منكم ، فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهنّ سبيلا) .
– قوله عليه السلام : (أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال) ، نسخت مطلق الآية الكريمة (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اُ۬لْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ اُ۬لْخِنزِيرِ وما أهل لغير الله به ) .
– وقوله ( لا نورث ما تركنا صدقة ) .
– قوله صلى الله عليه وسلم : ( كل ذي ناب من السباع فأكله حرام ) ، نسخ قوله تعالى : ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعَمُه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس) .
وكل هذه الأحكام لا تلحق بالقرآن قبحا ، ولا نقصا، ولا تؤثر في اكتماله وعدم تفريطه في الأحكام بل هي منفعة كلها، وسماحة كلها ، ومصلحة كلها ، فكيف لا يتم الاعتراض على الأحكام المقررة بالإجماع وبالقياس وبالمصلحة المرسلة وبالقاصد والأعراف وتقوم حملة شعواء على ما نسخته السنة ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه) ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه.
5- مصادر ومراجع البحث
– إشكالية التعامل مع السنة النبوية للدكتور طه جابر فياض العلواني ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، الطبعة الأولى 1435ه/2014م.
– السنة لمحمد بن نصر المروزي (294ه)، بعناية سالم بن أحمد السلفي، مؤسسة الكتب الثقافية، الطبعة الأولى 1988م.
– الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم الأندلسي (ت 456ه)، تحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت لبنان.
– تفسير القرآن العظيم لأبي الفداء إسماعيل بن كثير (ت 774هـ)، الجزء الأول، دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، طبعة سنة 1980م.
– الرسالة لمحمد بن إدريس الشافعي (ت 204ه) ، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، طبعة 1309ه.
– سنن أبي داود السجستاني ( ت 275ه) ، تحقيق محيي الدين عبد الحميد ، المكتبة العصرية ،صيدا، بيروت ، لبنان .
– صحيـح البخـاري للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري بشرح الحافظ ابن حجر العسقلاني، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي وعبد العزيز عبد الله بن باز، منشورات دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الجزء السادس كتاب التفسير. طبعة 1379هـ .
– صحيح مسلم للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، نشر وتوزيع رئاسة إدارات البحوث العلميـة والإفتـاء والدعـوة والإرشـاد بالمملكة العربية السعودية، طبعة 1400هـ- 1980م.
– علمية علم تفسير القرآن الكريم وقضاياه ، محمد خروبات، المطبعة والوراقة الوطنية بمراكش ، الأولى 2024م.
– مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (ت 241ه)، تحقيق الشيخ شعيب الأرناؤوط وعادل مرشد، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1995م. وطبعة أخرى بالأوفسيط، دار صادر، بيروت، لبنان.
6- فهرس المحتويات
1- الشكر والمناسبة
2- الإشكال والمقصد
3- شبهات العلواني حول النسخ
– الشبهة الأولى
– الشبهة الثانية
– الشبهة الثالثة
– الشبهة الرابعة
– الشبهة الخامسة
4- الاستنتاجات العلمية
5- المصادر والمراجع
6- فهرس المحتويات