منذ أكثر من نصف قرن، سادتِ العالـمَ الإسلاميَّ موجةٌ عارمة من سلفية مشوهة، تتسم بكثير من السطحية وضيق الأفق، وتتسلح بزاد وفير من التنطع والتشديد والرعونة.
وقد تميزت هذه السلفية المزعومة بعدة آفات وسلبيات ([1])، من أبرزها:
- الجفاء والعداء للمذاهب العقَدية السنية الكبرى، وتبديعُ أئمتها وأتباعها، وإخراجُهم من دائرة أهل السنة،
- معاداة كافة المدارس والمناهج الصوفية، وتكفير بعضها، وتضليل سائرها، وتشويه خاصتها وعامتها.
وقد بدأت هذا الموجة اليوم تنكسر وتنحسر، وظهر عَوارها وضررها، وبدأ المتدينون وأهل العلم والدعوة يتحررون من سطوتها، وينظرون من خارج أسوارها وحُجُبها.
وصاحب هذا البحث – الدكتور أبو القاسم عميري – هو أحد رواد هذا التحرر والانعتاق، فقد اقتحم مبكرا هذا المجال، الذي ظل إلى وقت قريب محاصرا بالأشواك والتشكيكات والاتهامات.
وإن من علامات التوفيق للمؤلف، دخوله هذا الميدان من باب (الموافقات)، فكانت رفقته مأمونة، وصحبته موثوقة مضمونة؛ إنها رفقة الإمام الشاطبي وصحبتُـه.
وإمامنا أبو إسحاق الشاطبي هو رمز للتحقيق والإنصاف، كلما اشتد التنازع والاختلاف، كما هو الشأن في موضوع الصوفية والتصوف. ولعلي لم أرَ الشاطبيَّ أشدَّ تحريا وتأنيا في تحقيقاته، وأشدَّ إنصافا وعدلا في آرائه وأحكامه، وأشدَّ حذرا واحتياطا في عباراته، كما رأيتُه حين يتحدث عن التصوف وأهله، من المتقدمين ومن المتأخرين. إنه نموذج وإمام في هذا الطريق الصعب الثقيل على النفوس.
ولهذا سرني غايةَ السرور أن يدخل الدكتور أبو القاسم ميدانَ التصوف من باب الشاطبي وبرفقته، وأن يحدثنا عن التصوف من خلال فكر الشاطبي ومنهجه.
ومن أبرز ما يُـلحُّ عليه الشاطبي ويكرره: ضرورة التمييز بين التصوف الحق الأصيل، وما طرأ عليه وعَـلِـقَ به – هنا وهناك – من آفات وانحرافات، ومن أدعياء ودخلاء.
وقد كان يرى – بحق – أن الاختلالات الطارئة في دنيا المسلمين، لم تكن محصورة في التصوف وأهله، بل أصابت علوما شرعية أخرى؛ كالفقه وأصول الفقه وعلم الكلام.. ولذلك كان رحمه الله يؤْثر الاعتماد على العريق الأصيل النقي، من علوم الدين وأصوله ومقاصده وتطبيقاته، واتخاذَه معيارا وميزانا وأنموذجا.
وحتى البدع التي شاعت في أهل التصوف، وأصبحت تهمتَهم الكبرى، يرى الشاطبي أن من أصول التصوف ومن أسباب ظهوره، تميز أهله بالبعد عنها والبراءة منها.. وقد كتب في (الاعتصام) فصلا قال فيه: “ما جاء في ذم البدع وأهلها عن الصوفية المشهورين عند الناس”.
ثم قال: “وإنما خصصنا هذا الموضع بالذكر – وإن كان فيما تقدم من النقل كفاية – لأن كثيرا من الجهال يعتقدون فيهم (أي في الصوفية) أنهم متساهلون في الاتباع، وأن اختراع العبادات، والتزام ما لم يأت في الشرع التزامُه، مما يقولون به ويعملون عليه، وحاشاهم من ذلك أن يعتقدوه أو يقولوا به. فأول شيء بنَوا عليه طريقتهم اتباعُ السنة واجتناب ما خالفها، حتى زعم مذكرهم وحافظ مأخذهم وعمود نحلتهم، أبو القاسم القشيري، أنهم إنما اختُصوا باسم التصوف انفرادا به عن أهل البدع. فذكر أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتسَمَّ أفاضلهم في عصرهم باسمٍ عَلَمٍ سوى الصحبة؛ اذ لا فضيلة فوقها. ثم سمي من يليهم التابعين، ورأوا هذا الاسم أشرفَ الأسماء. ثم قيل لمن بعدهم: أتباع التابعين. ثم اختلف الناس وتباينت المراتب، فقيل لخواصِّ الناس ممن له شدةُ عناية في الدين: الزهادُ والعُبَّاد. ثم ظهرت البدع، وادعى كل فريق أن فيهم زهادا وعبَّادا، فانفرد خواصُّ أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله، الحافظون قلوبهم عن الغفلة، باسم التصوف. هذا معنى كلامه. فقد عَدَّ هذا اللقبَ مخصوصا باتباع السنة ومباينة البدعة. وفي ذلك ما يدل على خلاف ما يعتقده الجهال ومن لا عبره به من المدعين للعلم”[2].
ثم قال الشاطبي: “وفي غَرضي – إن فسح الله في المدة وأعانني بفضله ويسر لي الأسباب – أن ألخص في طريقة القوم أنموذجا يُستدل به على صحتها وجريانها على الطريقة المثلى، وأنه إنما داخلتها المفاسد وتطرقت إليها البدعُ، من جهة قوم تأخرت أزمانهم عن عهد ذلك السلف الصالح، وادَّعَـوا الدخول فيها من غير سلوك شرعي ولا فهم لمقاصد أهلها، وتقَوَّلوا عليهم ما لم يقولوا به، حتى صارت في هذا الزمان الأخير كأنها شريعة أخرى غير ما أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم”[3].
لقد كان الشاطبي يتشوف ويريد تحرير “أنموذج” للتصوف الشرعي الأصيل، أنموذجٍ يحدد فيه – بل يجدد به – للتصوف قواعده ومقاصده. ولكن الظاهر أنه “لم يفسَحْ له في المدة”، وأدركه أجله قبل تحقيق تلك الأمنية، فبقيت أمانة في ذمة مَن بعده.
وأحسب أن الله تعالى قد قيض لهذا الغرض وهذه الأمنية الشاطبية من يقوم بها، بحسب ما يسر الله له، وهو الفقيه الصوفي الشيخ أحمد زروق، وخاصة في كتابه الفذ (قواعد التصوف).
منذ نحو عشرين عاما قرأت ما تيسر لي من كلام الشيخ زروق، وخاصة من كتاب (القواعد)، ولم أقرأ الكتاب كاملا إلا في السنوات الأخيرة. وقد كان الشيخ رحمه الله يستوقفني ويثير انتباها بقواعده ومقاصده، فكنت أقول في نفسي: “إني لأجدُ ريحَ الشاطبي لولا أن تفنِّدون”. وكنت أتساءل: هل اطلع أحمد زروق على مؤلفات الشاطبي؟ لكني كنت أنشغل وأمضي وأنسى الموضوع، حتى كانت آخر مرة قرأت فيها (قواعد التصوف)، فوجدته ذكر الشاطبي واستشهد به في موضعين من الكتاب..[4] .
فها هي أمنية الشاطبي قد وجدت – وما زالت تجد – من يخدمها ويجلِّيها ويحقق مقاصدها، من الشيخ أحمد زروق رحمه الله، إلى الدكتور أبي القاسم عميري وفقه الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أحمد الريسوني
الدوحة يوم الخميس فاتح ربيع الآخر 1441هـ / 28 نونبر 2019م
[1] ولها إيجابيات كثيرة لا تنكر، ولكنها كانت {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثا} [النحل: 92]
[2] الاعتصام 1/89
[3] الاعتصام 1/90
[4] في القاعدة 119 والقاعدة 127
- طلب كتب المركز من الدار المغربية للنشر والتوزيع: بالدار البيضاء
- الهاتف: 00212680804682
- البريد الإلكتروني: [email protected]